جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    العضلة تحرم الأخضر من خدمات الشهري    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    الكويت تلغى رسمياً حصول زوجة المواطن على الجنسية    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة الاقتصاد . زواج الرياضيات بالفكر الليبرالي الجديد قضى على مفهوم الاقتصاد السياسي 1 - 2
نشر في الحياة يوم 18 - 06 - 2001

ثقافة الاقتصاد التي كانت سائدة في الأمس هي غيرها السائدة اليوم. العالم يتغير بلا توقف.مع مد العولمة المتعاظم، وهيمنة السمة الاستهلاكية على عصرنا، نجح الفكر الليبرالي الجديد في تجريد الاقتصاد من بعده السياسي فتحول الاقتصاد علماً رقمياً تحكمه المعادلات الرياضية والبيانات والجداول.
يعرض جورج قرم في دراسته المنشورة هنا أبعاد هذا التحول وظروفه، ويقترح في حلقة ثانية وأخيرة تنشر بعد غد، سبلاً للمقاومة.
يعاني الاقتصاد العربي آفات عدة على رغم الثروات الطبيعية الضخمة التي يتمتع بها، وخصوصاً الطاقة. ومن هذه الآفات استمرار الأمية على شكل واسع في بعض أقطارنا، وتفشي البطالة لإحجامنا عن الدخول في نهضة صناعية شاملة، ما يؤدي الى هجرة أدمغة خطيرة، وتفاقم الفروقات الاجتماعية وبقاء فئات واسعة من الشعوب العربية خارج قنوات وايجابيات الحداثة الاقتصادية المادية. اننا في الحقيقة لم نترك بعد الاقتصاد الريعي، بل زدنا انغماساً فيه بسبب وفرة الموارد الطبيعية في الكثير من أقطارنا ووقوعنا في تبعية مضرّة على تصدير هذه الموارد وتأثرنا المستمر بتقلّب أسعارها العالمية. هذا مع الاشارة الى أن النموذج التونسي في التنمية يتميز عن غيره من نماذج التنمية في العالم العربي تميّزاً لافتاً ايجابياً، وهو مبعث للتفاؤل ليس فقط من جهة معدلات النمو المتواصلة، وإنما أيضاً من جهة التقدم الكبير الحاصل في التنمية البشرية وفي تطوير اقتصاد متعدد الجوانب ومتماسك، قابل للصمود أمام المنافسة الدولية. وقد يكون من المفيد للاقتصاديين، وخصوصاً العرب منهم، التعمق في دراسة التجربة التونسية ومقارنتها مع التجارب الأخرى في العالم العربي وخارجه.
ولمناسبة ذكر التجارب التنموية العربية وقصورها، أشير الى كتاب "النهضة العربية والنهضة اليابانية - تشابه المقدمات واختلاف النتائج" سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1999 لمسعود ضاهر، يبحث في أسباب نجاح اليابان في التحديث وفشل العرب على رغم تجربة حاكم مصر محمد علي باشا الاصلاحية في بداية القرن التاسع عشر التي سبقت بنصف قرن تقريباً تجربة امبراطور اليابان Meiji التحديثية.
فهذا هو الجهد الفكري الذي نحتاج اليه في الوطن العربي خصوصاً، وعلى صعيد العالم النامي عموماً. والمؤسف ان الاقتصاديين لا يهتمون كثيراً بهذا النوع من الاشكالية والمنهجية البحثية. فما هو علم الاقتصاد غير التفكير الاشكالي والنقدي حول سر وجود العمران وتواصله، ديمومته أو زواله وإفقار المجتمعات.
