يترافق الجدل السائد في إيران حول الانتخابات الرئاسية الثامنة التي تجرى اليوم، مع حديث عن مستقبل تيار الإصلاح والدعوة إلى تجديد شباب الثورة الإسلامية. وذهب البعض إلى حد اعتبار الانتخابات الرئاسية الحالية استفتاءً ليس على شخص خاتمي وحسب، وإنما على مجمل السياسات الإصلاحية التي ينادي بها خاتمي ورفاقه. ولهذه الرؤية وجاهتها، فهذه الانتخابات بطبيعتها تمثل استفتاءً على شخص خاتمي كما تعكس جزئياً موقف الشعب الإيراني الهيئة الناخبة تحديداً من الأفكار التي يمثلها، لكنها في الوقت ذاته لا تعني إقراراً نهائياً بصحة هذه الأفكار على إطلاقها لسبب بسيط للغاية، هو أن هذه الأفكار وتلك السياسات التي يتبناها خاتمي لم تر النور بعد! بل إن خاتمي قدم للإيرانيين ما يشبه صك الغفران عندما اعترف بأن الجزء الأعظم من وعوده الانتخابية عام 1997 لم يتحقق، وعزا ذلك إلى كونه رئيساً بلا صلاحيات لكن يبدو أن خطوة خاتمي هذه لم تحظ باهتمام كافٍ من قبل المراقبين والمهتمين بالشأن الإيراني. فالمُشاهد الآن أن هناك ربطاً مطلقاً بين عملية التصويت كصورة للمشاركة السياسية وتعبير عن رأي الشعب في اختيار شخص رئيس الجمهورية الإسلامية، وبين مستقبل تيار يتغلغل بسرعة بين الايرانيين. وهو ربط ينطوي على كثير من المبالغة، فضلاً عن أنه يستبعد متغيرات مهمة ستلعب دوراً رئيسياً في تحديد مسار التوجه التجديدي الإصلاحي المتنامي في إيران، إضافة الى عوامل أخرى قائمة فعلاً تتدخل في كيفية اختيار رئيس الجمهورية. ونبدأ من هذه الأخيرة، فمعروف أن اختيار شخص رئيس الجمهورية يجرى عبر الاقتراع المباشر من قبل المواطنين ذوي حق التصويت، وهو في إيران يبدأ من سن 16 عاماً، لكن في المقابل تنحصر دائرة الاختيار أمام الناخب في المرشحين الذين يوافق عليهم مجلس صيانة الدستور. اذ يقوم المجلس بمعايرة حال كل من المرشحين على الشروط المُفترض توافرها في رئيس الجمهورية، وهذه الشروط واضحة ومعروفة، لكن معاييرها وكيفية قياسها تخضع في النهاية لتقويم ورؤية أعضاء المجلس. وحول ما بعد الانتخابات، هناك رأي يعتبر أن الانتخابات الرئاسية الحالية ستعطي بالضرورة مؤشراً على مستقبل تيار الإصلاح والتجديد في إيران، بل يذهب البعض إلى الاستناد إلى النسبة التي سيفوز بها محمد خاتمي باعتباره الرئيس المتوقع في استشراف ازدهار أو اندحار التجديد والإصلاح فكراً وممارسة، وهنا تتجلى المبالغة في استنطاق الألفاظ بغير دلالاتها، وتأويل الظواهر إلى غير مضمونها. نعم ينبغي التسليم بأن العملية الانتخابية الراهنة تمثل بصورة ما استفتاءً على خاتمي وعلى حصاد سنوات حكمه الأربع الماضية، لكن نتيجة هذا الاستفتاء لا تعني بحال انتهاء التيار الإصلاحي أو احتضاره إذا لم يفز خاتمي أو حتى إن فاز بنسبة أقل من تلك التي حصل عليها في الثالث والعشرين من آيار مايو 1997. وفي الوقت ذاته لن يعني حصوله على مئة في المئة من الأصوات انتصاراً ساحقاً ماحقاً لخاتمي ورفاقه وسيطرتهم على مقاليد الأمور وكل كبيرة وصغيرة في إيران. المعنى، أن مستقبل التوجه الإصلاحي لا يتوقف كلية على ارتباط هذا