حركت الزيارة التي قام بها وزير التعاون الفرنسي شارل جوسلان لتونس يومي الخميس والجمعة الماضيين أحجاراً كثيرة على رقعة العلاقات غير المستقرة بين العاصمتين. وإذا كان ثابتاً أن الرسالة الخطية التي نقلها جوسلان من الرئيس جاك شيراك إلى الرئيس زين العابدين بن علي عكست رغبة لدى باريس بتنقية العلاقات من الخلافات التي شهدتها في السنتين الأخيرتين، فإن الزيارة لم تحقق تقدماً يذكر على صعيد الاتفاق على موعد لزيارة رئيس الحكومة الفرنسية ليونال جوسبان لتونس بعدما ارجئت مرات عدة. وأفاد جوسلان رداً على سؤال ل"الحياة" في مؤتمر صحافي عقده قبل مغادرته تونس مساء أول من أمس، ان الجانبين "لم يتفقا بعد على موعد الدورة المقبلة للجنة المشتركة التي يرأسها وزيرا الخارجية، لكنه توقع أن "تعقد قريباً"، أي في الأشهر المقبلة "لأن اجتماع اللجنة يحتاج إلى أعمال تحضيرية تستغرق وقتاً". وكانت اللجنة المشتركة عقدت آخر اجتماع لها في تونس في شباط فبراير العام الماضي. واعترف جوسلان بأن "هذه الوتيرة ليست جيدة، لكن هناك مسؤولين فرنسيين سيزورون تونس قريباً". واحتلت أوضاع حقوق الإنسان في تونس موقعاً مهماً في كل اللقاءات التي أجراها جوسلان مع مسؤولين تونسيين. وهو أوضح أن محادثاته كانت "صريحة ومباشرة وثرية". وتجلى الاهتمام الذي يوليه الفرنسيون لهذا الموضوع في حرص الوزير الفرنسي على الاجتماع مع وجوه بارزة في المجتمع المدني والمعارضة، على رغم ان تباعد المواقف في شأن هذه المسألة تسببت بتوتر العلاقات. وإذا كان الجانب الفرنسي راعى الضيق الذي أبدته السلطات التونسية من الاجتماع مع تنظيمات غير مجازة بينها المجلس الوطني للحريات بزعامة منصف المرزوقي وسهام بن سدرين والتكتل الديموقراطي بزعامة مصطفى بن جعفر والذين لم يلتقهم جوسلان، فإت سياسة "تدوير الزوايا" لم تشمل المعارضة الشرعية، إذ التقى الوزير الفرنسي كلاً من رئيس رابطة حقوق الإنسان مختار الطريفي ونائبته سهير بلحسن والأمين العام للتجمع الاشتراكي أحمد نجيب الشابي ورئيسة "جمعية النساء الديموقراطيات" المستقلة بشرى بلحاج حميدة والوزير السابق محمد الشرفي. وشكلت العلاقات العاصفة بين الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي ينتمي إليه جوسلان والتجمع الدستوري الديموقراطي الحاكم إحدى النقاط الساخنة في الزيارة، ولوحظ أن الوزير الزائر حرص على الاجتماع مع الأمين العام ل"الدستوري" السيد علي الشاوش، على رغم القطيعة التي قررها الاشتراكي الفرنسي في نيسان ابريل الماضي احتجاجاً على أوضاع حقوق الإنسان في البلد. لكن يبدو أن الاجتماع لم يحقق تقدماً على صعيد ترميم جسور التعاون بين الحزبين. وهو قال في التصريحات التي أدلى بها للصحافيين قبل مغادرته تونس: "إن الحزب الاشتراكي اختار بكامل الحرية تجميد الاتصالات مع "الدستوري"، مما تسبب ببرود في العلاقات الثنائية، لكن الأمور ليست آلية بين الحزب الاشتراكي والحكومة في فرنسا. فالأكثرية الحاكمة في باريس ترتدي طابعاً تعددياً". وأكد وجود استعداد للحوار من الجانبين. لكن الزيارة قد تعطي حصاداً ايجابياً على صعيد الملفات الاقتصادية والفنية أكثر من الملفات السياسية. إذ بدا جوسلان مرتاحاً للمحادثات التي أجراها مع كل من وزير التعاون الدولي فتحي المرداسي ووزير التعليم العالي صادق شعبان ووزير الدولة للبحث العلمي إبراهيم بكاري والتي أسفرت عن وضع خطط لتكثيف التعاون في هذه القطاعات. وربما ساهم هذا الجانب في ترطيب الأمور بين الحكومتين وانهاء الاحتقان السابق. وعليه اعتبر جوسلان ان "إحدى النقاط الايجابية التي أسفرت عنها الزيارة هي كونها أقامت الدليل على أننا نستطيع الكلام عن تلك الخلافات في صراحة ووضوح وبروحية الصداقة بعيداً عن أي نوع من التدخل المزعوم في الشؤون الداخلية، لأنها قضايا مهمة ويوليها الرأي العام اهتماماً كبيراً". ولم يخف جوسلان أن "هناك سحباً ظهرت في سماء علاقاتنا الثنائية وحاول بعضهم دفعها إلى منطقة العواصف، مما عكر العلاقات خصوصاً على الصعيد السياسي. وظل كل طرف متشبثاً بمواقفه، لذا رأيت بوصفي وزيراً للتعاون أن أسافر إلى تونس وأحاور المسؤولين التونسيين وأتكلم عن التعاون". وأفاد جوسلان أن محادثاته مع الرئيس بن علي تطرقت إلى القمة الفرنكفونية المقبلة التي يستضيفها لبنان، و"هي أول قمة في نوعها تعقد في بلد عربي، مما يضفي عليها دلالات خاصة". ووجه نداء غير مباشر للعرب للتحالف مع فرنسا "في مجابهة عالم الثقافة الاحادية"، في إشارة إلى طغيان الثقافة الأميركية. وشدد على أن الفرنكفونية "أداة للدفاع عن تعدد الثقافات". ونفى أن تكون إطاراً لشن حرب على أي كان، إلا أنه جدد "استعداد فرنسا للتحالف مع من يشكلون معنا جبهة ضد أحادية الثقافة في العالم بمن فيهم الناطقون بالبرتغالية والاسبانية". وأشار إلى أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه كل من لبنان وسورية والمغرب العربي في هذا المجال.