بلغ الاستشراق ذروة انتشاره خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبدأ في الانحسار عقب الحرب العالمية الثانية إذ فقد علة وجوده بتراجع العقلية الاستعمارية التي حفزت خططه ومراميه. وبذلك انفض معظم علماء الغرب عن الدراسات الاستشراقية بمعناها التقليدي، وعكفوا على الدراسات العلمية الحديثة المتعلقة بالشرق في مجال البحوث الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. هذه الدراسات بدأت تتعثر في الآونة الأخيرة نتيجة السياسات والمفاهيم الغربية الحديثة، وظهور "الاستغراب" في الشرق، واعتماد هذا الشرق على التراث الغربي الحديث في ثقافتنا العلمية والوطنية، وسنتناول هنا بعض المدارس التي تعنى حالياً بالدراسات العربية والإسلامية في الغرب. المدرستان الانكليزية والالمانية نبدأ بهذه المدرسة لأنها كانت - وما زالت - تعتبر مع المدرسة الفرنسية والالمانية من أبرز مراكز الاستشراق سابقاً في العالم. فهذه المدرسة هي أول من ابتدع عبارة "استشراق" و"مستشرق" عام 1779م. كما ان الصلات بين الاستعمار الانكليزي والشرق تعود الى قرون بعيدة، مما أدى الى اهتمام الانكليز بالدراسات العربية والإسلامية لدوافع سياسية ودينية وتجارية. وما زالت الجامعات والمعاهد الانكليزية تعنى بهذه الدراسات، وتظل تشكل مركز جذب للجديد من الطلاب من جميع أنحاء العالم. وتعتبر لندن واكسفورد وكمبريدج، من الجامعات العريقة في هذا الميدان. كما يحظى معهد الدراسات الشرقية والأفريقية التابع لجامعة لندن بشهرة واسعة في مجال هذه الدراسات. وهو يتولى اصدار مجلة من أبرز المجلات التي تتناول القضايا الشرقية. وانضمت الى هذه الجامعات أخيراً، جامعة درهام التي أنشأت وحدة وثائق الشرق الأوسط في عام 1970 لمتابعة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في هذه المنطقة. وتأسست في انكلترا لجنة مكتبات الشرق الأوسط، وتضم مجموعة من أساتذة الجامعات والمتخصصين في علم المكتبات، وتجتمع دورياً لدراسة المشكلات الفنية التي تواجه الدراسات الشرقية والإسلامية في بريطانيا. ما زالت المدرسة الألمانية تحتل مكاناً متميزاً في مجال الدراسات العربية والإسلامية. وهي تعد من أعرق المدارس بما تحتويه من عناصر الجدة والخصوصية. ومن أهم الجامعات المشهورة بهذه الدراسات، نذكر جامعة توينغن التي تضم معهداً لهذه الدراسة يتولى الآن وضع أطلس الشرق الأوسط الذي بدأ العمل فيه منذ عام 1969. وهناك أيضاً جامعات برلين وميونخ وفرايبورغ وهيدلبرغ. ويمكن تقسيم الدراسات العربية الإسلامية المعاصرة لهذه المدرسة الى الدراسات العربية التقليدية بكل ما تمثله من دراسة التراث والحضارة وفق المفاهيم القديمة، وينسب أكثرها على دراسة المتصوف. والدراسات التحديثية، وهي الدراسات التي ترى في التفسير التاريخي للفكر الإسلامي منطلقاً لإحداث رؤية جديدة للعالم الإسلامي المعاصر. والدراسات العربية السياسية. وما زالت مجلة Der Islam تصدر حتى الآن حافلة بالبحوث والدراسات المتعمقة حول الشرق والإسلام، وهي صدرت لأول مرة عام 1910. ثم هناك ايضاً مجلة "عالم الإسلام Die Welt de Islam المتخصصة في دراسات وأبحاث العالم الإسلامي المعاصر، وصدر العدد الأول منها في عام 1913. المدرسة الهولندية وهي مدرسة لها باع طويل في حقل الدراسات العربية والإسلامية، اشتهرت منذ قرون بأساتذتها وعلمائها الذين أثروا المكتبة العربية بتحقيقاتهم لكتب التراث وبنشرهم