الشاعر الفرنسي برنار مازو بقبعته القش، ولفحة بحر الجنوب على وجهه، وضحكته المجلجلة شبيه بجان غابان، مهرج وقديس وفوضوي خارج لتوه من أحد الأفلام الاستعراضية. شاعر فيه شيء من شيطانية رامبو، ومن بروق رينه شار. يقول عنه آلان بوسكيه: مقتصد في الكلمة، يصل الى تكثيف ضوئي يحسده عليه الشعراء. نشر ستة مجموعات شعرية، وهو السكرتير العام لجائزة أبولينير، وأحد ثلاثة مشرفين على مجلة "شعر واحد" Poesie 1، وقد أصدر أخيراً جريدة شهرية عن الشعر عنوانها: "القصيدة اليوم"، وديواناً شعرياً عن دار الكشتبان الأزرق عنوانه "الحياة المنصعقة". اجتمعنا ذات ظهيرة في حديقة بيت ماري العجوز صديقة جاك بريفير على حافة ميناء غريمو تحت شجرة اللبلاب وأمام القوارب البيضاء وقد اختلط الحديث عن ذكرياتها مع جاك بريفير، مع خبر بيع أثاث قصر دوينو الذي كتب فيه الشاعر الألماني ريلكه مراثيه الشهيرة. وكان معنا أحد أفراد العائلة التي تمتلك القصر. كانت كل الأحاديث نوستالجية عن الشعر وعن سينما السنوات الفرحة التي أعقبت الحرب. ثم في ركن جانبي وفي حديقة أخرى أجريت هذا الحوار مع الشاعر الفرنسي: كيف كان لقاؤك الأول بالشعر، أعني القراءات الأولى، والانفعال الأول بالقدرة السحرية والعجائبية للكلمة؟ - في نحو الحادية أو الثانية عشرة من عمري أحسست بنوع من الصدمة العاطفية" بلحظة كما لو أن كل الأشياء التي تحيط بنا وكل الكون غمرني" أحسست بنوع من الانبهار الذي تمثل برغبة كبيرة في كتابة وتوصيف ما أشعر به، ولكن بشكل شديد الإبهام، وهكذا كتبت قصيدتي الأولى. إذاً بزغت القصيةد لديك للمرة الأولى من الحياة، وليس من الإعداد، أو من الدربة اللغوية، أو من القراءات كما هو الشأن عادة لدى المبتدئين، إذ نراهم يتمثلون، ويقلدون من تقدمهم من الشعراء؟ - جاءت القراءة من بعدها، مباشرة تقريباً" لأني أدركت أنه لا بد من نظم للكلام، ومن تأطير للمشاعر، وللانفعالات" عبر احتراف لكتابة لم أكن وقتها قد تمكنت من السيطرة على ميكانيزماتها. وفي الفترة نفسها تقريباً كان من حسن حظي ان وقعت على مدرس جيد لمادة الأدب، مدرس متميز جعلني أقرأ خارج برنامج التعليم: بودلير، وجيرار دي نرفال، وبول فيرلين، ورامبو، واستيفان مالارمه. ولدى قراءتي هؤلاء اكتشفت أن وظيفة الشعر تتمثل في التعبير عن جمالية العالم، وعن تجذر الإنسان في الطبيعة، عن ايقاع الفصول. وظيفة الشعر هي التعبير عن معضلة الوجود الإنساني" عن انبهار الإنسان، وقلقه في العالم" عن هذا الوجود الهش، والعابر" والذي يملك الشعراء الكلمات للإفصاح عنه، والذي يحسه الآخرون بشكل غامض، ومعمى، من دون أن تكون لهم القدرة على التعبير عنه. والقصيدة هذا الفضاء الروحي، واللغوي في الآن، كيف تتمثلها؟ - القصيدة هي بنت الشعر" كان القدامى يستعملون لفظة "ولادة الأفكار" وأعتقد أن القصيدة هي النهاية المكتملة أو المنقوصة لصوت داخلي، صوت يجيء لا ندري من أين ولكنه يتمظهر عبرنا ويشدنا للحظة ثم يتجاوزنا. وبالنسبة لي فإن القصيدة، ومهما كانت منغلقة على نفسها، وعصية على الفهم، فهي بالنسبة لي مقطع من قصيد كبير متفرد، وخالد، ولا زمني. ما هي العوامل الشعرية الأولى وصاغتك كشاعر، التي صاغت صوتك ورؤاك؟ - ان التأثير الأول، والحاسم، والباقي لدي - كما هو شأن شعراء القرن العشرين عندنا - هو تأثير بودلير. آرثر رامبو هو نفسه وقع تحت تأثير شارل بودلير. إذاً بودلير هو أبو الحداثة لديكم؟ - أجل" وبودلير وقع هو نفسه تحت تأثير الرومانسية الألمانية، تحت تأثير نوفاليس، وهولدرلين... إلخ وبدءاً من هذه التأثيرات كان بودلير هو الأول الذي منح القصيدة وظيفة تفكيك أبجدية العالم وحقيقته. فالحقيقة الظاهرة والمرئية هي تخفي لديه حقيقة أخرى تكمن وراء الدلالات والرموز. وهي نفس رؤية المتصوف الدانماركي سويدنبرغ" فالواقع، والجمال بالنسبة له يكمنان كما كتب يوماً الروائي مارسيل بروست وراء الأشياء والظواهر المرئية. وكما أكد أرسطو من قبل أن "وظيفة الفن تتمثل ليس في التعبير عن العالم الظاهر، وإنما في الكشف عن معناه الخفي". وهكذا نرى بودلير في كثير من قصائده يتكلم عن التناظرات الخفية القائمة بين الأصوات والروائح والألوان. أحد مظاهر الأبجدية الشعرية الحديثة أن القصيدة لم تعد تصف العالم، وإنما تقوله، بالضبط كالرسم الحديث، لم يعد يقوم بتصوير مشهد العالم. وهكذا تمت القطيعة لديكم مع الشعر الكلاسيكي الذي ظل يكتب حتى القرن التاسع عشر. أنت كيف عشت هذه المغامرة؟ - مبكراً أدركت أنا أيضاً أن إحدى وظائف الشعر الأساسية تتمثل في تفكيك الرموز التي تكتنفنا وفي الاستمرار في طرح السؤال القديم والأبدي للإنسان، هذا السؤال المتحدر الينا من الأزمنة السحيقة، من تلك العصور الغابرة التي أدرك فيها الإنسان للمرة الأولى أنه فان" فهو يحاول تحدي تراجيدية هذا العبور السريع للحياة من خلال تصاويره على جدران كهوف تسيلي، والتاميرا، ومن خلال التهجوءات الأولى للغة القبيلة. لديك شيء من رامبو: وهو هذا الاشتعال العابر للكلمات، وبعض من نبرة رينه شار؟ - رينه شار بالنسبة لي هو عملاق، نصب حجري متفرد، استطاع في القرن العشرين أن يستعيد لنا اللوغوس الهيراقليطي، في شعر يتوسل لغة آلهة الأولمب، شعر هو نوع من المعجزة اللغوية، كما لو أنه لغة البدايات، أو هو لوغوس تأسيسي. كان رينه شار صديق مارتن هيدغير، إذ كان التحقق الشعري لفلسفته. في شعرك شيء من السريالية المتحكم فيها ان شئت التعبير" فما هي علاقتك بالسريالية، التي تعد أحد كشوف الوعي الكبرى، وأحد ميكانيزمات التعبير الأساسية في الشعر والرسم في هذا القرن؟ - أنا لست سريالياً، ولو أن لدي احتراماً كبيراً لأندره بروتون. بروتون الذي كان رامبو معلمه الأول. والشعر الفرنسي اليوم بأي لحظة يمر، بمعنى هل ترسم له خارطة شعرية اليوم؟ - على رغم تباين التيارات والمشارب الشعرية اليوم في فرنسا، فثمة قطيعة بين الشعراء الجامعيين وبقية الشعراء" أريد أن أقول أن مقدمة المشهد مشوشة بجماعة من الأكاديميين، ومن الشعراء النجوميين ممن يكتب قصيدة مضادة للشعر تزيد في عمق القطيعة القائمة بين القصيدة والقارىء المتلقي. أسألك عن راهن الشعر الفرنسي لأننا في العالم العربي لا نكاد نعرف أسماء كبيرة بعد بول فاليري وبول كلوديل وسان جون بيرس، ورينه شار، حتى هنري ميشو، وايف بونفوا معروفان كأسماء! - بعد غياب رينه شار، وجان تارديو، وأندريه فرينو فإن آخر العمالقة اليوم هو ايف بونفوا وجاك دوبان، وفيليب جاكوتي. هناك أيضاً الجيل الذي يلي هذا الجيل وهو جيل مواليد 1925 - 1930 وممثلوه لوران غاسبار، وجاك ريدا. ثم يجيء ميشال دوغي وهو أقرب لأبناء جيلي أنا، وكذلك الشاعر فرانك فيناي، والشعراء الذين تتفاوت أعمارهم ما بين الأربعين والخمسين سنة من أمثال جان ميشال مولبوا وسيميون وليونيل راي وبرنار نويل. ما هي الخصائص العامة التي قد تحدد ملامح هذا الشعر الفرنسي الجديد؟ - انه شعر يتميز بالعودة الى نوع من الغنائية، كما يتميز بشفافية كتابية" انه شعر ذو صور قوية، وذلك في مقابل شعر الأساتذة الجامعيين المتهافت... أيضاً هناك اليوم في فرنسا من يريد اقناعنا بأن الشعر الحي التجأ الى الأغنية، والى موسيقى الراب، فالشعر المقروء لا يتجاوز عدد قرائه من ثلاثمائة الى ستمائة قارىء للمجموعة الواحدة، ولكن وهنا تكمن المفارقة لم تعرف فرنسا مثل هذا العدد من المجلات، والدوريات الشعرية المتخصصة الذي عرفته اليوم. ودور النشر تتلقى اليوم ما يصل الى ألف مخطوطة شعرية سنوياً. ألا تزال هناك مساحة للشعر في عالم فقدت فيه الكلمة بعدها الديني، والمقدس، والأنطولوجي، بحيث صارت الكلمة مع تكنولوجيا الاتصال المعاصرة مجرد شيء اصطناعي. وهنا تحققت نبوءة مارتن هيدغير وبلانشو في غزو التقنية للإنسانيات؟ ماذا تبقى للكلمة الشعرية في هذا المحيط الثقافي المعادي لكل ما هو عمق أنطولوجي؟ - الشعر ثورة، خلاص" في مواجهة العمل التدميري الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصال الحديثة مثل الأنترنيت، والسيبرنيتيقا، وكل هذا العالم من الصور التقديرية، والمحتملة... الذي يظهر على شاشات الكمبيوترات على امتداد القارات. والشعر في تقديري هو آخر ملجأ ثقافي، وإنساني في مواجهة هذه الظاهرة الجماعية المزيفة للواقع، أو قل التي تزيل عن الواقع واقعيته ليصير مجرد تقدير يعني تدمير الواقع، والدخول في حضارة الصور المركبة، ونحن لم نعد نعيش إلا عبر الشاشات التكنولوجية. ومجلة "شعر واحد" التي توزع ثمانية آلاف نسخة أليست شهادة على أن الشعر لا يزال بخير في الغرب على رغم كل ما يقال عن موت الشعر؟ فما هي أدوار هذه المجلة التي تشارك في تحريرها؟ - كانت هذه المجلة انطلقت في سنة 1967. كانت تجربة استثنائية الى حد ما، بما أننا وضعنا الشعر في متناول الجمهور الواسع، وبسعر رمزي وهو فرنك واحد. وقد توقفت عن الصدور في سنة 1980، لتعود الى الظهور من جديد بعد ذلك على يدي جون أوريزي، ومارسيل جوليان الذي كان قد أصدر قبلها مجلة "الصعلكة". وهكذا اشتركا في اصدارها وعودتها من جديد" بيد أن المهم في هذه التجربة أن هذه المجلة تبيع ثمانية آلاف نسخة. من بينها قرابة ألف مشترك" ويعود نجاحها في تقديري الى أربعة أسباب مجتمعة: أولاً سعرها الزهيد ثمانية وعشرون فرنكاً، ثانياً شكل الجيب الذي اتخذته لنفسها منذ البداية" ثالثاً توزيعها، فهي توزع في كل مكان في المكتبات وفي أكشاك الصحافة السيارة" رابعاً توجهها اللاأكاديمي، فهي تقف على نقيض من المجلات الأكاديمية المتعالمة، فهي ليست مجلة نخبوية. ويتضمن كل عدد من أعداد مجلة "شعر واحد" موضوعاً محورياً، ملفاً خاصاً مثل: السريالية، الشعراء والكتابة، الشعراء والكون... إلخ. القسم الثاني من المجلة - والذي أحرره أنا - عنوانه أصوات عصرنا الكبيرة - ويتضمن تقديماً لأحد الشعراء الأحياء الكبار، ومختارات من شعره، وقد قدمت في هذا الباب شعراء من أمثال إيف بونفوا ولوران غسبار وغيليفيك وغيرهم. كنت أحد مقدمي الشعراء في مهرجان "أصوات المتوسط في مدينة لوديف الفرنسية، مع الشاعر مارك دولوز، كيف وجدت اللحظة الشعرية المتوسطية؟ - مهرجان لوديف المتوسطي كان بالنسبة لي ذا ثراء استثنائي" من ناحية نوعية الشعراء الذين استمعت الى شعرهم، وخصوصاً الشعراء العرب من تونسيين وجزائريين ولبنانيين ومصريين. ومن بين الأسماء التي أذكرها: شوقي أبي شقرا، عبدالقادر الجنابي، عبده وازن وقاسم حداد. ولدي اعجاب كبير بالشعراء الفرنكوفونيين مثل جورج شحادة، ومحمد ديب، وكاتب ياسين، وغاستون ميرون، ومولود فرعون، وأندريه شديد" وأنا لا أستطيع أن أقرأ الشعر العربي في لغته، ولكن ما سمعته في لوديف رسخ لدي ذلك الإعجاب الذي أكنه للشعر العربي، ان كان في تعبيره الفرنسي أو العربي. أجل لقد أثرى الشعراء العرب بدورهم اللغة الفرنسية، إذ شحنوها بجغرافيا تخييلية، وإنسانية جديدة.