الكتاب: حمى أيار المؤلف: يونس الأخزمي الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر تضم مجموعة يونس الأخزمي القصصية "حمى أيار" نحو خمس عشرة قصة تتفاوت بين الطويلة والقصيرة تنقسم الى قسمين: حمى أيار وهذيان، ويدور معظمها في أجواء الغربة ومعاناة الإنسان العربي هناك، والأشواق الى الوطن. هذا هو الموضوع الكبير الذي يشغل أفكار هذه القصص، لكن المؤلف يستعيض عن البناء القصصي بالبناء اللغوي، وهذا هو المأزق الرئيسي في هذه المجموعة. لقد حاول الكاتب أن يعرض عضلاته في الصعود باللغة الى أدق أسرارها ولكن على حساب النص... وكان يمكن لنا أن نغفر له العناية اللغوية، لو كان حقاً قد كتب لغة سليمة،.ولكن يا للأسف امتلأت القصص بأخطاء لغوية لا يمكن السكوت عنها. ان عدة الكاتب أولاً وأخيراً لغته. فإذا لم يعتن باللغة فكيف إذاً يعطينا نصاً قصصياً جيداً؟ وفي ما يبدو من تواريخ كتابة القصص أن الرجل يعيش في الغرب، لكن هذا لا يبرر له عدم اتقان اللغة العربية طالما أنه يكتب بها، وكي لا نظلم الرجل فإنه يمتلك امكانات قصصية جيدة، لكن، كما ذكرت سابقاً، يضيع هذه الإمكانات عندما يحاول أن "يتفذلك لغوياً" بينما كان المطلوب منه أن يهتم بالتعبير الجيد عن الفكرة. وموضوع الغربة والاغتراب كبير جداً. وكم من كتاب اشتهروا عندما عبروا عن فكرة الغريب، والصراع بين الشرق والغرب في المفاهيم والتقاليد والأخلاق. موضوع كبير وثري في توجهاته ولكن صديقنا الأخزمي لم يستفد من هذه الفرصة التي اتيحت له طالما انه يعيش في الغرب. نأتي الى القصص، فنرى في "قميص ليلى" التي يستوحيها الكاتب من جو القرية في الوطن البعيد، انها قصة ذات جو، جو القربة وحكاياتها وسهراتها. فهي تروي قصة حسناء يخطفها فارس ما وتختفي من دون أن يعرف أحد مصيرها... ويحاول الكاتب هنا أن يصور جو القرية ومناخها فالناس كأنهم فيها عائلة واحدة. ويتضامنون أثناء الملمات والفواجع، ويتحدون في اختفاء هذه الفتاة، كما لو أنها ابنة كل واحد منهم... من هو هذا الغريب الذي خطف حسناءهم من دون أن يصدر عنها أي صوت. ومع أن هناك قروياً آخر يتصور أنها تحبه وأنها مخطوبة له. فهو الذي يكتشف حادث الهروب. وهكذا شاع غموض الهرب من دون تبرير أو توضيح. هكذا بقيت البلدة ذلك المساء والأيام التي تلته هائمة في حزن جديد عليها لم تعرفه من قبل، لم يحدث قبل ذلك أن اختفى عن البلدة شخص ما هكذا فجأة ولا خُطف أحد، ولا قُتل أحد... شيء جديد حدث أشعل قلوب البلدة كلها، وبدأ القوم يتوجسون شراً... ولم يبق مع مسعود عاشق الهاربة سوى قطعة من قميصها. قصة "حالة تربص" انها حالة تربص في الموت القوي الجبار المنتصر في النهاية على الإنسان الضعيف، قصة كادت تنجو من التكرار، لو أن الكاتب أعاد صياغتها مجدداً، فالموضوع قوي، لكن المعالجة لم تأتِ على مستوى قوة الفكرة والموضوع. اما "تلك الغرانيف" فقصة كابوسية أراد الكاتب فيها أن يعبر عن ندم بطلها الشديد لأنه لم يكن مؤمناً إيماناً جيداً، ولا يشعر هذا الشعور إلا عندما يواجه اليوم الأخير في الحياة... أي القيامة. فيتلوى البطل بين حر حارق ومطر بارد لا ينقطع ويجرفه سيل الأمطار مع أخيه في وقت يتمنى على الله أن تتوقف المأساة كي يصلي له ويحج الى بيت الله. قد تكون هذه القصة من أفضل القصص على الإطلاق بسبب قدرة الكاتب على خلق هذا الجو المتوتر، ولكن للأسف في لحظات نرى القصة في ذروة توترها، ثم سرعان ما تهبط الى اللاشيء... مما يفقدها التناغم بين الشكل والمضمون. "موج البحر" رمضان. رجب. الأم التي تنتظر ابنها يعود من البحر شخصيات القرية الوادعة... الذين يأخذ البحر منهم أبناءهم... كل ذلك يتحرك بسردية بطيئة