هل يمكن استخلاص معالم القصة النسائية العربية من خلال مختارات قصصية لعشر كاتبات عربيات؟ ثم اي علاقة تجمع بين القاصات العربيات اللواتي ينتمين الى اجيال مختلفة؟ عشر قصص لكاتبات عربيات اختارها هنري دياب ونقلها الى السويدية مع شبرستين يوهانسن ومارتيا روس صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بالاشتراك مع دار الكتاب، السويد، والغلاف للفنان السوري البارز فاتح المدرس. تراوح القصص، وهي بالعربية والسويدية، بين التقليدية والتجديد، وتكشف الاختلاف بين كاتبات ولدت أولاهن سميرة عزام في 1927 وآخرهن نافلة ذهب وبثينة الناصري في 1947، فتتيح للقارئ السويدي الاطلاع على الاختلاف الذي طرأ على وضع المرأة العربية وتعبيرها منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم. تستخدم الكاتبة اللبنانية اميلي نصرالله صوتين في "ليلى والذئب" - عن الأم التي تبدأ بتحذير طفلتها من الذئاب منذ المهد. ترنم لها وتنبهها في الوقت نفسه الى الذئب الذي يرتدي أحياناً وجه أمير ويغريها بالوعود والخدمات، أو يتظاهر بأنه ناطور الكروم ليكسب ثقتها. "اذا أمكن، بدلي الطريق... ولا تدعي الحيلة تنطلي عليك، آه، كم هو محتال يا ليلى. كم هو ذكي، ومحتال" ص 10 و11. لكن هل تستطيع الفتاة التعلم من دروس أمها؟ تلتقي الذئب في طريقها الى بيت جدتها وتفاجأ باسمه: "أبو كاسب أو أبو جعدة". يمدح لطفها وجمالها وعينيها النرجسيتين وفمها العسلي وأنفها الأشم ويقلب المعادلة بزرع الشك في الأم: "كيف تركتك تخرجين وحدك والغابة مسكونة بالذئاب والوحوش المفترسة؟" ص19. رمز الخطر يصبح مثال الحنان والحماية، أما الأم فتصير مخادعة: "كيف أخافتها وفي الغابة مثل هذا المخلوق اللطيف حتى الانكسار، الدافئ الهمس، الرقيق اللمسات؟" ص 20. تستسلم للذئب الذي "يملأ كل فراغ بحضوره" وتؤمن ببطلان حقائق الجيل القديم، وتتركها نصرالله الهادئة اللغة مغمورة بالطمأنينة والفرح الى أن تتهافت معارفها الجديدة. رمزية نصرالله في الكتابة عن الأمومة تقابلها واقعية امينة لدى الكاتبة السعودية هيام المفلح. في "يوم طارت ابنتي" خوف صارخ على الطفلة عند ظن الأم انها ضاعت. قد تعرف كل أم مثل هذا الخوف في ظرف ما، وتفقد قدرتها على التعقل لاختلاط الحب بالمسؤولية أمام الرجل. لهذه الأولوية في القصة التي تشدّد على توصيات الزوج: "لا تنسيها في زحمة الضيفات وكثرة القيل والقال. أعرفك!" ص 27. حتى ان المفلح تجعل الوالد أكثر أمومة من الوالدة: "وكأن قلبه تنبأ بحدوث شيء ما". كان يمكن أن تكون القصة أكثر دلالة لو ركزت المفلح على عجزها عن البحث لسبب عبثي: "يا إلهي... ليس في البيت رجال، كلنا نساء وأطفال فقط. من سيبحث لي عنها خارج البيت؟" ص 28. لكن المفلح لا تربط قيود المرأة باختفاء الطفلة، وتكتفي بالأمومة موضوعاً مع استخدامها لغة الرجل ضد المرأة في صدري فحيح أم ثكلى، ص 30 واعتمادها لغة موحية جنسياً باتت مألوفة في