لا أعرف ما إذا كانت هذه الرسالة ستصلك، وأنت الآن وراء القضبان. ولا أظن أن سجّانك سيسمح بالاتصال الحر بالعالم الخارجي. مع ذلك رأيت أن أضع في سطورها بعض الأفكار والمشاعر التي تثور في نفسي كلما تذكرت المحنة التي تمر بها. وليس من المستبعد أن تصلك بعض أصداء هذه الرسالة. فإن للسجون أسرارها وطرقها ومساربها التي تستعصي على الفهم وهي أكثر استعصاء على الاكتشاف. ومن المؤكد أنك في خلوتك الاضطرارية تجد نفسك نهباً للعديد من الصور والأحداث والأحاديث التي تتزاحم في ما بينها. وأرجح أن يكون من بين تلك الصور شريط حياتك، وفيه تتساءل كيف أنتهى بك الحال إلى هذا المآل. كيف أن شاباً ولد وتربى في أعماق ريف مصر وشرب من مائها وتعلم في مدارسها وتخرج في جامعتها بدرجة امتياز وأوفدته الدولة في بعثة إلى الخارج للاستزادة من مناهل العلم والمعرفة، فأبدع في ما أرسل من أجله، وأشتغل حيناً بالتدريس في الجامعات الأجنبية، إلى أن جاء وقت العودة إلى أحضان الوطن، فألقى بنفسه بكل قوة في البحث والدراسة والعمل الدؤوب لكي ترتفع هامة مصر بين دول العالم... لا بد أنك تتساءل كيف ينتهي الحال بمثل هذا الشخص الذي يسمونه عادة ابن مصر البار إلى أن يكون رهن السجون. إنني أفهم كل تلك المشاعر والأفكار، ولكني أسألك ألاّ تحزن، فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أن تسأل نفسك وتتعجب. فأنت لم ترتكب جرماً مثلما يرتكبه عادة نزلاء السجون. لم تسرق ولم تحرق ولم تقتل ولم تنهب أموال البنوك التي هي في النهاية أموال الشعب المطحون. لم تبدد أموال الدولة ولم تسرق من خزانتها ولم تستورد لحوماً فاسدة ولم تطلق اللحية وتنصب على المساكين باسم الدين. لم تفعل شيئاً من ذلك، بل على العكس فإنك لم تتهم بالمساس بمليم واحد من المال العام. وحتى النيابة العامة تعترف بذلك. ودفعت ما عليك من ضرائب بأمانة وانتظام. ولكنك تجد نفسك وراء القضبان، وهؤلاء جميعاً أحرار يمرحون وينعمون بل إن منهم من اتخذ باريس ولندن وروما، بكل ما فيها من مفاتن وأبهة مقراً له. ومنهم من عاد إلى مصر بدعوة من سلطاتها وهو يعيش حراً طليقاً، إن لم يكن يجلس في مجلس السلطة والحكم. هذا كله صحيح. ولكن، أرجوك ألاّ تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أن تقفز إلى ذهنك صورة اللجنة التي شكلتها الجمعيات الأهلية العاملة في حقل الديموقراطية وحقوق الإنسان ومن بينها "مركز ابن خلدون" وجمعية "النداء الجديد" لرصد ما يجري في الانتخابات التشريعية سنة 1995. ولم يكن هدف اللجنة التشهير بالدولة أو نظامها السياسي، حاشا لله، لكنها قامت استجابة لاعلان السلطات حينذاك أنها تريد انتخابات حرة نزيهة. وصدقتَ وصدقنا معك ذلك وأقمنا الجهاز والآلية لتسجيل ما يدور في بعض الدوائر أثناء العملية الانتخابية وكان هدفنا الذي لا هدف غيره هو تشجيع المواطن العادي على ممارسة حقه الانتخابي وتمكينه من ممارسه هذا الحق من دون تزييف أو تخويف أو إرهاب باعتبار أن الانتخابات الحرة النزيهة هي الحلقة الأولى في سلسلة الممارسة الديموقراطية. وكان أن أعدّت اللجنة تقريراً محايداً أميناً شجاعاً صادف كل ترحيب في مصر والخارج. ولا بد أنك تتساءل لماذا تثور السلطات غضباً عندما علمت أنك تأخذ زمام المبادرة سنة 2000، لتكرار التجربة نفسها التي قمنا بها سنة 1995. لا بد أنك تتعجب: هل في مثل هذا العمل تشهير أو إيذاء لسمعة مصر، والدنيا كلها بما في ذلك الدول ذات العراقة في الديموقراطية ترحب بقيام مؤسسات المجتمع المدني بمثل هذا الدور؟ تعجب ما شاء لك العجب. ولكن لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. وحقوق المرأة وما أدراك ما حقوق المرأة. إننا نؤمن معاً أنه لا قيام لمصر إذا لم تأخذ المرأة مكانتها وحقوقها في العلم والتعليم والعمل السياسي والوظائف العامة والمجال الاقتصادي. لا شك في أنك تتذكر وأنت في غياهب السجن مقولة قاسم أمين الشهيرة أنه لا مدنية ولا حرية ولا ديموقراطية ولا تقدم إذا لم يتم تحرير المرأة وتستكمل حقوقها. ومن هنا كان اهتمامك بالعمل المتواصل الدؤوب من أجل تحقيق هذا الهدف. وأغلب الظن أنك سمعت من الجميع كل إطراء لهذا الهدف النبيل. ولكنك تجد نفسك في نهاية المطاف وراء القضبان. نعم هذا صحيح، ولكن أرجوك ألا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أيضاً أنك تسأل نفسك: هل ارتكبت خطأ في موضوع الأقباط والأقليات؟ أين هذا الخطأ؟ لقد بدأنا العمل في هذا المجال سوياً من منطلق حق جميع المواطنين في المساواة بصرف النظر عن الدين والجنس والعقيدة. وهذا مبدأ ينص عليه دستورنا. ومن منطلق أنه لا قيام للدولة الحديثة من دون الأخذ بمبدأ المواطنة مصدر كل الحقوق والواجبات. بعد أن روعتنا، كما روعت مصر أحداث الكشح وغيرها من الأحداث السابقة المشابهة التي تقاتل فيها المسلمون والأقباط، ما تسبب في وقوع عدد غير ضئيل من الضحايا والمصابين. ونعرف أن تلك المصادمات لا تعالج بإغماض العين أو بالتجاهل أو بالزعم أنها من نسج الخيال. لذلك عملنا سوياً لتشخيص المشكلة والنظر في جذورها ومسبباتها والتقدم بتوصيات إلى السلطات المسؤولة. ولم يكن همنا سوى إشاعة روح التسامح والأخوة والتضامن بين عنصري الأمة المصرية منذ ما يزيد على ألف سنة. لم نبالغ في التشخيص واستلهمنا توصيات اللجنة التي شكّلها مجلس الشعب البرلمان في السبعينات برئاسة المرحوم الدكتور جمال العطيفي. وكان البيان الذي أصدرته الجنة التي شكلناها على أثر أحداث الكشح موضع ترحيب وتقدير من مئات القيادات الثقافية والشخصيات العامة في مصر. ومن المؤكد أنك تتعجب كيف يوصف هذا العمل بأنه يثير الفتنة والتفريق بين المواطنين. أوافقك على التعجب. ولكن، لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أنك تتذكر اشتراكنا معاً في مؤتمرات علمية تعقد تحت إشراف جامعات في الخارج. وتذكر على وجه التحديد ذلك المؤتمر الذي انعقد في واشنطن بدعوة من جامعة جورج تاون وكان موضوعه "البعد الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي". واشترك في هذا المؤتمر عدد من كبار الشخصيات العلمية والعامة عربية وأميركية ومن بينهم سفير مصر في واشنطن حينذاك. وأذكر كيف كان أداؤك المتميز في هذا المؤتمر موضع تقدير من الجميع. وأغلب الظن أن هذا هو شأنك في المؤتمرات الأخرى التي تساهم فيها. لكن العجيب أن يقال إن انتقادك لبعض السياسات المصرية ينطوي على تشويه وإساءة لسمعة مصر. ألا بئس ما يزعمون. نعم تعجب. ولكن لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. والصحافة الصفراء، وما أدراك ما الصحافة الصفراء في مصر. لقد تعرضت خلال السنة الماضية بطولها لكل أنواع السباب والقذف والتجريح والاتهام بالخيانة والعمالة. وكأن تلك الصحافة أخذت رخصة من قوى الشر في مصر لارتكاب كل تلك الموبقات من دون تعقيب أو تثريب من القائمين على مهنة الصحافة، ومن دون أن تعمل السلطات العامة على وضع حد لتجاوزات لم نر لها مثيلاً في تاريخ الصحافة الرخيصة. نعم تعجب، ولكن، لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أن تكون ثارت في مخيلتك صورة الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي أراد أن يضيف جديداً إلى ما درجت المؤسسة الدينية على تكراره لمئات السنين في تفسير الآيات القرآنية. أراد أن يقدم إسهاماً يزيل هذا الركود الفكري القاتل الذي يخيم على تلك المؤسسة ويجعل تراثنا العظيم أكثر تماشياً مع الظروف المتغيرة وأكثر مسايرة لمقتضبات التقدم. قامت الدنيا ولم تقعد بفعل قوى الجهل والتعصب التي اتهمت الأستاذ الجامعي المبتكر المتميز بالكفر والارتداد عن الإسلام وحصلت على حكم قضائي بالتفريق بينه وبين زوجته، وكانت النتيجة أنه هاجر من مصر إلى أحد مراكز العلم والاستنارة في أوروبا حيث يلقى كل تقدير وتبجيل. لا بد أنك تتساءل: هل الهدف مما حدث ويحدث لك هو إرغامك على الهجرة من مصر كما هاجر نصر حامد أبو زيد. هل الهدف هو تصفية المحروسة من كل الشخصيات العلمية النابهة المتميزة. لك الحق أن تتساءل، ولكن، لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. لا بد أنك تتعجب. فإن ما قمت به في خدمة الديموقراطية وحقوق المرأة والمساواة بين جميع المواطنين والأخذ بيد المستضعفين في الأرض، كل ذلك كان يقضي بأن تُنعم عليك الدولة بأسمى الأوسمة والنياشين. ولكنها لم تفعل ذلك وآثرت، بديلاً من ذلك، أن تضعك في صف المجرمين وأن تفرض عليك أن تقضي وقتك في ساحات المحاكم متنقلاً في عربات السجون وأن تصرف جهدك ووقتك ومالك دفاعاً عن نفسك في أمور لا يمكن أن تشكل جرائم في أية دولة متحضرة. نعم لك الحق أن تتعجب، وأنا أيضاً أتعجب. ولكن، لا تحزن فإن قوى الخير آتية لا محالة. * كاتب مصري. رئيس جمعية "النداء الجديد".