يحرص ابناء مدينة عامودة - التي تقع في شمال شرقي سورية - على اصطحاب ضيوفهم القادمين من خارج المنطقة الى حديقة صغيرة يسودها الصمت المهيب الذي يفرض ذاته على المرء من دون ارادته. في صدر الحديقة يقوم تمثال من البرونز ابدعه النحات الراحل محمد جلال: رجل يرفع علم الجزائر، حوله اطفال في عمر الورود، يلبسون بناطيل قصيرة الساقين، يحتمون به من النار القاتلة التي تتلظى حولهم: انه نصب يخلّد ذكرى شهداء سينما عامودة التي احترقت في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر عام 1960، وذلك في اثناء عرض سينمائي خصص ريعه لدعم نضال الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي آنذاك. كانت الصالة مكتظة بتلامذة المدارس الابتدائية، واندلع اللهيب الضاري فتساقط الاطفال الصغار كالفراشات بالعشرات. رجل واحد لا غير سيطر على الموقف، واندفع غير مبال بالبشارة التي اخبرته بأن ابنه الوحيد سليم معافى وأنقذ عشرات الاطفال قبل ان يتهاوى الجسر الحديد الضخم الذي كان يسند السقف فوق جسمه ليصهره. انه الشهيد محمد سعيد آغا الدقوري الذي كان واحداً من نحو ثلاثمئة هم ضحايا حريق سينما عامودة الشهير. لا توجد عائلة في عامودة الا وفقدت ابناً، او قريباً من اقربائها، في هذا الحادث الأليم. فقد اعتبرت هذه بدعة حسنة، قَبِل بها الكل، لتوافقها مع جلال الموقف وبراءة الشهداء الصغار. لقد فقدت شخصياً في هذا الحادث اربعة من ابناء عمومتي، الى شقيقي الذي كان يكبرني بأربع سنوات، الامر الذي ألزمني في ما بعد تحمّل مسؤولية الابن الاكبر في الاسرة. وكلفتني هذه المسؤولية طفولتي. مرّ الزمن، وحصل بلد المليون شهيد على استقلاله، فعمت الافراح في كل مكان. لكن فرحة عامودة كانت استثنائية، اذ احس الناس ان دماء اطفالهم لم تذهب سدى. فاستقرت الاحزان في مكامنها، وتحول عام 1960 الى نقطة استناد في ذاكرة اهل المدينة الذين ما زالوا يؤرخون احداثهم المهمة بموجبه. وفي المدرسة كانت غبطة لا استطيع تحديد ماهيتها تهيمن عليّ حين كنت اقرأ عن بطولات الشعب الجزائري. كنت امعن النظر في صور الشهيد الأمير عبدالقادر الجزائري، وأتابع بنهم ما كان يُكتب في جملة بوحيرد. كنت اشعر بنوع من التذمر احياناً لدى مجيء نسوة يضعن والدتي في أجواء حريق السينما مجدداً. فتنصرف الى بكائها الصامت. لكنها كانت سرعان ما تستغفر ربها قائلة: انهم عصافير الجنة. وهكذا كان يقول والدي. وهكذا هم بالفعل. ومضى الوقت، وخفت حدة الحزن في منزلنا جراء التقادم والانشغال بأمور حياتية مختلفة. ولم تعد والدتي تتطرق الى موضوع السينما الا نادراً. ويبدو انها كانت قررت ذلك من دون ان تنسى الموضوع، كما اعتقدنا في حينه. ففي عام 1975، وبعد اتفاقية السادس من آذار مارس التي وقع عليها عن العراق صدام حسين مع شاه ايران، وبرعاية الرئىس الجزائري آنذاك هواري بومدين، وما تمخض عن ذلك من مآس للشعب الكردي في كردستان العراق الذي اجبر على التشرد، وتعرض الاطفال والنساء والشيوخ بالمئات للموت نتيجة الجوع والمرض والبرد، والاعتداءات بمختلف اشكالها - فوجئنا بعودة والدتي الى الحديث مجدداً عن حريق السينما، واستشهاد ابنها. كانت تبكي كعادتها بصمت. ترى هل كانت تبكي مآسي شعبها ام تبكي ابنها البكر؟ لست ادري كانت تحس ان الحكومة الجزائرية لم تحترم دم ابنها ودماء العشرات من اطفال مدارس عامودة، وذلك باسهامها في تسليم مصير الملايين من الاكراد الى المجهول. توالت الاعوام، ولاذت والدتي بصمتها والأعمال المنزلية التي لا تنتهي، الى ان جاءت انتخابات المحنة في الجزائر عام 1991، تلك الانتخابات التي كانت مثابة الشرارة التي اشعلت لهيب الصراع الرهيب على السلطة في الجزائر، من يقتل من؟ ولمصلحة من؟ لكن الذي امقته هو القتل البشع للأبرياء وبأساليب تقشعر لها الابدان ويعافها الوصف. قتل لا يفرق بين شيخ وطفل، بين رجل وامرأة. كانت والدتي تتابع الاخبار باسلوبها الخاص، من خلال احاديثنا في الامسيات. ولاحظتُ عودتها الى البكاء الصامت لدى سماعها اخبار قتل اطفال المدارس في الجزائر. ترى كانت تبكي من؟ * مهاجر من عامودة الى ابسالا - السويد.