عجيبةٌ هي تفاصيل المشهد الايراني من الداخل بما يعج فيها من "تناقضات تكاملية" شبيهة بالفسيفساء، تثير الدهشة مثلما هو الحال في الطرفة الايرانية المعروفة عن وزير خارجية الاتحاد السوفياتي السابق ادوارد شيفاردنادزه لدى عودته من ايران الى موسكو نهاية الثمانينات بعدما اجتمع الى مؤسس الجمهورية الاسلامية الامام الخميني وكبار مسؤولي الدولة والثورة، واستغرابه التناقضات العجيبة. فهناك المرشد والرئيس، الحوزة الدينية والجامعة العصرية، الجيش والحرس الثوري، علماء الدين وأفندية السياسة، الى الفرس والعرب والعجم والترك والآذريين. قد يكون في دهشة شيفاردنادزه الكثير من الدعابة لكن تفاصيلها هي صورة للواقع الايراني. من هنا لم تكن برامج خاتمي الاصلاحية بعيدة من هذا الواقع سواءٌ في نجاحها أو في اخفاقها، في نموها وتطورها أو في انحسارها. لكن ما لا شك فيه "ان الرئيس الايراني صاحب العمامة السوداء والوجه الفتي والابتسامة الدائمة استطاع أن يملأ الدنيا ويشغل الناس على مدى السنوات الأربع التي توشك على نهايتها من ولايته الرئاسية الأولى"، وذلك بسبب رؤيته الدينية الانفتاحية، وبرامجه السياسية الاصلاحية، ولكونه ابن الثورة وهو فيها الآن رجل الدولة ومن هنا كان الاختصام فيه ومعه وعليه وكذلك الاتفاق. جاء خاتمي الى سدة الرئاسة في آيار مايو 1997 محمولاً بعشرين مليون ناخب ايراني صوتوا لصالحه، وهو الآتي من بين كتب ومجلدات المكتبة الوطنية في طهران، ليفوز فوزاً كاسحاً على رئيس البرلمان المحافظ حينها علي أكبر ناطق نوري الذي كان مدعوماً من أجهزة الحكم السياسية والاعلامية كافة وحتى أكبر الحوزات الدينية وصوِّر على أنه مرشح النظام. أذهلت هذه النتيجة الداخل والخارج، فاختلفت فيها القراءات وكان أبرزها اثنتان: انقلاب على الثورة أو انقلاب داخلها لاصلاحها وتطويرها. ويذكر أن القراءتين تلازمان حتى الآن طبيعة التجاذبات السياسية بين التيارين الرئيسيين، أي المحافظين والاصلاحيين، لكن بالترافق مع حصول عملية فرز كبيرة داخلهما من شأنها اعادة توزيع خريطة القوى على الساحة السياسية، وتنوع أساليب المواجهة وتعدد ساحتها. نجح الرئيس خاتمي على الصعيد الخارجي نجاحاً كبيراً قدّرته الأسرة الدولية عبر مصادقة الأممالمتحدة على اقتراحه إعلان العام 2001 عاماً لحوار الحضارات. واستطاع فتح الأبواب التي كانت موصدة أمام ايران على مصراعيها، خصوصاً في أوروبا والخليج. وبقيت الولاياتالمتحدة رهينة المحبسين تجاه ايران وهما ثنائية العزل السياسي والحصار الاقتصادي مع انقلاب الصورة لصالح السياسة الانفتاحية الايرانية. اخترق خاتمي عمق الغرب وخصوصاً المفكرين، وهو ما عاينته "الحياة" في مناظرة فكرية من "العيار الثقيل" في بلدة وايمار الألمانية - مسقط رأس الشاعر غوته - حصلت بين خاتمي وكبار أساتذة جامعة برلين الذين حاولوا فك رموز "طلسم خروج فكرة الحوار بين الحضارات من ايران الجمهورية الاسلامية"، بعد ان ترسخ لديهم ان الاسلام السياسي هو صورة للعنف في غير دولة عربية واسلامية الجزائر، مصر.... وقَبلَ الغرب "ايران الخاتمية" مدفوعاً بمصالحه مع رغبة خفية لدى البعض ومعلنة لدى الآخر في أن يكون خاتمي هو "غورباتشوف" ايران. فالتقوا بذلك عن قصد أو عدمه مع نظرة متطرفي التيار المحافظ، وهي تهمة دفع خاتمي ثمنها غالياً. فكان يواجه كل تسعة أيام أزمةً داخلية جديدة يفتعلها خصومه... ولما كانت هذه أيضاً نظرة متطرفي التيار الاصلاحي الداعين الى فصل الدين عن الدولة والمتظللين بعباءة الاصلاحات، فإن الازمات كانت تشتد لتصاغ منها نظرية "المؤامرة أو الانقلاب على الثورة ومكتسباتها" ثم لتتحرك القوى المحافظة مستهدفة