لا بد من طرح اشكالية قيام علم أو علوم اقتصادية قائمة بذاتها، مقفلة على نفسها، غير مستندة الى صيرورة تاريخية بتشعباتها وتعقيداتها، وغير آبهة بنظم القيم الجماعية إلا في بعض المسلمات البدائية الجامدة Axiomes. هل يمكن حقاً قيام علم أو علوم وسنأتي على ذكر معاني الفرق بين "علم" و"علوم" اقتصادية محضة منفصلة تماماً عن سائر المعارف وعن الأوجه المتعددة للثقافة البشرية؟ لماذا هيمنت عبارة "علم" أو "علوم اقتصادية" على العبارة الأكثر دلالة المستعملة في القرن التاسع عشر وفي الجزء الأكبر من القرن العشرين وهي عبارة "الاقتصاد السياسي"؟ ما هي معاني هذا الانقلاب المفهومي Conceptuel وما هي دلالاته وعواقبه بالنسبة الى ثقافة القرن الجديد الذي نحن فيه؟ وأعتقد ان كلمة "انقلاب" هي الكلمة المناسبة للدلالة على تقلّب الأوضاع رأساً على عقب، ليس في تطوّر المعرفة الاقتصادية وحدها، بل في مسار معظم العلوم الانسانية التي أصبحت خاضعة لمنطق خطير، أحادي الجانب، مسدود الأفق، وهو المنطق الذي استولى على المعرفة الاقتصادية وقضى على المناهج المختلفة التقليدية وأصبح يسود على العلوم الانسانية عموماً.
المنابع التقليدية للمعرفة الاقتصادية
مصدران أساسيان ساهما في تكوين ما كان يسمى الى بعض عقود خلت "الاقتصاد السياسي". المصدر الأول تقني بحت، وهو قديم للغاية، نجده في المدنيات القديمة من غربية وشرقية، وهو يركز على ادارة الموارد الطبيعية الزراعية اي ادارة الممتلكات الزراعية لكي تعطي العائد المناسب. ويجب ألا يُستهان بأهمية هذا المصدر في إطلاق الثورة الزراعية الانكليزية التي مهدت الطريق الى الثورة الصناعية، والجدير بالاشارة ما قام به كبار الاقطاعيين في المملكة البريطانية لتحسين عائد ممتلكاتهم الزراعية.
أما المصدر الثاني الأكثر تشعباً وتعقيداً، فهو مزيج من مبادئ فلسفة الأنوار Philosophie des lumiڈres وما سبقها من أعمال فكرية جليلة حول الحق الطبيعي للانسان فردياً وجماعياً Ecole du droit Naturel ومن تطوير مبادئ الادارة الاقتصادية للممالك التي برزت مع المدرسة الفكرية الاقتصادية المركنتيلية Mercantilisme. كان محتماً إذاً أن تتطور المعرفة الاقتصادية تدريجاً لتصبح مشاراً اليها بعبارة "الاقتصاد السياسي" ولها دلالات متعددة ومتماسكة. فالاقتصاد عبارة تشير الى المصدر الأول للمعرفة بمعنى "فن الادارة للممتلكات ذات الطابع المادي". وأودّ أن أشدد على كلمة "فن" بمعناها الحرفي الأصيل أي التمكن أو ملكة أساليب معينة وتقنيات للحصول على سلع مفيدة الاستعمال بأفضل الطرق وأكثرها اقتصاداً وانتاجية. بينما الكلمة الأخرى في عبارة الاقتصاد السياسي وهي كلمة "السياسي" تدل على معنيين متكاملين ومتماسكين. المعنى الأول يشير الى أهمية النظر الى الادارة الاقتصادية ليس على مستوى المنشأة الفردية، وسيتطور هذا النوع من المعرفة الى اقتصاد المنشأة Microeconomie في برامج التعليم، بل على مستوى الدولة كوحدة اقتصادية اساسية يترتب على حسن ادارتها النجاح في جعل المنشآتا فردية ذات عائدية عالية. وتطوير هذا الجانب من المعرفة الاقتصادية عبر آدم سميث ومدرسة الفيزيوقراط Physiocrates في فرنسا سيؤدي الى بناء الاقتصاد الاجمالي Macroeconomie في برامج التعليم.
