تتكون كلمة سوبارتو من مقطع «سو» (su) وهو اسم المنطقة الواقعة جنوب بحيرة «وان»، ومقطع «با» وهو ما يعني بالسومرية: خارج/ برّه. وبذا تعني كلمة (سوبار) السوئيين الذين يعيشون خارج الحدود وهم أقدم من سكن المنطقة الآشورية التي حملت اسم سوبارتو بالمسمارية. من كتاب «تاريخ الكرد القديم» يأتي حليم يوسف بهذا التوضيح، وبه يفتتح روايته «سوبارتو – الحرائق». ومنذ بداية الباب الأول للرواية: «سوبارتو بلاد المراهقين والألقاب وأتربة الفضيحة» ينجلي اسم سوبارتو عن مدينة عامودا المحاذية للحدود التركية، والتي اشتهرت بكثرة مثقفيها ومبدعيها، وبخاصة الشعراء. أما الكتّاب الذين يكتبون بالعربية فمنهم حليم يوسف نفسه، ومنهم الشاعر والروائي سليم بركات القادم من القرية المجاورة موسيسانا، والروائي والقاص الساخر أحمد عمر، والروائي والناقد هيثم حسين وسواهم ممن أنجبت المدينة الصغيرة أم التلال الأثرية التي ألجأت السريان والآشوريين الهاربين من المذابح التركية قبل قرابة القرن. بكتابة تتقد عشقاً ولوعة ونقمة ومرارة، يقدم حليم يوسف سيرة سوبارتو/ عامودا بالاشتباك مع سيرته في الطفولة والفتوة والشباب. وقد زجّ هذا الاشتباك باسم الكاتب في لحظة روائية حاسمة، حيث نقرأ: «وأنت يا حليم يوسف: ما علاقتك بكل ذلك؟ ما جدوى الكتابة عندما يحترق الناس وتحترق الأمكنة؟ أليس الأجدر بك أن ترمي قلمك أيضاً إلى النار ليحترق؟». كما نقرأ: «الصمت أكثر أماناً من كل هذا الغبار الذي تثيره صفحات هذه الرواية المكتوبة بدمٍ يحترق». أما اللحظة الروائية المعنية، فهي حريق السجن في مدينة الحسكة التي تتبعها عامودا إدارياً. وكان الحريق الشهير قد أودى بحياة ستين سجيناً، فأجج ذكرى الحريق الذي لا ينطفئ منذ 13/11/1960. إنه حريق سينما شهرزاد في عامودا، والذي قضى فيه 283 طفلاً أثناء مشاهدتهم فيلم «جريمة منتصف الليل». وقد تحول موقع السينما إلى حديقة يتوسطها التمثال الذي نحته الفنان محمود جلال لثلاثة أطفال تتلاحم ظهورهم وهم يتقون النار ويرفعون علم الجزائر، فريع ذلك الفيلم كان نصرة للثورة الجزائرية. توحّد الرواية حريقي السجن والسينما بانتحار الطالبة زكية ألكان التي أشعلت النار في جسدها أمام الطلبة، احتجاجاً على ما آلَ إليه الحال، إذ لم يعد الشباب يحلمون إلا بالرحيل إلى أوروبا. وبحريقها أغرقت زكية ألكان الرؤوس بالعار، وطواها النسيان. في حكمة العجوز فلك أن الحرائق ضرورية كي لا تنام سوبارتو على أذنيها، والنار تطهر النفوس. وإذا كان حريق السجن سيدفع بالشاب الموسيقي إبراهيم إلى كسر البزق والالتحاق بالثوار في الجبال، فبطل الرواية الذي يتولى سردها غالباً سليمان بن داوي يجأر منذ البداية: احترقي يا سوبارتو «أنت جريمتي وعليّ إحراق الجميع»، وبالجئير نفسه يختم الرواية. وسليمان الذي يشيع خبر جنونه سيحكي حكايات مجانين سوبارتو: هذا خلفو الذي سألوه: لماذا لا تذهب إلى العصفورية، فأجاب: ضعوا سوراً حول سوبارتو فتصبح العصفورية. وهذان مجنونان يقتسمان سوبارتو كما يقسمها نهر الخنزير الذي يقسم عامودا بين غربها لحيندرو وشرقها لإسماعيلو. لكن نصيب المجانين من الرواية أدنى بكثير من نصيب الشخصيات التي نال العطب منها لأسباب شتى، ففي الباب الثاني «بلاد لا يستطيع العيش فيها سوى الحيوانات والخونة» تبدأ قصة السفاح بين رشّو وخالته التي تختفي فيتتبعها إلى أن يظهرا زوجين في ألمانيا. وللقواد أبو عمشة فلسفته التي تسوّغ لنفسه أن تحكم بأن الجميع هنا قوّادون، وهو من يعهّر أخته في فنادق المدينة، كما يؤجر نفسه لحميدة العانس، ويقود إليها سليمان ورهطه. ومثله هو