من دون أن تخرج بنتيجة أو عبرة... إلخ. "سماء ياسمين" هي قصة تلك الفتاة الصادقة الى أبعد الحدود الى حد أنها ترفض أن يقبلها أحد، وعندما قبلها ابن عمها اشتكته الى أبيه، فضربه ضرباً مبرحاً فتندم ياسمين وتحس بوجع ضميرها لأنها سببت لابن عمها كل هذا الأذى بسبب قبلة. ولكن نكتشف في سياق القصة أن ثمة ميولاً لديها نحو صديقتها حنان "الحلوة... ذات الخدود الوردية والجسد الذي يثير عيون الشباب"... وهذا التعبير لياسمين يوشي بهذه الميول، بل انها ترفض أن تكون صديقتها على علاقة مع شاب "أما أنا أو هو" وبعد أيام اتصلت حنان وقالت لها انها نادمة وانها لن تتكلم معه ثانية أبداً"، و"حنان تحبني... اكتشفنا بعدها أنه من المستحيل علينا أن نفترق ولو ليوم واحد". لا تبين أهداف هذه القصة، والموضوع كما فهمته كبير وخطير... فهل أراد الكاتب هنا أن يعبر عن أحاسيس مراهقة وحسب... ويتركنا في نهاية غامضة لا نعرف فيها رد فعل الفتاة الأخرى... قصة فيها توتر وقد تكون من أفضل القصص في المجموعة. وإذا انتقلنا الى قصة "الفرصة الأخيرة" التي تروي حكاية زوج مع زوجته وابنه في بلد غربي، فنرى أي معاناة يعاني الزوج الذي يرى جميلات الغرب متاحات له فيما زوجته تبدو له الآن غليظة وليست هي المرأة التي كان يحلم بها... بالإضافة الى طفل مزعج في كل شيء ولا يتوقف عن البكاء والصراخ... ويحلم الرجل أن يهرب في الليل بعد أن تنام الزوجة ليتعرف الى حسناء أجنبية في حانة قريبة... يصفها لنا من خلال أحلامه رشيقة جميلة شقراء شهية... وتكاد القصة تنبىء أن كل ذلك حقيقة ولكن في نهايتها نقع في الحيرة: هل ذهب لملاقاة الأجنبية أم لا... انه التوق الى الحرية التي توفرها بلاد الغرب لكل انسان فيها... لكن البطل هنا يغرق في أحلامه التي لا نعرف ان كان قد خرج منها أم لا. "العاصفة" لعلها القصة الأقل جودة بفكرتها ومضمونها. وهي تروي حكاية عائلتين واحدة فقيرة وأخرى غنية والرجل الغني يغتصب ابنة الرجل الفقير وابن الفقير يحلم بأن يتزوج ابنة الغني. وتأتي العاصفة لتحصد كل هذه الأحلام. أحداثها غير مبررة وغير مقنعة. هذيان الجزء الثاني الذي حمل عنواناً رئيسياً هو "هذيان" بدت قصصه أكثر تماسكاً كل قصة لها مقدمة شعرية، فبدت هذه المقدمات كأنها ليست من نسيج هذه القصص... قصائد بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى... الى حد كنت أتمنى على الكاتب أن يصرف النظر عن كتابة القصة ويتفرغ لكتابة الشعر، إذ استطاع في هذه المقدمات أن يعطينا وجهاً آخر له. ولنأخذ مثلاً هذا المقطع: "في الليل / والموسيقى تتصاعد من بعيد / يقلقني سفر جديد / وأفكر أكثر من مرة / في الرائحة الغريبة التي اكتسبتها / وفي دمي الجديد / ورأسي المشتت / وأبقى أفكر ملياً / بعد أن ألقي نظرة على الساعة / ترى متى ينتهي هذا الأرق الطويل / وأنام؟". أما القصص فتختلف اختلافاً جذرياً عن قصص القسم الأول، منها مثلاً ما هو مرتبط بالماضي. وفيه محاولة مستميتة للانتقال الى الحاضر... الى الحياة المتدفقة كما نرى في قصة "صوري القديمة الهرمة" فيبدو لنا البطل أنه ليس بقادر على الخطو نحو المستقبل. انه راسخ الخطى في الأرض من دون أي محاولة للتمرد أو التحدي مع أن هناك من ينتظره من غير شك. ولا بد هنا من الإشارة الى القصة الأخيرة "التذكرة" المحبوكة جيداً والمترابطة، والسبب في ذلك أن الكاتب ابتعد فيها عن الترهل اللغوي، وجعل منها قصة متوازنة، وبسبب ذلك كانت أقصر القصص وأجودها. لم أشر الى بقية القصص حتى لا يطول بنا الكلام، على أنني أتمنى على الكاتب يونس الأخزمي، أن يتريث قليلاً قبل أن يعاود الكتابة، وأن يدخل مناخ الشعر الذي لمسته لمس اليد.