التوجه بخاتمي. اذ توجد عوامل واعتبارات وأطراف أخرى تلعب دوراً جوهرياً في توجيه دفة الصراع السياسي الدائر حالياً في طهران. ومن أبرز هذه العوامل والاعتبارات موقع الرئيس في النظام السياسي. فبغض النظر عن فوز خاتمي أو غيره في الانتخابات فإن حدود الصلاحيات والسلطات المخولة له تحدُّ كثيراً من قدرته على إحداث التغيير او إيقافه إن أراد. أي أن الصراع الانتخابي الحالي يدور في التحليل الأخير حول منصب تنفيذي أكثر منه قيادي. فرئيس الجمهورية في هيكل النظام السياسي الإيراني أقرب ما يكون إلى منصب رئيس الوزراء في النظم الرئاسية مع صلاحيات أوسع قليلاً. فوفقاً للدستور الإيراني تعلو سلطة المرشد جميع السلطات المخولة لأركان ومؤسسات النظام الأخرى، ويشمل هذا المجالين التشريعي والتنفيذي. ثم بعد ذلك تأتي مؤسسات أخرى تفوق سلطاتها أيضاً رئيس الجمهورية، مثل مجلس تشخيص مصلحة النظام يرأسه هاشمي رافسنجاني، رئيس الجمهورية السابق ومجلس صيانة الدستور، ومجلس الرقابة على القوانين، ومجلس الخبراء. وبغض النظر عن خصوصية عمل ومجال اهتمام كل من هذه المؤسسات، فإن صلاحيات رئيس الجمهورية تأتي في مرتبة تالية لكل منها في مجالها، وباستثناء مجلس الخبراء الذي يتولى اختيار المرشد ومراقبة عمله وهي مهمة بعيدة من نطاق عمل رئيس الجمهورية، فإن أياً من المؤسسات الثلاث الأخريات تستطيع إلغاء سياسات وقرارات رئيس الجمهورية أو مجلس الشورى ووقفها أو على الأقل عرقلتها وإحالة الأمر إلى المرشد ليفصل فيه. نحن إذاً أمام منظومة سياسية متكاملة، بغض النظر عن خصوصيتها أو التوزيع النسبي للقوى والسلطات فيها، إن موقع رئيس الجمهورية فيها ليس على رأسها، إذ يأتي ترتيبه في هرم القوة ثالثاً أو رابعاً. والنتيجة الطبيعية المترتبة على هذا التوزيع النسبي للقوة أن يظل انعكاس الانتخابات الرئاسية ونتائجها أياً كانت منحصراً في إطار هذا التوزيع، بمعنى إن كان الفائز في الانتخابات خاتمي فإن هذا لا يعني بحال أن المرحلة المقبلة ستشهد طفرة أو قفزة نوعية في مسيرة التغيير مع ثبات العوامل والاعتبارات الأخرى أي لمجرد أن الرئيس المقبل من أنصار التجديد والإصلاح. والعكس: لا يعني فوز علي شمخاني - على سبيل المثال - أو غيره ممن قد يُحسبون على تيار المحافظين- انتهاء النزعة الإصلاحية الغالبة على المناخ السياسي في إيران حالياً، أو حتى أن يستطيع هذا الرئيس وقف عجلة تغيير سائرة بالفعل، ذلك أن مؤسسات وهيئات أخرى تشارك بدور رئيسي في صنع واتخاذ القرار ومباركته، وبدور رئيسي أيضاً في وأد قرار آخر أو رفع الشرعية عنه. وعلى رغم محاولات أنصار تجديد النظام الإسلامي الإصلاحيين، ليس من المتوقع أن تشهد صلاحيات وسلطات رئيس الجمهورية توسيعاً أو مزيداً من التدعيم على المدى المنظور، وكان بعض نواب مجلس الشورى الإسلامي حاول تمرير مشروع قانون يُعطى بمقتضاه إعطاء مزيد من الصلاحيات لرئيس الجمهورية، بهدف منح خاتمي فرصة أكبر في الولاية الثانية ليتمكن من تنفيذ أفكاره وتلبية الرغبة الشعبية بالتغيير. عامل آخر مرتبط بخاتمي يتدخل في تحديد مستقبل سياسة الإصلاح والتجديد، وهو موقعه وثقله داخل هذا التيار ذاته. وهنا تساؤل يفرض ذاته: هل خاتمي وهذا التيار كل لا يتجزأ؟ أي مجرد وجهين للعملة ذاتها، لا يصلح هذا إلا بذاك والعكس؟ وبعبارة أكثر وضوحاً ومباشرة، هل خاتمي مجرد إفراز لتصاعد الرغبة في التجديد لدى صفوف الإيرانيين، أم هذه الرغبة وُلدت على يديه ولم يكن هذا التيار ليوجد ويزدهر بالشكل القائم من دون وجود شخص كخاتمي؟ تحضرنا هنا المقارنة بين خاتمي وغورباتشوف صاحب "الغلاسنوست" و"البريسترويكا" في الاتحاد السوفياتي السابق، اذ رأى البعض أن الاتحاد السوفياتي كان في سبيله إلى التفكك والانهيار من الداخل سواء كان ذلك على يد غورباتشوف أو غيره، وفي هذا التوقيت أو قريباً منه سابقاً أو لاحقاً. في حين ظل الطرح المقابل وجيهاً وذا مبررات قوية، ومفاده أنه لولا وجود شخصية تملك مفاتيح التغيير، لم يكن باب التغيير ليُفتح. والحال الإيرانية ليست بعيدة بحال عن هذه المناظرة، لكن أهمية استحضار مثال الاتحاد السوفياتي تظهر من الفارق الزمني بين الحالين. فقد شهدنا في النموذج السوفياتي ما لا يزال خافياً علينا بالنسبة الى طهران. ذهب غورباتشوف وجاء يلتسن واستمر التحول بل تسارع، حتى إن غورباتشوف ذاته تعرض للاتهام بأنه يعرقل الإصلاحات ويكبل عجلة التغيير. وكأن البركان الذي رفع هو الغطاء عنه انفجر في وجهه هو أيضاً. ومع التسليم بوجود فوارق واختلافات بين النموذجين، فإن أمراً واقعاً لا يمكن إنكاره هو أن تبلور الدعوة إلى التغيير في الحالين تزامن تماماً مع بروز شخصية قيادية ارتبطت بها تلك الدعوة. وحتى الآن لا يزال خاتمي محل إجماع لدى هذا التيار ولم يظهر بعد بديل قوي يهُدد موقعه هذا. وكما من شأن هذا الثقل أن يقوي موقفه أمام المحافظين فمن شأنه أيضاً أن يُحمله مسؤولية كبيرة أمام أنصار هذا التيار على اختلاف مشاربهم وفصائلهم الفرعية التي انقسموا إليها. فلا تزال أصداء مشروع "تجاوز خاتمي" تتردد في أوساط الإصلاحيين، ولمن لم يسمع به هو فكرة تبناها بعض المغالين في التوجه الإصلاحي مفادها أن خاتمي ليس مدافعاً عن هذا التوجه بما يكفي وأنه لم يعد الشخص المناسب لقيادة هذا التيار، ومن المنتظر أن يظل هذا السيف مسلطاً على رقبة خاتمي من داخل تياره فور تقلده رئيساً لولاية ثانية، فستكون ولايته الأخيرة ولن ينتظر هؤلاء حتى نهايتها ليحاسبوه. إذاً الانتخابات الرئاسية الحالية ليست المحدد الأوحد لمستقبل خاتمي والإصلاح، والاعتماد عليها مؤشراً لذلك مضلل، وإلا لكانت الانتخابات التشريعية الأخيرة في شباط فبراير 2000 التي أتت ببرلمان ذي غالبية إصلاحية إيذاناً بسيطرة إصلاحية كاملة على مقاليد الأمور. حقيقة الأمر أن الانتخابات سواء كانت رئاسية أم تشريعية ليست سوى صورة من صور المشاركة السياسية. وهي في إيران وبحكم خصوصية النظام السياسي تظل مشاركة محدودة، وانعكاس نتائجها على أرض الواقع محكوم بموازين القوى وتوزيع الصلاحيات والسلطات بين مؤسسات ومناصب النظام، ومن الطبيعي أن يكون لها مردود على هذه التوازنات في المستقبل، لكن ليس في المستقبل القريب على أي حال. ً* كاتب وباحث مصري.