المجتمعات التي تضيّق على المرأة. "سكنتني رعشات متوالية" تقول لتصف ارتياحها عندما تكتشف ان الطفلة في البيت. الكاتبة الفلسطينية سميرة عزام 1927 - 1967 تتناول حساسيات المرأة الصغيرة المثيرة للضجر في "الذكرى الأولى". تهيئ الزوجة عشاء خاصاً في ذكرى زواجها الأولى وتشتري هدية لزوجها، وتواجه نسيانه المناسبة كأنه كارثة. مثل هذا الاحتفال كان "تغرباً" لا يدخل ضمن تقاليدنا لدى جيل عزام، ولم تولد قصتها فيَّ إلا الاحساس بالتظاهر وخلق معاناة كاذبة. لا أقول ذلك لأن عزام فلسطينية عاشت النكبة وامتنعت عليها بالتالي "رفاهية" الأحاسيس والحياة الطبيعية، بل لأن الشابة في قصتها نموذج المرأة التي حصرت حياتها بالرجل واستقت فرحها من الآخرين. ولماذا "تغص بكل شيء" بدلاً من أن تصارحه وتستمتع معه بالعشاء من دون مشاعر مأسوية وانغلاق على النفس. كانت "الذكرى الأولى" أكثر وقعاً لو تذكر الزوج ونسيت الزوجة وعنت حقاً ما تقوله عندما طلبت منه النظر الى الروزنامة. "تاريخ اليوم؟ لست أذكره. انظر في النتيجة! الى الحائط هناك". تخرجنا الكاتبة المصرية رضوى عاشور الى عالم مختلف. امرأة وحيدة في "رأيت النخل" مهووسة بالزراعة ترى في حلمها وجوه الأهل والأقارب في النخيل. لو كانت فوزية تعيش في الغرب ما كان هوسها أثار الاستغراب لارتباطه بالبحث عن الحياة في النبات لدى من يعاني العزلة والوحشة. تتعرض للسخرية وتُطعن في عزوبتها عندما تطلب أن تعتبر أماً "أنا أم الزرع". فوزية تعبّر بوضوح عن الاستبدال والتعويض عندما تزرع عود ريحان فور معرفتها بموت ابن عمها، وتتهم بالجنون بدلاً من أن تلقى يداً حانية في مجتمع يفتقر الى الرهافة ومحاولة فهم الآخر. "صريف أقلام الملائكة" لحنان الشيخ هي المقولة المضادة ل"ليلى والذئب" لإميلي نصرالله. الأم الحريصة على التربية الحسنة والخضوع للتقاليد تقابلها المرأة المتمردة التي تترك زوجها لتلتحق برجل تحبه. كان ينقصها فقط ان لا تتزوجه لكي يكتمل تمردها ورفضها العادات السلفية الجاهزة التي لا تناقش. لغة نصرالله مضبوطة متكتمة ولغة الشيخ صريحة عن سابق تصور وتصميم. نصرالله لا تخرج من اطار السيدة الرفيعة التي تستطيع أن تنقل الرسالة من دون تصريح، وأقصى ما قالته في وصف العلاقة الجسدية كان ربما في "تلك الذكريات": "قدمت له جسدي". الشيخ تصدم قارئها وتجد متعة في ذلك، وهذه نقطة قوتها الأساسية. تتكلم حنان الشيح علناً في مقابلاتها عن أمّها التي تركت والدها لتلتحق بالرجل الذي تحبه وكأن النسوية تجمعها مع جيل والدتها. في "صريف أقلام الملائكة" تجلس شادية مع النساء أمام جثة زوجها الثاني الميت وتستحضر ذكرياتها معه. تتوقف عند لحظة معينة في لقائهما: "اللحظة الأولى فقط، اللحظة التي كانت تفوق بزخمها ما يليها، حتى الشعور بالنشوة" ص 59. الفارق كبير بين طريقة حزن شادية وطريقة حزن الآخرين التي تلخصها عمتها: "لا تضيفي أقراص النيل الى شراشفك، يجب ألا