في شكل اساس الاطراف الليبرالية والقومية ومن ثم اطرافاً اساسية داخل التيار الاصلاحي كحزب جبهة المشاركة الذي يتولى امانته العامة النائب محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس الايراني أو منظمة مجاهدي الثورة الاسلامية التي ينتمي اليها مصطفى تاج زاده - نائب وزير الداخلية - والذي يحاكم بتهمة المساهمة في مخالفات وعمليات تزوير للانتخابات البرلمانية في شباط العام الماضي. وكانت الحركة الاصلاحية تجتاح مواقف المحافظين "كالنار في الهشيم". ففازت بالانتخابات البلدية ثم انتزعت البرلمان منهم لتمسك وفي خلال زمن قياسي بزمام السلطتين التنفيذية والتشريعية والمجالس البلدية والقروية. ولعبت الصحافة الاصلاحية دوراً أساسياً في هذه المعارك الانتخابية، ولم تتورع عن مهاجمة قلاع المحافظين السياسية والعسكرية وحتى الدينية. فوُجِّهت اليها تهمة "التحول الى مواقع للاعداء لمواجهة مؤسسات النظام ولتسويق الاصلاحات على الطريقة الأميركية". جاء دخول القضاء على خط "ضبط الاصلاحات" ليؤذن ببداية مرحلة جديدة من التطورات الداخلية عنوانها "إقفالٌ لمعظم الصحف الاصلاحية، ومحاكماتٌ للذين يتعرضون للنظام" كما في قضية مؤتمر برلين نيسان - ابريل 2000 أو كما حصل لبعض مسؤولي تلك الصحف. لكن أحد رؤساء التحرير لصحف اصلاحية عدة حرص على قراءة هذا التطور في شكل آخر عندما تبلغ حكم احدى المحاكم بسجنه فيقول: "المحاكمة والسجن تعني الرد على المعارضين عبر الأجهزة القانونية والرسمية، وهذا يعني نهاية تدخل قوى التطرف لتضرب أو تغتال وفقاً لأهوائها". سجَّلَ عهد خاتمي سابقة لا نظير لها في دول العالم الثالث إذ جرى تقديم مسؤولين وعناصر من الاستخبارات للمحاكمة بعدما تورطوا عام 1998 في اغتيال معارضين قوميين وليبراليين. وحكمت المحكمة العسكرية بإعدام ثلاثة منهم وبالسجن المؤبد بحق خمسة آخرين اضافة الى احكام بالسجن والبراءة لمتهمين آخرين. ويعبر خاتمي عن هذا التطور "بأنه استطاع بعد دعم المرشد له علي خامنئي القضاء على غدة سرطانية داخل وزارة الاستخبارات". لكن بعض الاطراف الاصلاحية لم تقبل من خاتمي التوقف عند هذا الحد، بل تدعوه الى الاستمرار في تعقب جذور تلك العمليات من جهة، والوقوف بوجه الملاحقات القضائية لانصاره من جهة ثانية، واتخاذ مواقف اكثر وضوحاً في مواجهة خصومه ووضع النقاط على الحروف تجاه العقبات التي يواجهها، وتمنعه من الحؤول دون حصول انتهاكات للدستور وتطبيق برامجه. ولا يتورع بعض الطلبة المتحمسين في مطالبة خاتمي بمواقف اكثر قوة تطاول القضاء ذاته - حيث تجرى المحاكمات، أو المجلس الدستوري ذات الصلاحيات الواسعة في الانتخابات والمصادقة على التشريعات البرلمانية. ويواجه الرئيس خاتمي والمقربون اليه داخل التيار الاصلاحي ثلاث معضلات مهمة، الأولى مواجهة متطرفي التيارين الاصلاحي والمحافظ وتحديداً أولئك الذين يدعون الى التفكيك بين جمهورية النظام واسلاميته ويضعون الدين في مواجهة الحرية أو الحرية في مواجهة الدين، ويرى خاتمي في ذلك خطراً يتهدد مستقبل الثورة والنظام اذا لم يتم احتواؤه. اما الثانية فتكمن في عدم التصادم بين المؤسسات، والسلطات التي يسيطر عليها الاصلاحيون والمحافظون مثل البرلمان الاصلاحي والمجلس الدستوري ذي الغالبية المحافظة أو القضاء. وهذا يفرض نوعاً من التفاهم القسري والا فإن المواجهة حتمية. فقوانين البرلمان لا تصبح نافذة اذا لم يصادق عليها المجلس الدستوري، والخلاف يعني انتقال الموضوع محل النزاع - الى مجلس تشخيص الدستور الذي يرأسه حالياً هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق، الذي عاد ليدعم توجهات المحافظين بعدما