لنفائس المؤلفات التاريخية والدينية والأدبية. واستحوذت جامعة ليدن - التي تأسست في القرن السادس عشر الميلادي - على صيت واسع في هذا المجال، وما زالت في صدارة المؤسسات الجامعية الرائدة. وإضافة الى جامعة ليدن، هناك جامعة امستردام واوترخت. وكلها جامعات تابعة للدولة، ولذلك بدأت تتعثر فيها الدراسات العربية والإسلامية الآن نتيجة سياسة التقشف التي تتبعها الدولة، وما قامت به من الغاء بعض كراسي هذه الدراسات، وتقليص البرامج من أجل تخفيض النفقات. ومن المعاهد المشهورة في هولندا "السعيد الشرقي" التابع لجامعة أوترخت، وهو يضم مكتبة متخصصة وقاعات للمحاضرات. وهناك أيضاً مركز الدراسات الأفريقية في ليدن، وقد توقفت فيه أخيراً البرامج الخاصة بالدراسات العربية والإسلامية المتعلقة بأفريقيا، وذلك عقب الخلاف الذي نشب فيه في شأن سياساته. كما تقلصت في الآونة الأخيرة أنشطة مؤسسة "دي خويه" في ليدن نظراً للصعوبات المالية التي تواجهها. المدرسة الاسبانية وعلى النقيض من تقليص أنشطة المدرسة الهولندية كما أسلفنا، تمر الدراسات العربية والإسلامية في اسبانيا بفترة ازدهار منذ عودة النظام الملكي في اسبانيا. ولا عجب في ذلك، فاسبانيا ليست بالغريبة عن الحضارة الإسلامية التي امتدت في ربوعها لقرون طويلة 711م - 1492م، وازداد الاهتمام اليوم بهذه الدراسات واتسع نطاقها فشملت دراسات في علم الاجتماع والاقتصاد والزراعة والسياسة، وتضم جامعة مدريد وشقيقتها جامعة مدريد الحرة اوتونوما نخبة من الأساتذة العاملين في ميدان الدراسات العربية والإسلامية. وهناك عدد لا بأس به من الجامعات والمعاهد الإسبانية التي تختص بتدريس اللغة العربية والحضارة الإسلامية والآداب والتاريخ، ونذكر منها هنا جامعة غرناطة وبرشلونة وقرطبة واشبيلية وسرقسطة. وثمة معاهد تهتم بالدراسات العربية والإسلامية منها المعهد الإسباني العربي للثقافة في مدريد، وهو يتبع الادارة العامة للعلاقات الثقافية في وزارة الشؤون الخارجية الاسبانية. أما معهد ميغيل آسين بلاسيوس للدراسات العربية في مدريد، والذي أنشئ عام 1944 على أنقاض مدرسة الدراسات العربية التي كانت تأسست عام 1932، فهو يزاول نشاطه ويصدر مجلته الدورية. ويعنى معهد الدراسات العربية في قرطبة بالدراسات الحديثة وبعقد المؤتمرات حولها، وكذلك بالتنقيب عن الآثار الإسلامية في اسبانيا والمحافظة عليها. المدرسة البولندية تطورت الدراسات العربية والإسلامية في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية في لتوف وكراكوف ووارسو. وحافظت هذه المراكز على التقاليد العلمية للاستشراق بعد تطويرها على يد نخبة من العلماء البولنديين الذين دفعوا بهذه الدراسات الى الأمام فأصبحت تشمل الأدب العربي والثقافة والترجمة. هكذا تُرجمت مؤلفات عربية معاصرة الى اللغة البولندية، منها "الأيام" لطه حسين، ومختارات من يوسف ادريس وتوفيق الحكيم وغسان كنفاني ونجيب محفوظ إضافة الى ترجمة القرآن الكريم وكتب التراث مثل حي بن يقظان لابن طفيل ترجم سنة 1958، و"المدينة الفاضلة" للفارابي 1965، و"كتاب الاعتبار" لأسامة بن منقذ 1975. ويمثل قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة وارسو أحد المراكز الرئيسية في بولندا، ويليه في الأهمية قسم الدراسات العربية في كراكوف. المدرسة الأميركية وهي حديثة العهد بالدراسات العربية والإسلامية، ولم تنل فيها هذه الدراسات حظاً موفوراً الا خلال العقود