"الجامعة العربية فشلت في تحقيق أهدافها من التعاون والوحدة العربية التي نظمت من اجلها، وما لم يتم القضاء على مشاعر الغيرة وسوء المقاصد فإن الرأي العام العربي سيستمر في سحب ثقته بالجامعة. واسترداد هذه الثقة الضائعة يبدأ بأن تصدر الجامعة جوازَ سفر موحداً لمواطني الدول الاعضاء فيها وإسقاط الحواجز الجمركية بينهم". لم تصدر الكلمات السابقة أمس، ولا قائلها كويتي أو عراقي. قيلت تلك الكلمات قبل خمسين سنة. وقائلها كان سمير الرفاعي باشا رئيس وزراء الاردن وقتها، وهي منشورة في جريدة أميركية. وقتها لم يكن مضى على إقامة الجامعة أكثر من ست سنوات، ولم يزد اعضاؤها على سبع دول هي مصر والسعودية وسورية ولبنان والعراقوالاردن واليمن. الآن نحن في دنيا غير الدنيا. الدول الاعضاء اصبحت 21 وشرطة رسمياً 22 وعمر الجامعة 56 سنة. مع ذلك نسمع ونقرأ بين وقت وآخر تكرار لكلمات سمير الرفاعي ومشورته. ربما بالألفاظ نفسها. لقد عاشت الجامعة عواصف وأعاصير. وانقسمت الدول العربية مرة بعد مرة. وشهدت الجامعة لحظات ضعف وقوة. لكنها استمرت قائمة.. بغصة في قلوب من يرفضونها وحسرة في قلوب من يريدون لها الازدهار. من بين الأمناء الخمسة للجامعة قبل عمرو موسى اقتربتُ كثيراً من ثلاثة، اختلفتْ جذورُهم وثقافاتهم وتطلعاتهم وأساليبهم. لكنهم لم يصلوا في أي وقت الى درجة اليأس من الجامعة كمنظمة اقليمية تجسد الهوية العربية. الكل حاول واجتهد وحلم وتعثر ثم حلم من جديد. لكن ما جمع بينهم عناصر عديدة. بالدرجة الاولى هي الجامعة ذاتها كفكرة ورمز. هي عروبة الحد الأدنى سياسياً. والدفاع عن هذا الحد الأدنى لا يصبح أولوية فقط.. لكنه المقدمة الأكيدة للتقدم الى ما هو أفضل. ميثاق الجامعة ذاته يقرر في مادته التاسعة أنه "لدول الجامعة الراغبة في ما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى ما نص عليه الميثاق، أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض. والمعاهدات والاتفاقات التي سبق أن عقدتها، أو التي تعقدها في ما بعد دولة من دول الجامعة مع أية دولة أخرى، لا تلزم ولا تقيد الأعضاء الآخرين". هي إذن من البداية لم تكن جامعة لتحقيق الوحدة العربية، ولا لتصبح سلطة مستقلة عن الدول الاعضاء أو فوقها. هي مرآة لأعضائها وحالها من حالهم. هي أيضاً جزء من رؤية الآخرين ومواقفهم مع أو ضد العروبة من حيث المبدأ. وفي واقع دولي كالذي نعيشه، ومن قبل حتى أن نتحدث عن عرب وعروبة، لا يريد أقوياء الغابة دائماً تنسيقاً بين ضعفائها. وخلال 56 عاماً اختار أقوياء الغابة الدولية تجاهل الجامعة العربية دائماً والتظاهر بأنها غير موجودة، إلا في حالتين: في الحالة الأولى بدا العرب اقوياء في ضوء حرب 1973 وما صاحبها من صحوة بترولية عربية للحقوق الضائعة وتنبؤ دولي بأن العرب في طريقهم ليصبحوا القوة الاقتصادية السادسة على مستوى العالم. عندها فقط تذكرت اوروبا الغربية أن للعرب عنواناً مشتركاً في ميدان التحرير في القاهرة اسمه "الجامعة العربية" فتوافد وزراء خارجية واقتصاد اقوياء "السوق الأوروبية المشتركة" على مكتب محمود رياض الأمين العام وقتها ليبدأ ما سمي في حينها "الحوار العربي الأوروبي" الذي بشّر للمرة الاولى بعلاقة اقتصادية وسياسية صحية وصحيحة، قبل أن ينكسر الحلم في ضوء تطورات - وضربات مضادة - لاحقة. الولاياتالمتحدة