لا تقع تجربة الشاعر الفرنسي جورج باطاي في دائرة التجارب الشعرية المألوفة أو التي يمكن القارئ أن يمر بها مرور الكرام. ذلك أن هذه التجربة تقارب الشعر من خارج أنماطه ومفاهيمه المألوفة وتعمل على تقويض الشعرية السائدة في عصره ليس فقط عبر تخففه من البلاغة الاستعارية والتشبيهية المتداولة أو من كل ما يتصل بالعاطفة والترسل الغنائي، بل من خلال نظرته العدائية للشعر نفسه واعتباره طريقة في مقاربة العالم مثيرة للسخرية والإشفاق. على أن هذه العدائية أو الكراهية للشعر هي بحسب باطاي الطريقة الوحيدة لاستعادته وإنقاذه من براثن الإنشاء العاطفي والهذر المجاني الذي دفع الشاعر إلى تحميل السورياليين أكثر من سواهم مسؤولية ترويجه والوقوع في فخه. اعتبر باطاي أن الشعر بمعاييره السائدة والقائمة على الافتنان بالجمال واستعراض المهارات والاستسلام لإغواء الإيقاعات هو حالة من التلوث التعبيري، ولا يمكن إنقاذه بالتالي إلا عبر تلويث التلوث نفسه، وفق ما ذهب إليه برنار نويل في تقديمه المهم لتجربة الشاعر. ولم يكن من قبيل الصدفة تبعاً لذلك أن يعرض باطاي عن نشر قصائده إلا في حدود ضيقة وألا يطبع من ديوانه «القدسي» الذي نشر في أربعينات القرن الفائت سوى مئتي نسخة لا أكثر، كما لو أنه بذلك يعبر عن مقته للشعر أو عزوفه عنه. حسناً فعل الشاعر المغربي محمد بنيس بنقله تجربة جورج باطاي إلى العربية ونشره لها في كتاب مستقل تحت عنوان «القدسي» وقصائد أخرى، إضافة إلى مقالة تمهيدية تشرح بعضاً من المصاعب التي واجهت المترجم في مهمته الشاقة، وإلى التقديم العميق لبرنار نويل. وقد رأى بنيس أن الصعوبة في ترجمة باطاي متأتية من طبيعة لغته ومفرداته الملتبسة والتي يمكن أن تُحمل على غير وجه، إضافة إلى ما يتخللها من وجوه السخرية والتورية والمعاني المواربة. والطريف في الأمر أن عنوان «القدسي» الذي يحمله الكتاب والذي يشير يوضوح إلى الحضور الطاغي لثقافة الشاعر المسيحية، كما تظهر القصائد نفسها في الداخل، لا يعبر إلا عن وجه واحد من وجوه التجربة الشعرية لدى باطاي، في حين تبدو الوجوه الأخرى متصلة بالشر والشبق الروحي والجسدي وإماطة اللثام عن نزق الإنسان وفظاعته و «حقيقته القذرة». لذلك، فإن الشاعر الحق وفق باطاي امام واحد من خيارين: إما إعمال السكين في جمالية الشعر ومساراته النبيلة، كما يفعل ناحر الأضحية بحثاً عن الأحشاء، أو الإخلاد إلى الصمت كما فعل رامبو الذي بدا بصمته وكأنه نادم على ما كتبه من قبل. تضم القصائد المنشورة في كتاب جورج باطاي، إضافة إلى عمله الشعري المبكر «القدسي»، عدداً من التجارب اللاحقة التي ضمتها أعمال الشاعر الكاملة أو تلك الموزعة بين الكتب والمسودات. أما مناخات القصائد، فهي تتراوح بين النزوع الجسدي الشهواني والإحساس بعبثية الحياة وتغلغل الموت في أوصالها المتقطعة. ولعل هذا التمزق بين الشبقي والعدمي يذكّر عبر أكثر من ناحية بتجربة شارل بودلير التي تتحول معها الحياة إلى ساحة مكشوفة للمنازلة بين الدنس والطهر وبين الملاك والشيطان، وهو ما يجد تمثله الواضح في قصيدة «الفراغ» التي يبدو فيها الحضور الجسدي الأنثوي مفتوحاًً على الخوف والوحشة والموت: «تحت القبة الكريهة / حيث الخفافيش تتدلى / عريك العجيب / ليس سوى كذبٍ فقد الدموع / فمك المختوم على فمي / ولسانك في أسناني / سيستقبلك الموت الشاسع / الليل العريض سيهبط / عندها أكون قد وضعت الفراغ في رأسك المنبوذ / وسيعرى غيابك / مثل رجْلٍ بلا جورب». يبدو الشعر عند باطاي أشبه بتعريفات موجزة للعالم والأشياء ومعنى الحياة تظهر على شكل جمل إسمية متلاحقة وترسم الخلاصات الأخيرة للعيش ولرؤية الشاعر إلى مصيره المغلف بالقتامة. ولعل استعراضاً سريعاً للمفاتيح التعبيرية التي تتكرر في القصائد أو للمفردات التي تضمها يقودنا من دون إبطاء الى إدراك ذلك البعد الجحيمي لشخصية الشاعر وذلك القنوط من كل شيء حتى من الشعر نفسه. فالمفردات التي يتشكل منها قاموس باطاي تتراوح بين الموت والمرض والدم والغثيان والصقيع والقبر والقلق والسعار والروث والحشرجة والجنون، وبين الظلمات والهاوية والعدم والقيء والحمى والعفونة والدوار وغيرها. وقد تكون قصيدة «القبر» المنشورة في الديوان التجسيد الأكثر جلاء للرعب الذي يعصف بالشاعر وللقنوط من كل ما يرى فيه البشر خلاصهم المحقق. فالجمال بالنسبة الى باطاي هو الصرخة التي تطلُّ من قعر الكهوف والحب محاكاة ساخرة للأحب والحقيقة محاكاة ساخرة أيضاً للكذب، وهو إذ يطلب من القبر الذي يتحضر لاستقباله في نهاية الرحلة أن يحرره من نفسه ومن سجونه الضيقة والمتداخلة، يرى إلى اللغة والشعر بوصفهما جزءاً من السجن لا من الحرية ومن المأزق لا من الخلاص: «لا أطيق بعد الآن أن أتحمل سجني / أيتها الكلمات التي تخنقني / اتركيني / أطلقيني / أنا عطشان لشيء آخر / أريد الموت / بدل أن أرضى عن عهد الكلمات هذا». وإذ تعجز اللغة «المهذبة» التي لا تخدش الحياء عن مماشاة حالة الشاعر المفرطة في احتقانها، يعمد باطاي إلى استخدام لغة الشارع الحافلة بالشتائم والبذاءات الجنسية والأخلاقية لتفريغ شحناته العصبية والانفعالية، وإلى هدم الجدران الفاصلة بين الخير والشر وبين المقدس والمدنس. وهو أمر لا يضير الشاعر في شيء ما دام يشكل في جدوى الشعر نفسه كتابة وقراءة ووسيلة رمزية للتحايل على وحشة الكائن ودماره الداخلي. لذلك، فلا غرابة في أن يعلن في إحدى قصائده: «أنا وحيد / عميان سيقرأون هذه السطور / في أنفاق لا نهاية لها».