إذا كانت الكتابة تأخذ معناها من القراءة، فإن الصورة تأخذ قيمتها من المشاهدة. حتى قيل انه وبسبب الثورة التكنولوجية، أصبحت الأجيال الحالية تفضّل المشاهدة على القراءة. لا تشذ اسرائيل عن هذه القاعدة فهي تفضل المشاهدة على الخبر المكتوب، لذلك تطالب بالفيديو الذي صوّره أحد عناصر الوحدة الهندية التابعة للقوات الدولية في جنوبلبنان، وذلك غداة عملية "حزب الله" في 7 تشرين الأول أكتوبر الماضي، التي أدّت الى أسر 3 جنود اسرائيليين. ماذا يحوي الفيديو؟ مدّة الشريط 30 دقيقة. يُظهر سيارتي جيب مهجورتين مشابهة لسيارات الأممالمتحدة، وجنوداً من القوات الدولية يحاولون نقلهما، عندما تعترضهما عناصر مسلحة. كذلك يُظهر الشريط بقعاً صغيرة من الدم داخل الآليتين. من دون تحديد مصدرها لأن التصوير أتى بعد يوم واحد من العملية. وتبدو لوحات تسجيل مزورة لسيارات الأممالمتحدة، وبزتين لجنديين دوليين. إذاً لماذا تصرّ اسرائيل على الحصول على الشريط الأصلي؟ وما هي الفائدة الأمنية، أو الاستعلامية منه؟ وهل يحوي هذا الشريط على دلائل قد تساعد في الافراج عن الجنود الاسرائيليين الثلاثة؟ أو ربما يحوي على تفاصيل عملانيّة لهجوم المقاومة، قد تساعد اسرائيل لاحقاً في تجنب عمليات مماثلة؟ الجواب عن هذا السؤال هو ان الشريط يبدو واجهة لأهداف بعيدة المدى. ففي حدّ ذاته يبدو الشريط تافهاً في قيمته الاستخباراتية، خصوصاً ان اسرائيل ابتاعت الشريط من الجنود الدوليين قبل ان تعرف الأممالمتحدة حتى بوجوده. ما هي الأهداف الإسرائيلية؟ كل شيء يقوم على تغيير قواعد اللعبة القائمة، ومحاولة رسم لعبة جديدة مع قواعد مناسبة لإسرائيل. فاللعبة تتطلب على الأقل طرفين كي تقوم. فإذا ما اقتنع الطرفان بلعبة ما تقوم على قواعد ومبادئ معينة، استمرت اللعبة. لكن ما ان تتغير الأهداف لأي فريق، أو يزداد الثمن المدفوع في اللعبة الى درجة غير مقبولة، يعمد هذا الفريق الى تغيير قواعد اللعبة القديمة لتأسيس واحدة جديدة تناسبه. ويبدو الجنوباللبناني وكأنه المرشح الدائم كساحة تدور عليها أيّة لعبة جديدة تُرسم. فهو أي الجنوب، احتضن كل الألعاب الدموية حتى الآن، ولا تشذ مهمة "اليونيفيل" أو لا تخرج عن نطاق الألعاب والألعاب المضادة. فدخول القوات الدولية الى جنوبلبنان تم في اطار محاولة تغيير قواعد اللعبة التي كانت تدور آنذاك. فالهدف حينذاك كان وقف العمليات العسكرية الفلسطينية ضد اسرائيل. ويقال ان اسرائيل نسقت مع الولاياتالمتحدة قبل قيامها بعملية الليطاني 1978، ومما يؤكد هذا الأمر السرعة التي اتخذ فيها قرار مجلس الأمن 425، والسرعة التي تم فيها انتشار "اليونيفيل" في جنوبلبنان. والهدف كان بالطبع انشاء عازل أمني لحماية شمال اسرائيل. لم تؤد اللعبة الجديدة أهدافها اذ استمرت العمليات العسكرية ضد اسرائيل، فكا ما كان حتى اجتياح 1982. واتى هذا الاجتياح ليرسم لعبة جديدة مع قواعد مختلفة تكون بكاملها لمصلحة الدولة العبرية. انسحبت اسرائيل حتى الحزام الأمني لترسم لعبة جديدة مع قواعد مختلفة. لكن المقاومة عرفت كيف تلعب اللعبة على طريقتها بعد ان اختارت عقيدة قتالية لا تناسب ما تعوّد عليه جيش الدفاع الإسرائيلي وهو هجومي بامتياز ، فأنزلت به خسائر فادحة خصوصاً على الصعيد البشري. رداً على هذا الأمر حاولت اسرائيل معاقبة لبنان مرتين بطريقة قاسية، الأولى عام 1992 والثانية عام 1996، وفي الحالتين كان الهدف تغيير قواعد اللعبة السابقة تمهيداً لأوضاع جديدة. نتج عن الاعتداء الثاني عناقيد الغضب لعبة جديدة لم تطابق قواعدها المصالح الإسرائيلية، فبعد مجزرة قانا وبسبب الضغوط الدولية، وصمود الجيش