الخمسة الماضية. بدأت هذه الدراسات على يد أساتذة هاجروا الى أميركا كفيليب حتي اللبناني الأصل وسوريال عطية المصري، فجعلا من جامعة برينستون وبيل مركزين مهمين للدراسات العربية الإسلامية. وحذت الجامعات الأميركية الأخرى حذوهما، فكثرت كراسي اللغات الشرقية وحضاراتها، في جامعات شيكاغو وميشيغن وهارفورد وكاليفورنيا وبنسلفانيا. واختلفت الدراسات باختلاف الظروف السياسية والاقتصادية. فبعد ان كانت معرفة الولايات المتحدة الأميركية بالعالم العربي لا تتعدى معرفتها بحكايات ألف ليلة وليلة، تغيرت الأمور حين بدأ التوسع الاقتصادي والتجاري لأميركا، ومن ثم بدأ اهتمامها بالبلاد العربية والآسيوية والأفريقية أكاديمياً، فأنشأت أقساماً خاصة لدراسة اللغة العربية وجغرافية العالم العربي وتاريخه. ويمكن القول ان الدراسات العربية والإسلامية بدأت في شكل جاد منذ 1945، ومرت بمراحل صعود وهبوط منذ عام 1979 تبعاً للتطورات السياسية في هذه المنطقة. وازدهرت هذه الدراسات بين 1980 و 1986 إثر قيام الثورة الإسلامية في ايران، ثم بدأت تنحسر تدريجاً عندما أخذت الجامعات في تخفيض موازنات اقسام الشرق الأوسط فيها. ويوجد الآن في الجامعات الأميركية الكثير من الأساتذة العرب أو الذين ينحدرون من أصول عربية أو آسيوية، وهم يحاولون تصويب النظرة الاستشراقية التي سادت عن العرب والمسلمين، والتعامل مع الدراسات العربية والإسلامية بصورة حيادية وعقلانية، ومعالجة المشاكل التي يتعرض لها المهاجرون العرب في المجتمع الأميركي. وبانبعاث الإسلام ونهضته في أميركا، تأثرت هذه الدراسات وهويتها بالدوريات والمجلات التي تعالج الأحداث العالمية من منظور اسلامي، مثل مجلة Inquiry Magazine والمجلة الإسلامية The Islamic Review Arabia، التي تأسست عام 1981، وتشكل أخيراً في جامعة فيلنوفا في بنسلفانيا، المجلس الأميركي لدراسة المجتمعات الإسلامية. وكانت تأسست رابطة دراسات الشرق الأوسط عام 1966، وتعمل على النهوض بدراسات الشرق الأوسط، وتضم معظم العاملين بحقل الدراسات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة وخارجها. وتصدر مجلتها الدورية "مجلة دراسات الشرق الأوسط" حافلة بالمقالات والبحوث التي تتناول دراسات تاريخية وجغرافية وعلمية وتراثية تتعلق بالشرق الأوسط. المدرسة الايطالية كانت ايطاليا أولى بلاد الغرب التي عرفت الاستشراق من دون ان تسميه، وكانت البندقية أولى مدنها التي تكلمت العربية بوصفها المرفأ التجاري الذي ربط الشرق بالغرب. كما ان ايطاليا من أوائل دول الغرب التي عرفت المطابع العربية. توطدت العلاقات بين العرب وايطاليا منذ الغزو العربي لصقلية وجنوب ايطاليا في القرن العاشر وحتى القرن الثالث عشر الميلادي. غير ان الدراسات العربية في ايطاليا لم تنضج وتصبح دراسات علمية إلا في القرن التاسع عشر الميلادي عندما احتلت جامعة روما موقع الصدارة وأنشأت كرسي لهذه الدراسات ضمن المدرسة الشرقية التي ألحقت بكلية الآداب، ومنها تخرج عدد كبير من العلماء الايطاليين مثل فرانشيسكو جبراينني الذي كرس حياته الطويلة لهذه الدراسات والعمل على رفع شأنها. وكان عضواً في المجتمع العلمي العربي في دمشق وفي المجمع اللغوي في القاهرة، ويتولى تلامذته الآن نشر الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في جميع انحاء ايطاليا. واللافت للنظر عدد الايطاليات المتخصصات في الدراسة العربية الإسلامية، وهي ظاهرة تكاد