المعنى الثاني في عبارة "سياسي" يشير ، في نظري، الى تقاليد فلسفة الأنوار والموسوعيين Encyclopdiste التي كانت تسعى الى اقامة قواعد اخلاقية جديدة، أرحب صدراً من القواعد الكنسية والدينية الصرفة المبنية على تنكّر الحضارات والمجتمعات غير المسيحية، والمستندة الى تعدد المجتمعات البشرية وضرورة استنباط قواعد تصلح لتلاقي المجتمعات المختلفة لتعميم العمران بقواعد العلمية الحديثة في كل أرجاء المعمورة.
ولا بد من التذكير هنا بأن المعرفة الاقتصادية خصوصاً بأبعادها السياسية كان ينظر اليها كجزء مما كان يسمى "العلوم الأخلاقية الأدبية" Sciences morales وليس كجزء من العلوم الدقيقة Sciences exactes، مثل الرياضيات أو الفيزياء. وعلينا أيضاً أن نشير الى ان ثقافة عصر الأنوار، على رغم التقدم العملاق الذي حصل في هذا الزمن في كل ميادين المعرفة، لم تتجزأ وتتشرذم وتنشطر الى أجزاء متنافرة، متخصصة، بل بقيت موحدة في نظرة واحدة. والرجل المثقف كان له اطلاع واسع على فروع العلوم ومكوناتها واتجاهات تطورها. وكان الاهتمام بالتاريخ وآليات حركة العمران والانحطاط من المواضيع المركزية التي بقيت حتى بدايات القرن العشرين تحتل مركز الصدارة في الثقافة الحديثة. وربما كان الصراع الحاد بين الشيوعية والليبرالية وما كان يسمى بحركة ايقاظ أو نهضة المجتمعات غير الأوروبية من العوامل الدافعة نحو إبقاء الثقافة ثقافة جامعة، شاملة، تسمح للانسان بفهم تطور الأمور والحياة على أسس أخلاقية أدبية وسياسية واضحة المعالم. لكن، إذا كان هذا التيار هو التيار الرئيس في المنبع، أي بأصوله التاريخية، فإن تيارات اخرى بدأت تظهر مستندة الى الإيمان المطلق، بحتمية التقدم المستمر للبشرية، خصوصاً بفضل الاكتشافات العلمية الجديدة والتطورات العملاقة الحاصلة في المعارف الدقيقة الطابع، أي "العلمية" بالمعنى الأصلي للكلمة.
الانقلاب على "الاقتصاد السياسي"
ان الطموح الى جعل علم الاقتصاد يضاهي العلوم الرياضية والطبيعية في دقتها لهو طموح قديم نسبياً كرّسه في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بعض العلماء وفي شكل خاص كورنو Cournot متابعاً جهود برنولي Bernoulli ولابلس Laplace. ويمكن أن نسمي هذا التيار الذي سينتصر انتصاراً شاملاً في نهاية القرن العشرين تيار "الخيال العلماوي" Illusion Scientiste. وهذا التيار سيتغذى باتجاهات مدارس فكرية متتالية ومتعددة، لها قاسم مشترك واحد، هو ذلك الايمان الساذج بأن المجتمعات تعمل بقوانين ثابتة ويمكن تطوير الأنظمة الاجتماعية من خلال تطوير هذه القوانين عبر وسائل علمية بحتة من دون الاهتمام بالقيم الجماعية الا تلك القيم الناتجة من تصور أفلاطوني الطابع، إذا جاز هذا التعبير، ذات الصفة المسبقة الجامدة Axiomatique غير القابلة للمناقشة.