والمقاومة، أتى تفاهم نيسان ابريل، وأدى تفاهم نيسان الى شرعنة المقاومة ككيان مستقل، لأنها أتت كمحاور رئيسي في اتفاق وقف النار. لكن وللمرة الأولى تقبل اسرائيل بموجب هذا الاتفاق بقتل جنودها بعد ان حُُددت منطقة العمليات العسكرية بين الطرفين. وبدا تفاهم نيسان في روحيته وكأن الأمر يحصل بين العدوين المقاومة من جهة، واسرائيل من جهة ثانية، خصوصاً ان اسرائيل معروفة في موقفها من المنظمات التي تعتبرها ارهابية من وجهة نظرها. لم تقبل اسرائيل بهذا الأمر فحاولت ضرب قواعد نيسان محاولة رسم لعبة جديدة، فكانت الاعتداءات المتكررة على البنى التحتية اللبنانية. صمد تفاهم نيسان على رغم الانتكاسات الخطيرة، وذلك حتى قرار ايهود باراك الانسحاب من جنوبلبنان. أراد باراك من قراره بالانسحاب رسم قواعد جديدة للعبة تتمثل بالخروج من المستنقع اللبناني أولاً، والاحتماء وراء الشرعية الدولية مدعومة من الولاياتالمتحدة ثانياً. وهو يكون بذلك اسقط نهائياً ما سمّي "بوديعة رابين"، المتعلقة بالانسحاب من الجولان السوري. ويقال ان هذه الوديعة كانت خدعة تكتيكية غير جدية هدفها تخفيف الخسائر البشرية في جنوبلبنان. بعد الانسحاب من جنوبلبنان وترسيم الخط الأزرق، اعتقدت اسرائيل ان اللعبة محددة ومضبوطة بواسطة القواعد الدولية التي تقوم على تطبيق القرار 425، وبالتالي انتشار الجيش اللبناني الأمر الذي سيجعل شمال اسرائيل آمناً. لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر لأن للبنان والمقاومة شروطهما في اللعبة الجديدة، وهما لا يقبلان ما يُرسم لهما، فكانت قنبلة مزارع شبعا. فماذا عن قواعد هذه اللعبة؟ تدور اللعبة الجديدة في الظروف الآتية: اللاعبون الأساسيون هم: لبنان " المقاومة، اسرائيل وسورية، يضاف اليهما الأممالمتحدة، الولاياتالمتحدة، المجموعة الأوروبية، ايران والدول العربية... الخ. ظروف اللعبة: لبنان والمقاومة يصرّان على لبنانية مزارع شبعا، كذلك سورية، اسرائيل والمجتمع الدولي يرفضان هذا الأمر لعدم توافر الوثائق القانونية التي تثبت ذلك. لذلك تعتبر المقاومة ان من حقها المقاومة عسكرياً لتحرير الأرض. تبدو اسرائيل مردوعة الى حد ما في هذه اللعبة لأن أي تصعيد كبير قد يؤدي الى قصف عمقها، الأمر الذي قد يفجر الوضع اقليمياً، وهذا ما لا ترغب به أو تريده أميركا. فالتفجير الاقليمي قد يُخرج مصر والأردن من المنظومة السلمية، وقد يؤدي الى استعمال اسلحة الدمار الشامل، وأخيراً وليس آخراً قد يؤدي إلى خروج ايران والعراق من الطوق المفروض عليهما، والى تهديد أمن القوات الأميركية ومصالحها الموجودة في المنطقة، وقد يؤدي ايضاً الى دخول قوى جديدة الى الشرق الأوسط الأمر الذي قد يُنهي هيمنة "العم سام". بعد كل عملية عسكرية في مزارع شبعا، عمدت اسرائيل الى اتهام سورية وايران بدعم المقاومة، ولم تكن ترد عسكرياً في بادئ الأمر. بدأت المقاومة حديثاً بالتصدي للطائرات الاسرائيلية راسمة بذلك خطوة جديدة في البعد الجوي. وإذا ما استمر التصعيد والتصعيد المضاد على هذا المنوال، فإننا قد نشهد في المستقبل القريب صواريخ أرض - جو مقاومة، وهذا حق مشروع. هذه هي اللعبة المرسومة حالياً مع قواعدها، وهي طبعاً لا تناسب اسرائيل لأنها تفرغ انسحابها من جنوبلبنان من مضمونه، في الوقت الذي تستعر فيه الانتفاضة يوماً بعد يوم في قلب اسرائيل من دون حلِّ في الأفق. إذاً الحل هو في تغيير قواعد اللعبة، لكن كيف؟ وكيف تدخل الحملة الإسرائيلية الرسمية على الأممالمتحدة بسبب شريط الفيديو في هذا الاطار؟ عندما تضرب المقاومة في شبعا، تسعى اسرائيل الى ضرب القوات السورية، وحصل الأمر حتى الآن في مرتين. فهي تسعى الى التغيير الآتي: تضرب المقاومة، تردّ اسرائيل على المواقع السورية بعد ان تتهمها بدعم المقاومة، عبر تمرير الأسلحة المرسلة اليها من ايران. تسعى اسرائيل من هذا الاعتداء الى جرّ سورية الى حرب غير متكافئة في المكان والزمان، وفي الامكانات بسبب الخلل الاستراتيجي الذي يميل لجهة اسرائيل. تسعى اسرائيل الى اشتباك تقليدي مع سورية يُعيد اليها صورتها الردعية، وذلك بعد ان فقدتها ضد المقاومة. فالحرب ضد المقاومة لا تحقق الأهداف لأنها غير تقليدية، ولا يمكن الحسم فيها. سورية لا ترد لأن أية عملية مقاومتية سوف تصبُّ في مصلحتها، وسوف تبدو هذه العملية وكأنها الرد على الاعتداء على قواتها. ويذكر انه بعد الاعتداء على الرادار السوري جاء الرد الفوري من "حزب الله" على رادار اسرائيلي. وبدت العملية وكأن "حزب الله" يقول لإسرائيل ان اللعبة هنا، معنا، ونحن من يرسم قواعدها. وقد بدا الرئيس بشار الأسد بارعاً في تثبيت قواعد اللعبة القائمة بعدم الانجرار الى وضع غير ملائم، قد يسهم في تحقيق ما ترجوه اسرائيل. فهو لم يرد على الاعتداءات الأخيرة، وأعلن من فرنسالبنانية مزارع شبعا، الأمر الذي يحصر موضوع الصراع بين المقاومة واسرائيل، ويُخرج سورية من اللعبة المرئية على الأقل، وليضع اللوم على اسرائيل من قبل العالم العربي، والأوروبي ومن الولاياتالمتحدة في حال اعتدائها على أي موقع سوري في المستقبل. وقد بدا قراره بإعادة انتشار القوات السورية العاملة في لبنان وكأنه يصب في هذا الاطار. أين تدخل حملة الفيديو في عملية تغيير قوانين اللعبة؟ على رغم عدم أهمية ما يحويه شريط الفيديو، عمدت الحكومة الاسرائيلية الى شن سلسلة اتهامات ضد الأممالمتحدة. وتهدف اسرائيل من ذلك الى تغيير قواعد اللعبة وذلك بهدف تحقيق الأمور الآتية: احراج الأممالمتحدة وتشويه صورتها واتهامها بأنها لا تنفذ المهمة الموكولة اليها. وذلك على رغم ان تسليم الشريط لإسرائيل يناقض شرعة الأممالمتحدة المادة 25-7 التي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء من قبل الأممالمتحدة. استباق عملية التجديد لقوات "اليونيفيل" بهدف تحقيق الآتي: أولاً: محاولة تعديل خريطة انتشار قوات الطوارئ في جنوبلبنان في شكل يناسب اسرائيل، ويحد من عمليات "حزب الله". ثانياً: محاولة تعديل مهمة هذه القوات بأن تكون أكثر عسكرية ورادعة. زيادة الشرخ بين الأممالمتحدةولبنان خصوصاً ان العلاقة ليست على ما يرام، بعد الجدل القائم حول نشر الجيش. تبرير اي عمل عسكري تقوم به اسرائيل مستقبلاً في منطقة علميات القوات الدولية والهدف هو في خلق سابقة معينة في هذا المجال. وضع ضغوط على الدول المشاركة يؤدي الى سحب قواتها في وقت ما، الأمر الذي يؤدي الى الغاء المهمة من أساسها في مرحلة أولى، ونشر الجيش اللبناني في مرحلة ثانية. في الختام، يبدو ان لكل تغيير ثمنه وخصوصاً في مجال العلاقات الدولية، السلمية منها والحربية. ولا تشذ العلاقة بين العرب واسرائيل عن هذا الوضع، وهي التي اتسمت بالطابع الدموي بامتياز. فالمقاومة في جنوبلبنان كانت وسيلة لتغيير قواعد اللعبة خلال الاحتلال. وتشكل انتفاضة الأقصى الحالية ايضاً وسيلة تغيير اللعبة التي كانت قائمة بعد أوسلو، وهي مكلفة جداً، وسوف لن تتوقف عند هذا الحد. اذاً الموضوع موضوع تغيير، والصراع صراع ارادات، وما نأمله ان يكون التغيير لمصلحة الحق العربي، وبأقل ثمن ممكن، وذلك على غرار ما قاله الجنرال الأميركي باتون عن الحرب: "ان هدف الحرب هو ليس الموت في سبيل وطنك، بل هو في جعل الآخر العدو يموت في سبيل وطنه". * كاتب لبناني، وعميد ركن متقاعد.