يرتفع صوتك عن الوشوشة، خصوصاً في حضور رجل... إذا أردت النحنحة فادخلي الحمام..." ص 57. العمة ترى موت الزوج الثاني، أي الشهوة والحق فيها وفي اشباعها، عقاباً على ترك الزوج الأول وتأمرها بالعودة اليه: "عليك بالتوبة. عليك أن تعودي من أهل اليمين" ص 60. لكن تفكير شادية يسير في خط موازٍ. تتذكر الأقوال التي تعد من يتركن أزواجهن بالنار ولا تجد بأساً في ذلك. ما يهمها في هذه اللحظة إبعاد صورتها مع زوجها الأول في السرير وصورتها معه في الجنة. "هل نامت ليلى مع الذئب؟" كأن الشيخ تسأل لتجيب "المحظوظة تمتعت بذلك". تروي الكاتبة المصرية سلوى بكر في "الليل يليق بالعسكري" مجيء شابات متبرجات الى حفار القبور قبل الرابعة صباحاً لكي يدفن والدهن المتوفى. كان عسكرياً مثل جدهن وعمهن، وأساء معاملتهن وحرمهن التعلم وإرث والدتهن الذي بذره على نفسه. "حرمهن من نعمة الشمس ولا يحق له الدفن تحت الشمس... معززاً مكرماً كبقية الناس" ص 73. احتفلن بموته وتحررهن فصنعن الحلوى ولبسن أجمل ثيابهن وصبغن وجوههن، وسيحرقن بزته العسكرية بعد الدفن ويمتنعن عن ذكره طوال حياتهن. كان يمكن أن تنتهي القصة الجميلة بتغير مشاعر حفار القبور نحوهن من النفور والعداء الى التعاطف، لكن بكر فكرت لا شك بصيادي السهرة وأنهتها بتأديب الفتيات ففقدت القصة بعض قيمتها الفنية حرصاً على الأخلاق. في "رائحة الجسد رائحة الرماد" تحكي الكاتبة الكويتية ليلى العثمان قصة الحب الذي تحول الى كراهية، وذعرها على عودة الحبيب السابق الذي واجه رفضها بالاغتصاب. بات غسل الجسد بعده مألوفاً في الأعمال الفنية، لكن العثمان تسهب في وصف قذارة جسد المرأة مع رجل ترفضه واستعادته رائحة شهية كالنعناع عندما تواجهه وتتغلب عليه بلغة تشكو التصنع أحياناً. الكاتبة الفلسطينية هالة بيطار الناشف تطالب بحق طبيعي للرجل والمرأة في "أريد أن أحب وأحلم". "هل المفروض ألا نحس فقط لأننا فلسطينيون؟" تسأل الفتاة حبيبها الذي يجد أن "الظروف السياسية" تمنع ارتباطهما. "وما دخل السياسة في زواجنا؟ لسنا سياسيين، نحن أناس عاديون، بشر كخلق الله، لنا مشاعر وأحاسيس" ص 94. لكن بحثها المسعور عن شيء من الحياة الطبيعية وسط المعاناة ينتهي بإلقاء قنبلة مسيلة للدموع قربها، فهل يقنعها الخطر الحاضر والقريب بالتنازل عن حقها في رجل وبيت وأطفال؟ الكاتبة التونسية نافلة ذهب تقدم صورة حديثة للرجل والمرأة العربيين في "سليمة والرصاصة" إذ تجعل الحبيب يبيع جسده للرجال في ألمانيا بمعرفة الفتاة وقبولها. وتختار العراقية بثينة الناصري في "وطن آخر" ضياع الهوية في المهجر موضوعاً لها فتتابع صدمة الرجل الذي يضطر الى استئجار غرفة تحت مستوى الشارع: "في أمسياته الوحيدة الآتية سيقعد هناك يتفرج على الأقدام الدابة على الاسفلت" ص 114. تكتب نهايتين لقصتها وتقود بطلها بحياد تام الى الادمان وسط رفض مواطنيه العرب تقديم اي دعم عاطفي له في محاولته التمسك بهويته.