تذكرت الجامعة العربية ايضاً ولكن في إطار مختلف. فبعد طول تجاهل كان رون براون وزير التجارة الاميركي هو أول مسؤول أميركي يدخل الى مكتب الدكتور عصمت عبد المجيد الأمين العام للجامعة في سنة 1996. اميركا تذكرت الجامعة، فجأة، معلهش. ما فات مات. إنما المدخل هنا نقيض كامل للمدخل الأوروبي في السبعينات. المدخل هو الضعف العربي والقبول بإدخال القضية الفلسطينية الى "صندوق" اتفاق اوسلو و... "بلاويه". بهذا المدخل ذهب الوزير الاميركي يطلب من الجامعة العربية رسمياً باسم الولاياتالمتحدة أن، أن، أن: تصدر قراراً جماعياً بإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية ضد اسرائيل. في ما قبل هذا وبعده كانت الجامعة جزءاً من الحالة العربية. أحيانًا على الهامش واحياناً في قلب العاصفة. في سنوات عبد الخالق حسونة مثلاً - الامين العام الثاني - عاشت الجامعة لحظات القوة والضعف في السطر نفسه، وأحيانًا في الجملة نفسها. في سنة 1961 مثلاً اعترض عبد الكريم قاسم حاكم العراق على استقلال الكويت وضمن لمصلحته الفيتو السوفياتي في مجلس الأمن ضد قبول عضوية الكويت في الأممالمتحدة. لكن الدول العربية الفاعلة - أساساً: مصر وسورية والسعودية - استخدمت إطار الجامعة العربية للاعتراف باستقلال الكويت وبعضويتها في الجامعة العربية، وبالتالي الضغط بتلك العضوية على مجلس الأمن الدولي تحييداً للفيتو السوفياتي واجباراً لعبد الكريم قاسم على التراجع. انما... في السنة التالية مباشرة اصبحت الجامعة العربية في مهب الريح كنتيجة جانبية لانتفاخ نظام انفصالي جديد في سورية ضد مصر. في المحصلة تعلم العرب بعض الدروس التي يفرضها أي عمل جماعي في الساحة الدولية. في المقدمة درس بأن من لا يريد أن يصبح جزءاً من قوة الجامعة عليه - في أقل القليل - ألا يصبح جزءاً من ضعفها. مصر مثلاً، انفصلت برؤيتها الساداتية للتسوية مع اسرائيل فتحملت بالتالي انتقال مقر الجامعة العربية من عاصمتها موقتاً. وحينما عادت الجامعة الى القاهرة بعد عشر سنوات من القطيعة لم تحاول مصر الجديدة أن تفرض على الجامعة طريقها المنفرد السابق للتسوية مع اسرائيل. وحتى عصمت عبد المجيد في يومه الأول أميناً للجامعة العربية سنة 1991 فوجيء ببرقية تهنئة ترد اليه في الجامعة من حاييم هيرتسوغ رئيس اسرائيل وقتها. يومها أعاد عصمت عبد المجيد البرقية الاسرائيلية الى مرسلها مغلقة كما هي، وشدد على منع دخول أي اسرائيلي الى مقر الجامعة. كان عمل عصمت عبد المجيد وزيراً لخارجية مصر يلزمه بالتعامل مع اسرائيل. لكن عصمت عبد المجيد حينما يصبح أميناً للجامعة العربية تصبح له مسؤوليات مختلفة تماماً. المبدأ نفسه لاحظته من قبل مع عبد الخالق حسونة في أيامه كأمين عام للجامعة العربية. مصر في حينها قبلت رسمياً قرار مجلس الأمن رقم 242 منذ صدوره في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1967 كأساس لتسوية تلتزم اسرائيل بمقتضاها بالانسحاب الكامل الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 مقابل إنهاء حال الحرب من الدول الثلاث المعنية - مصر وسورية والاردن. يعني: لا مفاوضات مباشرة ولا معاهدات ولا سفارات ولا علاقات من أي نوع ولا تطفل اسرائيلي أو طموح نحو دول عربية أخرى. مع ذلك ففي حوار لعبد الخالق حسونة معي قال صراحة: بصفتي أميناً