صافو ابن الأرملة. أما شيرو فيقتل أخته التي هربت مع جارها مخلفةً أولادها الستة كما يقتل أباه الذي وقع في السفاح أيضاً. وقد أبدع الكاتب في نبشه دخائل هذه الشخصيات وفي سبره أغوار نفسياتها على سبيل تعرية المجتمع، وهذا ما سيكون له، هو وقصة سليمان ومعشوقته بلقيس، النصيب الأكبر في الرواية، وحيث ستكون السخرية الكاوية والمتفردة هي الوسيلة الفضلى. وهكذا يوقّع للرواية حلم سليمان بامرأة بيضاء يتدفق البترول منها. وهكذا تظهر أسرة بلقيس: والدها المدرس مروان، والمسؤول في الحزب الشيوعي الذي تسميه الرواية حزب الآنية، أي المعلمة زوجة الأستاذ الذي لا يتقن اللغة السوبارتية الأم (الكردية)، ولا يرى الحزب إلا طائراً حراً معلقاً في الهواء، لا هو معارضة ولا هو حكومي ولا يسعى إلى السلطة. بسوط السخرية تسلق الرواية الحزب، فالجمهوريات السوفياتية أضحت منتجعات لعائلات المسؤولين الحزبيين الذين يحظى أولادهم بالمنح الدراسية الحزبية مثل ابن الأستاذ الذي لقبه أقرانه بسكويته. وفي سخرية دينو من الانشقاقات الحزبية يجعل للأحزاب طباع القطط. التي تحاول إخفاء فضلاتها في التراب، وتتوالد كالأرانب، حتى صارت العشائر أكبر منها، وسوف يتساءل الراوي عما إن كانت الأحزاب تكمل ما تقوم به العشائر التي تقتحم أعشاش الحب. وقد جعل دينو للرواية إيقاعاً آخر يردد: غبار، وألف عام من الغبار، وأحزاب الغبار... وهو يشبّه المبدأ بحمار الشاعر الكردي الذي عرفته عامودا طويلاً جكر خوين، فالحزبيون يربطون الحمار– المبدأ أمام أبوابهم. وقد نظّم الحزب لسليمان محاكمة بعدما شاع خبر عشقه بلقيس ابنة الأستاذ مروان، فعدّ العشق مؤامرة لضرب سمعة الحزب، ومروقاً على الأخلاق البروليتارية، لذلك عوقب العاشق بالنبذ والتشهير. وفي الباب الثالث من الرواية «بلاد سقطت من عربة التاريخ فعضتها الجغرافية من أذنيها» يمضي سليمان إلى جامعة حلب، وإذا بالمنتمين إلى حزب واحد يسكنون معاً، حتى قامت في الجامعة سوبارتو صغيرة مطعّمة بمن استقطبهم حزب الآنسة. من الطفولة الشقية لا يفتأ سليمان يمتح الذكريات التي ترسم فضاء سوبارتو وبشرها. ومن ذلك ما يتعلق باللغة، فمدير المدرسة يمنع التحدث بغير اللغة العربية الرسمية التي يتقنها الأولاد الناعمون، وهي لغة المدرسين والموظفين والخطيب في صلاة الجمعة والتلفزيون. ولم تكن حياة سليمان الجامعية وما بعدها بأفضل، إذ يعصف به عشق بلقيس التي تتزوج من ثري يطير بها إلى السعودية، فيقطع سليمان دراسته يأساً، ويمضي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، حيث ينفتح السرد من جديد في دمشق فتأتي قصة مستو الأعرج، وقصة سليمان مع سيلفا. وإذ تعود بلقيس مطلقة ويعود سليمان إلى سوبارتو، تجدد هي علاقتهما، فتثقل على الرواية بتبرير استدارتها عنه في أربع عشرة صفحة، ثم يتفجر العجائبي في الرواية، بعدما تلامح برشاقة مراراً عبر المماهاة بين سليمان وطائر الهدهد، وعبر الطفل النوراني، وعبر شخصية العجوز فلك التي تحكم قبضتها على سوبارتو وطوى كوخها البلاد مفضياً إلى ملكة غرفة المتعة بلقيس في قصر خرافي. أما سليمان الذي يحرك الجن والريح والطير والنمل، فسيطلق المازوت على جدران سوبارتو ليحرقها، تاركاً للقراء الباب السابع من الرواية مع أبواب أخرى يمكنهم أن يخلعوها ويدخلوا إلى هذا العالم المواري الذي ترامى منذ قصفت فرنسا عامودا عام 1936 إلى الحزب ذي الامتدادات الإقليمية والعلاقة مع النظام، والذي لا تسميه الرواية، فكأنما تشير إلى ما عاشته عامودا منذ 2011، فمن يذكر بلبل الثورة عزيز قرنو أو القاشوشة الكردية أغنية «سكابا» بالكردية؟