والاتجاه القائل إن الاقتصاد "علم" لا يختلف عن العلوم الدقيقة اختلافاً جوهرياً، تطور مع تطور الرياضيات الحديثة التي سُخّرت لإعادة تمثيل الواقع الاقتصادي عبر معادلات ووظائف رياضية معقدة وطرق الحساب الحديث. وما شجع هذا الاتجاه صعود الفكر الوضعي Pense positiviste وكذلك الفكر التطوري Evolutionisme. وهما افترضا امكان اكتشاف قوانين في كل ميادين الحياة المجتمعية. وساعد على ذلك بطبيعة الحال تطور علم الاحصاء وحاجة الدولة الحديثة الى الاعتماد على احصاءات دقيقة في كل الميادين. بدءاً من عدد السكان وكل ما يتعلق بتوزيعهم على أراضي الدولة، وطريقة عيشهم، من ملبس ومسكن وتغذية وتربية واستهلاك السلع والخدمات. إن تطوّر فن الاحصاء وتطوّر المنشأة الاقتصادية الحرفية الطابع الى مؤسسة كبيرة الحجم، يعمل فيها المئات ثم الآلاف من العمال والموظفين، هو من العوامل التي أدت بدورها الى توسيع دائرة استعمال الاحصاء خارج نطاق الدولة وأجهزتها الى قطاع المؤسسات الانتاجية الخاصة. وكلما تطور الاحصاء تطوّرت معه أساليب رياضية جديدة خاصة بالاقتصاد لوصف اوضاع اقتصادية معينة عبر رموز رياضية.
ونشأت تدريجاً هذه الفكرة الغريبة العجيبة ومفادها ان جلّ المعضلات الاقتصادية الشائكة يمكن أن يحصل ليس بالتفكير المتأني وبالنظر الى خصوصيات أوضاع كل مجتمع والمرحلة التاريخية التي يمر بها والقيم الجماعية السائدة والتي قد تتطلب تغييراً، إنما عبر حل معادلات رياضية يفترض فيها ان تمثل تعقيدات الوضع الاقتصادي المعزول عن أية علاقة بأوضاع مجتمعية اخرى. وقد التقى في السنوات الثلاثين الماضية اتجاهان متزامنان ومترافقان، وأتى تحالفهما القوي ليقضي على مفهوم الاقتصاد السياسي في شكل كامل وليؤمن انتصار الفئات التي سيأتي ذكرها في ما بعد، والمدعية ان الاقتصاد علم أو علوم بفروعه المتعددة على قدم المساواة مع الفيزياء والبيولوجيا وعلم الكون والفلك. وأصبحت في الحقيقة الأساليب الرياضية الخاصة بالاقتصاد تغزو تدريجاً المعارف الانسانية الأخرى مثل التاريخ والسوسيولوجيا، فتصبح الرياضيات مفتاح النجاح الذي لا بد من امتلاكه للوصول الى الشهرة الأكاديمية. وقد انهار تماماً التقسيم التقليدي في الاقتصاد السياسي بين الاقتصاد الاجمالي واقتصاد المنشأة الفردية.
التنازل للترقي اجتماعياً
حصل الانقلاب كما سميناه ولا أحد يدري كيف حدث ذلك ولماذا حدث في هذا الشكل وما هي العواقب والتطلعات. فبينما كانت المعرفة الاقتصادية الكلاسيكية، أي علم الاقتصاد السياسي، تستند بالدرجة الأولى الى معارف مختلفة، منها المتعلقة بالتاريخ وعلم السكان والفلسفة الاجتماعية والقانونية، والعلم الزراعي والصناعي، أصبحت المعرفة الاقتصادية مثل علم دقيق أو حاد كما يقال Science dure، لاستنادها الى منهج علمي صرف على نسق العلوم الفيزيائية، تلغي مساهمة كل المعارف الأخرى التقليدية في المعرفة الاقتصادية، لتؤسس حالها على الرياضيات الشكلية Formelle. عوامل عدة ساهمت في جعل الانقلاب ممكناً من دون أية مقاومة تذكر.