حاول الاصلاحيون تدميره على المستوى الشعبي. وتكمن المعضلة الثالثة في اختلاف النظرة الى الحريات وحدودها والى الفارق غير الواضح بين ما يعتبر حرية فكرية وسياسية وبين ما يصنّف أنه مهاجمة للنظام أو بث للدعاية ضده ويقوم على أساسه القضاء بملاحقة أصحاب تلك المواقف، حتى ولو كانوا نواباً في البرلمان أو شخصيات سياسية اصلاحية. وفي المقابل هناك الكثير من نقاط القوة التي يمسك بها الرئيس محمد خاتمي. ومن أبرزها قدرته على الامساك بالشارع الاصلاحي خصوصاً والشبابي عموماً في مقابل ضعف المحافظين. إذ تفيد استطلاعات الرأي المختلفة انه سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة بنسبة تتراوح ما بين 50 و75 في المئة من أصوات الايرانيين، وهي نسبة لا يملكها أي مرشح محتمل من المحافظين وان كانت أقل من النسبة التي نالها في الانتخابات السابقة. كما انه أكثر الاصلاحيين قدرة على تشكيل ثنائي منسجم مع المرشد علي خامنئي خصوصاً في شأن أولويات الاصلاح، ومنها مواجهة الفقر والفساد والمحسوبية، وفي شأن العلاقة بين الحرية والدين أو ما تبناه خاتمي من مواقف المرشد حول ترسيخ "حاكمية الشعب الدينية". وأظهرت مواقف خاتمي الأخيرة في محافظة كرمان جنوبايران حرصه على اعادة احياء تحالف الثلاثة الكبار "خامنئي - خاتمي - رفسنجاني" وذلك من خلال الاشادات اللافتة التي اطلقها بحق رفسنجاني عبر وصفه بأنه "صورة للثورة والمضحي من أجلها". مع الاشارة الى ان انصار خاتمي تسببوا لرفسنجاني في الانتخابات البرلمانية السابقة بوضعٍ يشبه الخسارة الكبيرة. يضاف الى نقاط قوة خاتمي والاصلاحيين اختراق الاصلاحات صفوف المحافظين وهو ما أدى الى ولادة تيار التجديد الديني بينهم الذي يؤكد على "أن الدين هو دين التساهل والتسامح والحرية وليس دين العنف". ويدرك الرئيس خاتمي نقاط القوة الداخلية هذه التي تضاف الى نقاط قوته على الساحة الدولية، بما يجعله متريثاً في اعلان موقفه النهائي من خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في حزيران يونيو تاركاً الأمر لازدياد المطالبة الشعبية بدخوله المعترك الانتخابي بما يمكنه من طلب صلاحيات يعتبرها ضرورية للمضي ببرامجه من دون ان تمس جوهر النظام. لكن نقاط القوة هذه لا تعني توقف الضغوط ضد الرئيس خاتمي وحكومته وأنصاره خصوصاً مع تعاظم تحذيرات المحافظين من القلق تجاه الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتقول مصادر محافظة ل"الحياة": "ان الأزمات التي تحدث عنها الرئيس خاتمي وواجهت حكومته ليست الأولى من نوعها في ايران التي تحمّل قادتها مصاعب كبيرة منذ الثورة الاسلامية عام 1979، ومنها الحرب التي حصلت مع العراق والخسائر المادية الفادحة الناجمة عنها وتقدر بألف بليون دولار، اضافة الى الحصار الاقتصادي والسياسي". وترمي هذه المصادر، الكرة في ملعب الرئيس خاتمي وأنصاره "للقيام بواجباتهم وضبط المتطرفين من الاصلاحيين". وترد مصادر اصلاحية عبر "الحياة"، ب"أن المحافظين سيواصلون اثارة الأزمات المتلاحقة لمنع الاستمرار في الاصلاحات وتهيئة الارضية لاسقاط حكومة خاتمي، والنفوذ الى مراكز اخرى للقرار وتهميش دور الشعب تحت ذريعة ان مطالب الشعب سياسياً واجتماعياً أكبر من قدرة النظام وهذا ما يشكل تهديداً". وتلخص هذه المصادر موقفها ب"أن استراتيجية المحافظين لإسقاط الاصلاحيين هي استراتيجية طويلة الأمد، وستصبح في المستقبل أشد قوةً ووضوحاً عبر اثارة المزيد من الأزمات". وعلى رغم ذلك تبقى المراهنة على "عقلاء القوم" في حصر التجاذبات السياسية في اطارها الحضاري في وقت يحتفل العالم هذا العام باقتراح "حوار الحضارات" الذي قدمه الرئيس خاتمي.