خلافاً لإدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون التي أظهرت اهتماماً كبيراً وبارزاً في الملف الفلسطيني، خصوصاً حيال المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، أظهرت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، في بداية ولايتها، اهتماماً أقل بهذا الملف، واهتماماً أكبر، في المقابل، بالملف العراقي، حيث كانت أبرز تعبيرات هذا الاهتمام الإعلان عن توجه جديد في السياسة الأميركية تجاه العراق ونظامه، خصوصاً الدعوة لاستبدال النظام الحالي للعقوبات ببرنامج معدل جديد أطلق عليه "العقوبات الذكية" يهدف إلى التخفيف من معاناة الشعب العراقي، وإلى تضييق الخناق على النظام في الوقت نفسه. هذا "التحول" في الموقف الأميركي حيال أكثر الملفات سخونة والتهاباً في منطقة الشرق الأوسط، اطلق العنان لبروز آراء وأفكار لدى عدد من السياسيين والكتّاب والصحافيين، تقول بأن هذا التوجه الجديد في السياسة الأميركية يعني أن واشنطن ستركز جهودها واهتمامها على "الملف العراقي أولاً" بدلاً من "الملف الفلسطيني أولاً" الذي يشتمل ضمناً على المفاوضات مع إسرائيل، ولذا فإن هذا الترتيب الجديد في أولويات "أجندة" واشنطن ازاء المنطقة ينبغي ارجاعه إلى ما كان عليه. وتواصلاً مع هذه الرؤية، ومع تكثيف التحرك الأميركي والحديث عن ضرورة إقرار وتطبيق البرنامج المعدل للعقوبات، طُرحت، في السياق ذاته، رؤى تقول إذا كانت واشنطن تسعى لكسب تأييد الدول العربية لمشروع "العقوبات الذكية"، فإن عليها أن تولي اهتماماً أكبر بالملف الفلسطيني، وبالضغط على إسرائيل واتخاذ مواقف "أكثر توازناً"، أو أقل انحيازاً لها. البعض من أصحاب هذه الرؤية ذهب أبعد من ذلك في تفسير موقف واشنطن وسياستها في المنطقة بالقول إن الانتفاضة تعيق هذه السياسة التي يسعى كولن باول إلى تطبيقها وتجعلها أكثر صعوبة، وان معالجتها لهذا الوضع تتطلب "تبريد" هذا الملف بممارسة الضغوط على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لوقف اطلاق النار، ثم توقف الانتفاضة ك"شرط" يجعل الطريق ل"تحمية الملف العراقي" سالكاً! خلاصة هذه الآراء والمواقف هي اشارتها إلى أن الاهتمام الأميركي بالملف العراقي الذي يتجلى بصياغة سياسة جديدة لمواجهة النظام في بغداد والسعي لتغييره، أو اطاحته، وتطبيق البرنامج المعدل للعقوبات المقترح، إنما يتم على حساب الملف الفلسطيني وعلى حساب استمرار الانتفاضة، وكذلك على حساب تطلع السلطة الفلسطينية وياسر عرفات للعودة إلى مائدة المفاوضات بالوتيرة والمظاهر ذاتها التي كانت عليها في عهد كلينتون... أي أن ثمة ما ينبغي عمله، افتراضاً، للملف الفلسطيني والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، على حساب الملف العراقي، بتحويل الاهتمام الأميركي عنه، بطيّه أو وضعه "على الرف" حتى اشعار آخر! لا شك، ان خللاً مروعاً في النظر إلى الأوضاع وتحليلها يولد هذه الرؤية الخاطئة للعلاقة بين الملفين الفلسطينيوالعراقي، بما يجانب الحقيقة ويتجاهل الوقائع، بتقديم قضيتي الشعبين الفلسطينيوالعراقي على أساس "المقايضة" وهو أمر يسيئ، دون شك، للقضيتين وشعبيهما في آن. وإذا لم يكن واقعياً مطالبة واشنطن تحديد أولويات أجندتها حيال أي ملف، ومنها الملفين الفلسطينيوالعراقي، لأن مصالحها، أولاً، هي التي تحدد ذلك، فإن من غير الواقعي أيضاً اغراءها ب"مقايضة" تقوم على كسب تأييد الدول العربية في دعم خطتها ل"العقوبات الذكية" في مقابل تبديل سياستها ازاء الملف الفلسطيني وإسرائيل. إن عدم واقعية هذا الافتراض للمقايضة، والرؤية الخاطئة للعلاقة بين الملفين تؤكده المحاججة التالية: إذا كان البرنامج المعدل للعقوبات التي تريد واشنطن فرضه على العراق يصب في مصلحة العراقيين ومصلحتها بالطبع وضد نظام بغداد في الوقت نفسه، فإن مقايضته، بوهم تعديل واشنطن سياستها تجاه الفلسطينيين وإسرائيل، هو أمر يدعو للدهشة والاستغراب! ألم يكن من الأفضل "اغراء" واشنطن ومقايضتها بمواقف ومصالح تستطيع البلدان العربية تقديمها واتخاذها، من دون أن تلحق الضرر بشعوبها وبالشعب العراقي، كزيادة انتاج النفط مثلاً، أو غير ذلك من الاجراءات والمواقف؟ أما إذا كان سعي واشنطن لتطبيق "العقوبات الذكية" لا يصب في مصلحة الشعب العراقي، بل لمصلحة النظام استطراداً، فما هي "الحكمة" التي يراها أصحاب الرؤية الخاطئة، في تأييد الدول العربية ودعمها لهذه العقوبات ومقايضة ذلك بوهم تغيير واشنطن لسياستها ازاء الصراع الدموي الدائر الآن بين الشعب الفلسطيني وحكومة أرييل شارون وجيشها؟ واستكمالاً لذلك، ففي حين يرى أصحاب تلك الرؤية الخاطئة أن "تبريد" الملف الفلسطيني - الإسرائيلي بوقف النار ووقف الانتفاضة هو "الشرط" أو المقدمة ل"تحمية" الملف العراقي والسعي لفرض العقوبات الجديدة، بما يتطلبه ذلك من ممارسة الضغط في شكل متوازي على عرفات وشارون، فإنهم يعترفون في الوقت نفسه أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول إنما يعمل لإخراج عرفات وشارون من المأزق الذي وصلا إليه، بل ان عرفات يتطلع بشغف لوقف النار واستئناف المفاوضات باعتبار ذلك "خشبة الخلاص" له مما يجري وتداعياته المحتملة. وفي ضوء ذلك يطرح السؤال: هل أن بقاء النظام الحاكم في بغداد وسياسته "الراهنة" حيال الوضع الفلسطيني والصراع ضد إسرائيل، وكذلك موقفه الرافض بشدة للبرنامج المعدل للعقوبات، يخدم الانتفاضة والسلطة الفلسطينية، بل والقضية الفلسطينية بوجه عام؟ ربما يرد بالايجاب على هذه التساؤلات المستفيدون سياسياً ومادياً من نظام بغداد وسياساته، وكذلك السلطة الفلسطينية وتنظيمات أخرى، ترى في وجود هذا النظام وسياساته "ورقة" مفيدة يمكن استخدامها وتوظيفها في الصراع والمفاوضات، ومنها المزايدات التي يطلقها النظام وتحريضه لبعض الشارع العربي ضد الولاياتالمتحدة وتهديده بإعادة امتلاكه لأسلحة الابادة الجماعية. على أن الرهان على هذا النظام لتوظيف مواقفه وسياساته لمصلحة الانتفاضة، والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية هو رهان خاسر. ففضلاً عن انعدام أية إمكانية لتوظيف تلك المواقف والسياسات، فإن هذا النظام ذاته عمل، ويعمل، على توظيف وتسخير الانتفاضة والقضية الفلسطينية لمصلحته، خصوصاً لاستمرار قمعه الشعب العراقي واستبداده لبقاءه في السلطة. وإذا كانت سياسة النظام المسيئة للقضية الفلسطينية طوال ثلاثة عقود معروفة للجميع، فإن سياساته وشعاراته "الثورية" الراهنة بتأسيس "جيش القدس" وارسال وحدات عسكرية إلى حدود العراق مع الأردن، وهو يعرف استحالة وصولها إلى حدود فلسطين، وتبرعه ببليون يورو، وهو يعرف استحالة إقراره من قبل مجلس الأمن، فضلاً عن تحريضه لقسم من الرأي العام ضد الولاياتالمتحدة وضد عدد من الدول العربية باتهامها بالتخاذل أو التواطؤ مع الأعداء، هي مجرد سياسات تهدف إلى الدعاية وكسب تعاطف الرأي العام بطريقة مضللة، ليست في مصلحة الانتفاضة ولا القضية الفلسطينية. إن الرؤية الصائبة، البديلة للرؤية الخاطئة للعلاقة بين الملفين الفلسطينيوالعراقي، هي الرؤية التي تنظر للقضية العراقية وملفاتها النظرة ذاتها للقضية الفلسطينية والانتفاضة، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل منهما... رؤية ترفض تحقيق "مكاسب" لهذه القضية على حساب القضية الأخرى، أي رؤية تؤيد وتبارك كل جهد أو مبادرات عربية ودولية، بما فيها الأميركية، الهادفة إلى تقديم الحلول والمعالجات، الموقتة أو الدائمة، لأي من الملفين الفلسطينيوالعراقي، مثلما هو الموقف من البرنامج المعدل المقترح للعقوبات التي قد يقرها مجلس الأمن نهاية هذا الشهر باعتبارها حلاً موقتاً يخفف من معاناة الشعب، إذا طبقت، وتشدد الخناق على النظام، وهو الأمر الذي يبرر تأييد الدول العربية ودعمها لهذا البرنامج الذي ربما يخدم تطبيقه القضية الفلسطينية والانتفاضة بالحد من مزايدات النظام في بغداد عليها، التي تشل من فسحة المناورة والتكتيك لدى القيادات الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذين ليست أيديهم وحدها في النار، إنما كل وجودهم في لهيب الانتفاضة. * كاتب عراقي، لندن.