تكون فريدة في أوروبا. وهناك أيضاً جامعة نابولي ومعهدها الشرقي الذي تأسس سنة 1732 لهدفين: الأول اعداد الباحثين في حقل اللغات الشرقية، والهدف الآخر يتمثل في تخريج الخبراء في هذا المجال، وهو يصدر مجلة الحوليات Annali التي تعنى بالموضوعات الشرقية. أما جامعة ميلانو وجامعة فينيسيا وبالرمو. فهي مراكز بحثية مهمة تعنى بتعليم اللغة العربية للطلبة المبتدئين. وتأسس "المعهد الشرقي" Istituto per l'Oriente في روما عام 1921 بفضل جهود العلامة نللينو. وهو يضم مكتبة عربية مهمة وقاعة للمحاضرات، وله مجلته "الشرق الحديث" Oriente Moderno، وهي سجل حافل بالبحوث الثقافية والأدبية والاجتماعية والدينية المتعلقة بالدول العربية والإسلامية. المدرسة الفرنسية تأسست هذه المدرسة العتيقة سنة 1325. عني الفرنسيون بالدين الإسلامي عناية خاصة، فظهرت ترجمات للقرآن الكريم وللسيرة النبوية. وازداد اهتمام الفرنسيين بكل ما هو عربي وإسلامي بعد استعمارهم للمغرب العربي وتغلغلهم في حياة المغرب والجزائر وتونس وسيطرتهم على مقاليد الأمور في سورية ولبنان. أما الآن تحول الاهتمام الى دراسة العالم العربي تاريخياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً. وتعتبر جامعة باريس - السوربون بفروعها المتعددة، معقل هذه الدراسات، وتتميز السوربون بتفوق مستوى دراساتها العليا. ونوقشت فيها ابحاث ورسائل فلسفية وتاريخية وقانونية واجتماعية وسياسية تخص العالم العربي الإسلامي. المدرسة الروسية يعنى الجيل الجديد من المستعربين الروس عناية خاصة بالدراسات الشرقية سيما التراث الإسلامي للجمهوريات التي استقلت أخيراً عن روسيا. وما زال مركز الدراسات العربية والإسلامية في كل من موسكو ولينينغراد، يمارس جهوده. وتأسست مراكز علمية في جمهوريات آسيا الوسطى والقوفاز حيث تنشط حركة دراسة ونشر للمخطوطات الشرقية والعربية. ويرجع الفضل الى العلماء الروس المستعربين في الكشف عن مخطوطات عربية نادرة منها كتاب "المنازل والديار" لأسامة بن منقذ، والذي نشر نصه الكامل بالعربية في ليننغراد سنة 1961، إضافة الى دراسة وترجمة المواد الجغرافية والتاريخية لشعوب آسيا الوسطى التي تعود صلاتها الثقافية الى البلدان العربية الى قرون قديمة وترجمتها، وتحقيق آثار من تراثها نشره جريجوري شريتوف الذي حقق رسالة ابن فضلان عن رحلته الى منطقة الفولجا في القرن العاشر الميلادي. والمعروف ان الاستشراق الروسي كمدرسة علمية لم ينتظم عمله الا في أوائل القرن التاسع عشر وظهرت منابر لتدريس اللغة العربية في أشهر جامعات روسيا، مثل جامعة موسكو 1811. المدرسة الصينية لا عجب ولا غرابة في أن نختم هذه الجولة السريعة مع مدارس الاستشراق الجديد بالمدرسة الصينية! فالصين، وهي من بلدان المشرق، شهدت حركة حثيثة في مجال الدراسات الشرقية والإسلامية عقب تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949، وخصوصاً بعد انعقاد مؤتمر باندونج في 1955، إذ ظهرت حاجة الصين الى التعرف على الشعوب العربية والإسلامية في آسيا وأفريقيا. فقامت بإنشاء عدة معاهد بحثية خاصة. ونظمت الأكاديمية الصينية للعلوم دراسات منهجية منتظمة عن المسائل التاريخية، والسياسية الخاصة بدول الشرق الأوسط وايران، كما أصدرت بحوثاً علمية تتصل بالعقائد الدينية في هذه المنطقة. وفي 1962 تشكلت الجمعية الصينية للدراسات الآسيوية والأفريقية في بكين. وتأسس في عام 1982 المجلس الصيني للبحوث.