شمس ثخينةٌ تضع دمًا على الأفق المدينة في الأسفل ملطّخة بالكلس أحياء جديدة زائدة تسحق الرُّبى غايتها طرد التاريخ من الحاضر ولكنّ جلد الأرض قاسٍ وقلبها يزداد خفقه بقدر ما يراد سحقه في المدينة القديمة يسير المرء على زمن ينفث في الوجه نفْسًا طبيعيّة بضعة أعلامٍ زرقاء تلوِّح بِشتيمتِها في هواء الحيّ المراد إذلاله لا تكفّ الحياة مع ذلك عن الغليان على البلاطات حيث مرّ الرجل ذو الصليب كيف يستعمر المرء ما للكينونة فيما لا مُرادَ له سوى الحيازة ترجمة وتقديم جاك الأسوَد * "أريد أن أتحدّث عن رجل كأنّه يعظ في البرّيّة، ولمّا يسمعْه إلاّ قلّة، لكنّني، من جهتي، أعدّه واحدًا من أهمّ شعراء عصرنا. اسمه برنار نويل". هذا الترحيب المبكر الصادر من أراغون لم يذهب في تشبيه زميله الشاعر الفرنسي الناشئ بيوحنّا المعمدان القائل إنّه "صوت صارخ في البرّيّة: أعدّوا طريق الربّ" إلى أبعد من ملاحظة قلّة قرّائه آنذاك. فالوعظ، منذ البداية وحتّى تحقّق لبرنار نويل ما تنبّأ له سابقه الكبير من اعتراف بأهمّيّته، لم يكن من صفات شعره أسلوبًا ولا موقفًا. أكثر من ذلك: في مسار من قال "كنت أريد أن أعطي جسدًا لكلماتي وكلماتٍ لجسدي"، ومَنْ أعطى أوّل مجموعة "كاملة" لأعماله الشعريّة حتّى 1970 عنوان "خلاصات الجسد"، كلّ موقف سياسيّ واضح كهذا الذي يتحمّل مسؤوليّته الصعبة بحزم مَنْ يعرف سلطته المعنويّة في قصيدة "القدس" يبدو على الأقلّ غير متوَقَّع. صمت الحقيقة الحقيقة، ربّما، لا تقول شيئاً جان - لوك نانسي أربعة عشر بيتًا من أحد عشر مقطعًا صوتيًّا، باستثناء البيتين الرابع 12 والسادس 10. هذا الانتظام، النادر لدى برنار نويل، لا تقابله نمطيّة طقوسيّة ولا شطحة غنائيّة. ربّما هو من باب "اللزوميّات" المستترة التي تقيّد و/أو تنفع الكتابة دون أن تقيّد و/أو تنفع القراءة. ولكنّ رمز الصليب المركزيّ هنا يجعل بعض الأرقام تبدو أقلّ مجّانيّةً. أفليست مراحل درب الصليب، في الليتورجيا اللاتينيّة أربع عشرة؟ السقطات تحت الصليب في هذه الرتبة ثلاثٌ : في المراحل الثالثة والسابعة والتاسعة. مع فصل الصائتين الجائز في آخر البيت العاشر d'humili-erيمكننا أن نعدّ ثلاث مرات يكسر فيها الوزن في الأبيات الرابع والسادس والعاشر. كلاسيكيّ في الشعر الإيطاليّ، نادرٌ جدًّا في الفرنسيّ، البيت الأحد عشريّ قد يترجم رغبةً في الصمت والخفاء. من جهةٍ، هناك الانتظام الشكليّ الذي يكاد أن يؤكّد أنّ الشِّعْر بالذات هو قائل ما يقوله الشاعر. ومن جهة ثانية، خفاء القيود الشكليّة، إضافةً إلى اللجم شبه التامّ لكلّ استرسال تعبيريّ، غنائيّ، يضعان القول الشعريّ في موقف أقرب إلى الإدراك الظاهراتيّ وخلفيّة برنار نويل الإبستيمولوجيّة ظلّت في نظر الكثيرين أقرب إلى الدعوى الأساسيّة للفلسفة الظاهراتيّة: العودة إلى "الأشياء بالذات". برنار نويل، وعنوان المجموعة التي ضمّت هذه القصيدة "بقيّة الرحلة"، يتصرّف كرحّالةٍ أمام مشهدٍ يجب وسنعود إلى هذا الوجوب نقله بالقدر الأكبر الكافي من الدقّة. للذكرى، ويمكن منذ الآن أن نقول: للشهادة.الأدوات الأكثر كلاسيكيّة تسمح له بأن يترك المشهد يجيء إلى كلامه كما إلى ورقة الرسّام الواقعيّ أو إلى شريط المصوّر الشمسيّ الصورةُ. الصمت ليس مطلوبًا فقط من أدواته، بل كذلك من انفعاله الإنسانيّ حيال المشهد. هكذا يتحقّق له هذا النوع العالي من الصمت. فهمنا طبعًا أنّ هذا هيهات أن يعني الحياد. فمنذ البداية، نبرة الدم اللونيّة فوق بياض الكلس ترينا الشَّفَقَ نزفًا أو إجهاضًا للحقيقة كشمسٍ مثخنة بالجراح أو حبلى.وهذا يجعل الشهادة واجبةً بقدر ما هي أقرب إلى المستحيل: يجب أن نقول شيئًا حيال هذا الذي لا ينفع فيه قول كلّ شيء. الحياة، تاريخًا وحاضرًا، في الأسفل، وعلى التلال تنصب الحجارة كما ترفرف الأعلام الزرقاء في سماء الحيّ نقيضًا مادّيًّا ورمزيًّا للحياة والحقيقة. رحلة أخرى جعلت برنار نويل يقول عن المكسيك: "صار الزمان هو الحياة على أكتاف الموت". هل قالت هذه القصيدة بما فيه الكفاية عن القدس وفلسطين كم صار الزمان هو الموت على أكتاف الحياة والكذب على أكتاف الحقيقة؟