عادت "قصيدة النثر" الى ساحة السجال النقدي العربي بعدما رسخت معطياتها اللغوية والأسلوبية طوال نصف قرن. هنا جزء ثان وأخير من مقاربة لقصيدة النثر ضمن السجال الدائر راهناً. حرية الآخرين والمبدعون من بينهم - في هذه الحال - مصادرة ما أكثر المصادرات في حياتنا العربية السعيدة! لحساب أصحاب هذا النهج الذين امتلكوا مفاتيح الصواب والخطأ، ونصبوا أنفسهم أوصياء مطلقين على التاريخ والجغرافيا والبشر، على الشعر والنثر وما بينهما. فلا محلَّ لحرية الاختيار، أو الحق في توجه خاص، أو محاولة - مجرد محاولة - اكتشاف طريق آخر" فالإدانة المسبقة مشرعة، والتكفير الديني أو السياسي أو الشعري مسلط على الرقاب" والجلاد ينتظر. فما تم إنجازه - على هذا الصعيد أو ذاك - اكتسب قدسيةً تمنع المخالفة أو المغايرة أو النقض، قدسيةً أشبه بالدينية تفرض منطق الحلال والحرام في غير مجاله، وتبيح إهدار من يخرج على الخطوط الحمر. والجذر الفكري النظري: أن ما هو ممكن إنسانيّاً - على نحوٍ مُطلق - قد تحقق دفعةً واحدةً، مرةً واحدةً، مكتملاً بلا شُبهة، هناك في الماضي القريب أو البعيد، ليغلق دائرة المحاولة والفعل على اللاحقين. وما على اللاحقين سوى تقليد ما تحقق، بحذافيره، سوى ترديده كحواريين مخلصين شرطاً للبراءة من التهم المعلقة المنتظرة. هو الجَبر بلا اختيار أو حرية. فالحرية - في ذاتها - تعني، بدئيّاً، تحويل ذلك "المطلق" إلى نسبي تاريخي" تعني طرح السؤال عن إطلاقيته والشك فيها والتجرؤ عليها، وطرح القداسة عنها" تعني اقتحام الخطوط الحمر والأسلاك الشائكة المكهربة، وإعادة الاعتبار للعقل لا النقل والتفكير، واستعادة الثقة في الطاقة الإنسانية وإمكان الإنجاز المتجدد. لكنها تعني - في الوقت نفسه - كسر الطمأنينة الراسخة السكونية هل تشبه سكونية الموت؟، وبث القلق والأسئلة العصية. حال سيسمونها "الفوضى"، وسيستخدمون إزاءها بعض مصطلحات رجال البوليس ولغتهم النظام، الحرية المشروطة، العبث، التخريب، لينتهي بهم الأمر إلى استعداء السلطات بالفعل الثقافية والإعلامية، غالباً ضد هؤلاء "المارقين". تصبح الحرية - التي يتشدقون بها - خطراً وجوديّاً لا يحتملون تبعاته" فيكون عليهم تقديم طبعة منقحة، معدلة، مستوفاة الشروط من تلك "الحرية" البوليسية، التي تراعي الأمن والسكينة والخطوط الحمر وقواعد "الإتيكيت" و"البرستيج"" حرية مرادفة للإذعان والتدجين وطاعة أولي الأمر طاعةً عمياء. هي تلك "الطاعة العمياء"" العَمَى لا البصر أو البصيرة" الطاعة لا التمرد والرفض" الاستلاب الذاتي لا التحقق والفتوة" المشي جنب الحائط لا فوقه. إنه هدف جميع السلطات السياسية والعسكرية والقانونية والثقافية والدينية على مر العصور، من أجل ضمان بقاء سلطاتها واستمراريتها" وأداتها: القمع والكبت والإرهاب السلطوي بترسانة الأدوات المادية أو المعنوية المتاحة. فقضية "قصيدة النثر" - المثارة في الأيام الأخيرة - ليست إلا عَرَضاً لنمط فكري، والاتهامات والحيثيات ليست سوى تفاصيل العَرَض، لا جوهره. فالقضية أبعد بكثير، بما هي ظاهرة متكررة في تاريخنا الثقافي القريب والبعيد، في أشكال مختلفة. لم تبدأ قصيدة النثر - في تراثنا الشعري العربي - اليوم، ليشن حجازي عليها هذه الهجمة الشعواء" بل بدأت - وفقاً للواقع الشعري- في نهاية الخمسينات، مع "جماعة شعر"، باعتبارها "قصيدة نثر"، لا "شعراً منثوراً" أو "مرسلاً"، أو ما شابه ذلك من مصطلحات. في تلك الخمسينات، كان العقاد وتياره المحافظ في الثقافة المصرية المتمترس بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب - المجلس الأعلى للثقافة حاليّاً يوجهون مدفعيتهم الثقيلة إلى "قصيدة التفعيلة" البازغة في ذلك الحين وحجازي أحد كاتبيها، مستخدمين جميع الأسلحة المتاحة لديهم، دينيّاً ونقديّاً وثقافيّاً وسياسيّاً. والمبرر المعلن لموقف العقاد أن قصيدة التفعيلة ليست من الشعر، بل هي "نثر" لهذا، أحال ديوان صلاح عبدالصبور إلى "لجنة النثر، للاختصاص". فالشعر - لدى هذا التيار العقادي ونسخته "الحجازية" - محكوم بالأوزان الخليلية التفعيلة لدى حجازي، باعتبارها المحدد المطلق للشعر العربي، وحدَّه الأول والأخير. والخروج عن تلك "الأوزان" أو التفعيلة لا يصبح خروجاً على نمط شعري، قدمه شعراء سابقون، بل على الشعر ذاته" خروجاً من الشعر إلى النثر أو إلى الجحيم لا فرق!، بلا استئناف. تصبح الذات العقادية أو الحجازية- وفقاً لهذا المنظور- هي محدد الشعر والنثر، ومانحة الصكوك أو مانعتها. والتراث النقدي العربي "حمَّال أوجه"، يكتظ بالأقوال والأحكام التي تسعف جميع الفرقاء هناك - في النقد العربي القديم - من قال إن "الوزن" ليس حدَّ الشعر، يعرفون ذلك!، لكنهم سيُعملون المنهج الانتقائي باعتباره المنهج الوحيد، وباعتبار "النصوص" القديمة- ذات الوجه الواحد- تمتلك من القداسة ما يفرض إلزاميتها الجبرية على اللاحقين جميعاً، لا باعتبارها اجتهاداً إبداعيّاً ذا طبيعة نسبية، تاريخية، قد توضع في الاعتبار من دون فرض جبري. وهي قداسة ليست مستمدةً من دين، وإنما من القِدَم الزمني والديمومة الماضية اللذين يوهمان بالأبدية الدائمة، الراهنة والمستقبلية. قداسة توازي القداسة الدينية، أو ترادفها لهذا، ما أكثر ما تم الزج بالدين، وإطلاق الاتهامات الدينية الزاعقة في معركة شعر "التفعيلة" في الخمسينات والستينات. عقلية تستند - في بنيتها - الى "مطلقات"، في كل مجال نوعي من مجالات الفكر والوعي، على رغم أنها - هذه "المطلقات" - نتاج إنساني مشروط بالتاريخية والنسبية. "مطلقات" نهائية، شمولية، سكونية، لا تحتمل سؤالاً أو علامة استفهام، لتتخذ - بذلك - طبيعةً دينيةً، مقدسة، أقرب إلى "الأوثان" التي صنعها البشر بأيديهم ليتعبدوا في قدراتها الخارقة، ويُسلموها حرية تقرير مصائرهم. ولا بأس من اختراع سمات "مطلقة" للشعر العربي، والشخصية العربية، كأنها سمات وشخصية جامدة، ساكنة - منذ بدء الخليقة - بلا تغير أو تحول" لا يسري عليها ما يسري على الأمم والشعوب والثقافات الأخرى، في مشارق الأرض ومغاربها، من قوانين التطور الإنسانية هكذا، يتم الاعتراف بقصيدة النثر الفرنسية - على سبيل المثال - كقصيدة شعر، "رامبو" و"مالارميه" وغيرهما، دون قصيدة النثر العربية: "أحرامٌ على بلابله الدوحُ / حلالٌ للطير من كل جنس؟". فإذا كان تيار العقاد قد اعتصم ب"وثن البحر الخليلي"، باعتباره الحد النهائي للشعرية في مقابل النثرية، فقد اعتصم التيار اللاحق ب"وثن التفعيلة" أحد مكونات البحر الخليلي، واعتبرها نهاية الأرض الشعرية، منطلقاً من المنهج الفكري نفسه. وإذا ما كان ثمة حديث عن "التجديد" الشعري، فقد أنجزه- للمرة الأخيرة- أصحاب "البحر" أو "التفعيلة"، وأوصدوا- بما أنجزوا- باب "التجديد" نهائيّا على اللاحقين. لقد منحوا أنفسهم حق "التجديد"، وصادروه - نهائيّا، بمبررات شتَّى- عن الآخرين. فما الذي يمكن إضافته على ما ارتكبوا من إنجاز؟ هل هناك إمكان لإضافة سوى الانحراف والخروج على الشعرية؟ وهل يمتلك اللاحقون الشروط المؤهلة للقيام ب"التجديد"؟ هل يشبه ذلك إغلاق باب الاجتهاد الديني، في العصر الوسيط العربي، دون الفقهاء اللاحقين؟. والمفارقة أن رموز هذين التيارين يصدقون بالفعل أنهم قادرون على وقف عجلة التحول الشعري العربي بمحض إرادتهم الفردية! ويمكن لنا أن نلتمس بعض العذر للعقاد في تصوره هذا عن قدراته الذاتية الخارقة في مواجهة التحولات الثقافية والشعرية بالذات سلطة ثقافية فاعلة وهائلة تغطي النصف الأول من القرن بالمعارك السياسية والثقافية العنيفة إلى حد السجن بتهمة سب ملك البلاد في ذلك الحين، وسلطة بيروقراطية هائلة تستند إلى سلطته الثقافية وتمنحه حقوقاً ثقافية وسلطوية شبه مطلقة، وسلطة شعرية ونقدية لا تقل عن سابقتيها، بما هو شاعر "فحل"، من أصحاب "مدرسة الديوان" التجديدية. ولم يكن غريباً أن تتسم مواجهته لتيار شعر "التفعيلة" بالغطرسة والتعالي والاستخفاف بهؤلاء "الصبيان" ومن بينهم حجازي الذين يدَّعون "التجديد" الشعري. لكن المفارقة الأفدح أن يتقمص حجازي - في السنوات العشر الأخيرة - شخصية "العقاد"، ويتبنى أطروحاته النقدية نفسها ومنهجه المتزمت، المتعصب في رؤية العالم، ورؤية ذاته باعتباره "مركز الكون" الأدبي، ويعيد الاعتبار له ذاتيّا، كشاعر وناقد ومفكر "لا يُشق له غُبار". لكن هذه المفارقة يمكن تفسيرها - موضوعيّاً - بالوضعية المشتركة لهما، لحظة التصدي للتجديد الشعري" هي لحظة صمتهما الشعري الذي طال، بما يوحي بالنفاد الأخير للطاقة الشعرية الفاعلة، والادراك - بالوعي أو اللاوعي- لهروب الشعر بلا عودة منهما" وهي لحظة جني الثمار والامتيازات البيروقراطية لرحلة شعرية وعرة" وهي لحظة صعود أصوات وتيارات شعرية جديدة تهدد بإزاحة المنجز الشعري الذاتي عن الساحة الشعرية العامة، وإحالته إلى الظل الثقافي، بما يهدد مكانة الذات في العالم ووضعيتها المتميزة ذات الامتياز امتياز لا يقتصر على "الثقافي" و"المعنوي"، بل كثيراً ما يُترجم إلى "مادي". ولا يفتقر إلى دلالة- في هذا السياق من المشتركات - أن كُلاً منهما قد امتدح سيد زمانه بقصيدة عصماء أو أكثر امتدح العقاد الملك فاروق، وامتدح حجازي عبدالناصر بأكثر من قصيدة، وخص تنظيمه السياسي الشهير "الاتحاد الاشتراكي" بقصيدة تمجيد منفردة، حذفها من الطبعات الأخيرة من أعماله الشعرية!. وضعية وجودية مشتركة تؤسس للمفارقة الغريبة، التي تمثل ظاهرةً متكررةً في تاريخنا الثقافي العربي الحديث، تتجاوز "قصيدة النثر" إلى ما هو أعمق. أفلم يدرك حجازي عبرة المعركة القديمة أن الإرادة الفردية - مهما كانت سطوتها الثقافية أو المادية- ليست قادرةً على وقف مسيرة التحول الإبداعي؟ والمؤكد أن قامته الثقافية لا تطاول قامة العقاد، في ذلك الزمان الخمسيني" فكيف يتصور أنه بقادر - ببضع مقالات تتألف من اتهامات مرسلة وتصورات ذاتية- على ما لم يستطعه العقاد؟ من أين يأتي هذا الوهم؟ وكيف يفقد الشاعر - في ستيناته - رهافة البصر والبصيرة التي امتلكها في عشريناته؟ هل هي الشيخوخة الفكرية والشعرية؟ نسخة بائسة من معركة العقاد القديمة مع قصيدة "التفعيلة"، لن يختلف مصيرها ونتائجها عن مصير المعركة القديمة ونتائجها إلا في الشكل- ربما- الذي سيتخذ طابعاً هزليّاً، على الأغلب. فمتى يكون لنا أن نأخذ التاريخ مأخذ الجد، ونستوعب دروسه الصارمة؟ متى نكف عن إعادة إنتاج - أو افتعال - المعارك المحسومة سلفاً؟ هل هي الرغبة في إعادة إثبات الذات التي تنحَّت عن دائرة الضوء الشعري والنقدي، والثقافي عامة؟ أم هو وهم امتلاك الوصاية على الأرض الشعرية العربية "من المحيط إلى الخليج"، على الماضي والراهن والمستقبل الشعري العربي؟ ما أكثر علامات الاستفهام، وما أقل الإجابات. ... وتلك هي المشكلة. * شاعر مصري.