عاماً للجامعة العربية أقول إن الأساس الوحيد لتسوية عربية اسرائيلية هو فقط قرار تقسيم فلسطين الصادر من الأممالمتحدة في سنة 1947. هو مصري. ويتحدث في القاهرة. وتصريحاته نشرت في صحيفة مصرية. لكن، لا دولة المقر ألزمته بسياستها ولا هو نسي أن "جمعيته العمومية" في منصبه العربي هو مجموع الدول الاعضاء في الجامعة العربية. محمود رياض ايضاً كان يرفض جملة وتفصيلاً تسوية السادات المنفردة مع اسرائيل. بالتالي هو أقرب الى الموقف العربي المعارض لمصر، خصوصاً وأنه يستند الى تعديل في وثائق الجامعة العربية كانت حكومة مصرية برئاسة مصطفى النحاس باشا هي التي اقترحته. مع ذلك فقد تنبأ محمود رياض بأن حال القطيعة بين السادات والمخالفين له عربياً سيفرض ثقله على منصبه أميناً عاماً لجامعة هو ملزم اخلاقياً بالتعبير عنها منفصلاً عن جنسيته. هكذا اختار محمود رياض - وبإرادته الحرة - الاستقالة من منصبه بعكس اصرار كل الدول الأخرى في الجامعة الذين قرروا نقل مقر الجامعة الى تونس. الماضي موجود لكي نستفيد منه، أساساً، دروساً للمستقبل. والمفتاح الأول لنجاح أمين الجامعة العربية في مهمته هو أن يترك جنسيته المصرية، وثقل دولة المقر، على باب الجامعة، بافتراض أن دولة المقر هي بذاتها أول من يدرك معنى العمل الجماعي ولا تخلطه بالعزف المنفرد. أقول هذا ايضاً لأن الجامعة العربية اقتربت من لحظة العاصفة المدمرة مجدداً بعد صفقة اوسلو السرية بين اسرائيل وياسر عرفات في سنة 1993. في ذلك السياق حاول عرفات وجماعته، مثلاً، استدراج الجامعة العربية الى فخاخ اتفاق اوسلو وبلاويه، من خلال السعي الى استصدار قرار من مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية ليعقدوا اجتماعهم التالي في غزة، بحجة أن هذا يعني للعالم وجود دعم عربي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني الوليدة. كان معنى هذا أن يصطف وزراء الخارجية العرب أمام أقرب سفارة اسرائيلية سعياً الى تأشيرات دخول من اسرائيل بالسماح لهم بدخول قطاع غزة. أما المغزى الآخر - طبعاً - فهو تعريب صفقة سرية لم يكن العرب طرفاً فيها لكنهم يتحولون بمقتضاها من فاعلين الى مفعول بهم. كانت صفقة اوسلو اذن "شراً" اسرائيلياً شاءت العناية الإلهية أن تنجو منه الجامعة العربية. مع ذلك فقد تجددت العاصفة مرة أخرى من خلال "شر" آخر حينما قبل الأمين العام للجامعة العربية دعوة من المغرب للمشاركة في المؤتمر الاقتصادي الأول في الدار البيضاء في سنة 1994. مؤتمر كان هدفه المعلن هو دمج اسرائيل اقتصادياً في العالم العربي، أما هدفه الأشمل فلا يقل عن الغاء الجامعة العربية ذاتها واستبدالها بتنظيم جديد أساسه الشرق أوسطية، ومحوره المهيمن المسيطر هو اسرائيل. لم تكرر الجامعة العربية ذلك الخطأ في المؤتمرات الاقتصادية الثلاثة التالية. لكن الرؤية الضبابية استمرت هائمة في العيون، بما يفرض من جديد سؤالاً قديماً: اذا لم يصبح العرب - بصيغة الجامعة العربية - اقوياء كمجموعة، فما هي إذن الحكمة أصلاً من وجود الجامعة؟ للسؤال اجابات متنوعة، تجدد الاهتمام بها مع تولي عمرو موسى مسؤوليته أميناً عاماً جديداً، وسادساً، للجامعة العربية. لكن، قبل الاجابات الصحيحة، هل استقر عمرو موسى فعلاً على الاسئلة الصحيحة؟ * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.