هناك ألف سبب ليعلن لبنان اليوم عيداً وطنياً، وألف سبب ليحتفل أهله والعرب بتحرير الجنوب، أول هذه و... آخرها الهزيمة التي منيت بها إسرائيل للمرة الأولى في تاريخ الصراع في المنطقة. وهناك ألف سبب لتخفف إسرائيل من أثر الهزيمة في الداخل والخارج فتشيد بالخروج "الآمن" بلا ضحايا، فيما سجل العالم للتاريخ اليهودي "يوم عار" لن ينسى كأنه يثأر من "أسطورة الجيش الذي لا يقهر"... فيما هزم الأميركيون في فيتنام وبعدهم السوفيات في أفغانستان. ماذا بعد؟ كيف يجني لبنان ثمار هذا النصر ويحافظ عليه كما ربح المواجهة؟ إن أول ما يدركه المعنيون، خصوصاً اللبنانيين والسوريين، أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة تبدلت فيها المعطيات والظروف والمعادلات، وقواعد اللعبة. لقد سبقت المقاومة الحكومة في دخول الأرض المحررة، والأهم من ذلك أنها أسقطت رهان المراهنين على "الفتنة"، وأقامت عيدها وأطلقت نار تصريحاتها الحماسية مما تفرضه المناسبة... واجتاز لبنان ساعات صعبة. ولا داعي للخوف على الجنوب ومنه. سقطت مقولة "الشريط الآمن" وعاد الوضع على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية كما كان عشية الاجتياح الكبير عام 1982، لكن المعادلة انقلبت فانتقل الخوف هذه المرة إلى الجانب الآخر من الحدود. لم يعد الجنوبيون أسرى الرعب والغضب الإسرائيليين، ولم يعد اللبنانيون في الداخل أسرى خوف الحرب الآتية من الجنوب. سكان المستوطنات يسكنهم هذا الكابوس، وتزيدهم هواجس الاحتفالات بالنصر على بعد أمتار تحت أعلام المقاومة وبنادقها. هل يقف الأمر عند هذا الحد؟ هل يقوم سلام بارد كما في الجولان، فلا تنفذ المقاومة تهديداتها ولا ترد إسرائيل بضرب أهداف ومصالح تتجاوز لبنان هذه المرة إلى سورية، أم يقوم نوع من "الحرب الباردة" التي لا تخلو من مناوشات يحكمها الخوف من انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة تطيح مسيرة السلام برمتها؟ الجنود المنسحبون مسرورون بالخروج من "الجحيم" اللبناني، لكن القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي لم تعرف الخسارة من قبل لن تهضم الهزيمة بسهولة. وهي هيأت الجو للانتقام ليس بالتصريحات والتهديدات الصريحة لسورية ولبنان، بل أخذت المجتمع الدولي إلى جانبها من قبل أن تنسحب، فأعلنت رضوخها لتنفيذ كل شروط القرارين 425 و426، ولم يبقَ أمام الأمين العام للأمم المتحدة سوى إعطاء مجلس الأمن "صك براءتها"! ولم يبق لها سوى انتظار الذريعة المناسبة لمحاولة استعادة هيبتها أعتى قوة عسكرية في المنطقة. وقد شاركتها واشنطن في التهديد العلني، وساعدتها عواصم غربية أخرى بالتحذيرات الديبلوماسية. وإذا كان مطلوباً ألا يوفر لبنان ومقاومته مثل هذه الذريعة العسكرية، فإن المطلوب من الحكومة اللبنانية ألا توفر لإسرائيل التنعم في أحضان المجتمع الدولي. بل عليها أن تسلك خط كسب المجتمع الدولي، كما أشارت وتشير التصريحات الهادئة للرئيس سليم الحص الذي، وإن سجل حق لبنان في مزارع شبعا، يدرك تماماً ان مجلس الأمن بموافقته على تقرير الأمين العام يظهر بوضوح أن موقف المنظمة الدولية أشد تماسكاً من الموقفين اللبناني والسوري من هذه المسألة. لذلك قد يبدو من العبث، في الوضع الحالي، التوهم بأن مواصلة القتال لتحرير المزارع سيدفع مجلس الأمن إلى إعادة النظر في خريطة الإنسحاب لأن ذلك يتطلب طرح مهمة القوتين الدوليتين في الجنوب والجولان للبحث في هذه المرحلة. فضلاً عن أن فتح جبهة على حدود الجولان قد لا يريح سورية المنشغلة بتغييراتها الداخلية، والتي يطالبها مجلس الأمن وفرنسا خصوصاً، مثلما يطالبان لبنان وإسرائيل، بضمانات تسمح لقوة حفظ السلام بأن تمارس دورها في إقامة السلام والأمن الدوليين على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية... وبأن تمنع أعمال العنف في منطقة عملياتها. كما أنه ليس من مصلحة لبنان أن يقاوم رغبة المجلس في أن يتعاون الجميع مع قوات الأممالمتحدة وهي مقبلة على استحقاق التجديد بعد أسابيع! كما ليس من مصلحته أن يجعل مسألة المزارع منزلقاً يقوده إلى تحت خيمة القرارين 242 و338، وإن بدا أن هذه المسألة قد تعيد الربط بين المسارين. فحتى إيهود باراك ليس في وضع يسمح له بأن يقدم المطلوب في الجولان وهو يفاوض الفلسطينيين وائتلافه الحكومي يشارف على السقوط ولا يحتمل هزة ريح... بينما تصريحاته وتصريحات طاقمه العسكري والحكومي تحمل نبرة عالية من الغضب والتحفز. ومؤسسته العسكرية مقبلة على استراتيجية جديدة كما توعد في تصريحاته التي رافقت الإنسحاب. على المستوى الداخلي، على لبنان الرسمي، الغائب الأكبر عن الجنوب حتى الآن، أن يعجل في حضوره الإداري والأمني، فهو لو كان جاهزاً منذ الساعات الأولى لما كان خسر بعض اللبنانيين ومنهم من لجأ إلى إسرائيل خوفاً. ومن يدري ربما شجع هذا الحضور الفاعل بعض الهاربين الأبرياء على العودة إلى حضن الوطن وعدالته بدل التشرد على ضفاف طبريا! ووجود لبنان الرسمي جنوباً يساعد المقاومة على أن تحافظ على صورتها فلا تغوص في تصفية حسابات ترفعت عنها حتى الآن، وهي أعلنت أنها تترك للدولة أمر إدارة المنطقة. وعلى اللبنانيين الذين التفوا حول مقاومتهم أن يؤجلوا الحديث عن سلاحها وعن... الإنسحابات الأخرى، فالمرحلة دقيقة لا تحتمل حسابات من هذا النوع في هذا الوقت بالذات، فليس مطلوباً من اللبنانيين أن يساهموا في تحويل انتصار الجنوب هزيمة لهم ولدمشق التي ساعدت في صنع هذا الانتصار. وليس من الحكمة أن يساهم أحد من اللبنانيين في سياسة الضغط على سورية، مثلما ليس من المصلحة أن يساهم أحد من العرب في عزلها والعمل على حصارها. ألا يكفي عزل العراق وقبله ليبيا؟