ومن ناحية تطور الرياضيات نفسها، فإن تطور نظرية الألعاب وتقنيات احتساب حصول المحتمل Theorie des jeux et calcul des probabilits هو العامل المهم الذي كرّس التوهم الوضعي illusion psitiviste بأنه يمكن اعادة تمثيل كل الاحتمالات الكائنة في آليات التصرف الاقتصادي في المجتمع عبر الاسلوب الرياضي. ورأى المتخصص في الاقتصاد ان اللجوء الى استعمال ترسانة الأسلحة الرياضية الحديثة يرتقي به الى الوضع نفسه الذي يمتاز به العاملون في مجال العلوم الدقيقة والحادة. والحقيقة ان ما حصل في القرن العشرين هو انقلاب في مراتب الوجاهة الثقافية، فالرجل المثقف ثقافة مبنية على حد أدنى من الثقافة الموسوعية Culture encyclopediste والمتخصص في احدى حقول المعارف أو العلوم الانسانية مثل الاقتصاد أصبح يشعر تدريجاً بعقدة نقص تجاه كبار العلماء المتخصصين في احدى العلوم الدقيقة والذين بدأوا يلمعون ويتبوأون مراكز اجتماعية وإعلامية رفيعة. وقد سبق المهندسون الاقتصاديين في الوجاهة المهنية وهي الامكانات المادية وفي المراكز العليا في الدولة كما في القطاع الخاص، بل أكثر من ذلك أصبح المهندسون هم المقربون من صانعي القرار وهم الذي يلهمون الدولة وكبريات الشركات الخاصة السياسات الرئيسة والمشاريع والبرامج الواجب تنفيذها في مجال البنية التحتية والانتاج. فالاقتصادي وهو صاحب الثقافة الواسعة الموسوعية الطابع في الأصل وجد نفسه مهمشاً تدريجاً في صناعة اتخاذ القرارات وصوغ السياسات والقيم المجتمعية المستندة اليها في تبريراتها.
وكي لا تخسر كل شيء في المبارزة مع العلوم الدقيقة أصبحت المعرفة الاقتصادية تتنازل شيئاً فشيئاً عن كل ما كان يربطها بالمعارف الانسانية الأخرى، وفي شكل خاص أصول الحكم والقوانين. ولا بد هنا من التذكير بأن تعليم الاقتصاد السياسي كان في الأساس مادة من المواد المدرّسة ضمن المواد الخاصة بعلم القانون، ثم أصبح فرعاً للتخصص ضمن كليات القانون قبل أن يستقلّ تماماً ليركز على استعمال الرياضيات كعنصر أساس في اعادة تمثيل الواقع في شكل مجرد واصطناعي. ثم انشطر علم الاقتصاد الى اجزاء مختلفة لا رابط بينها الا استعمال الأسلوب الرياضي الحديث: الاقتصاد الصناعي على سبيل المثال، أو الاقتصاد التربوي، أو الاقتصاد الزراعي، أو اقتصاد التنمية الى آخره من هذه المواد المتعددة المتخصصة. هذا إضافة الى تطوير "علوم خاصة بإدارة الأعمال" Business Administration لا تقلّ استعمالاً للأساليب الرياضية أو ادارة او علم اقتصاد المنشأة الاقتصادية للدراسات التجارية Ecoles Superieures de commerce وكذلك معاهد الاحصاء، هذا إضافة الى أن المعاهد الخاصة ببعض فروع علم الهندسة مثل Polytechnique أو Pont et chausse أصبحت تؤسس لتعليم الاقتصاد في شكل مكثف. فقد أصبح الموضوع ضائعاً تماماً. الجميع يتبنى العلوم الاقتصادية ويطالب بمزيد منها بالاسلوب الرياضي الحديث، بينما الاقتصاد السياسي زال والاقتصاد كمعرفة أصبح يتيماً من كثرة من يتبناه في صلب اختصاصه. ومن العوامل التي أسهمت في اعطاء الاقتصاد صبغة العلوم الدقيقة إدخال هذه المعرفة في سلسلة جوائز نوبل الموزعة سنوياً في السويد على كبار العلماء من الأطباء والبيولوجيين والفيزيائيين والرياضيين. بدأ ذلك في عام 1968، أي بعد 68 سنة من بداية منح الجائزة. مع الاشارة الى أن صاحب المبادرة في هذا الشأن هو البنك المركزي السويدي الذي احتفل بهذه المبادرة بعيد مرور 300 سنة على انشائه. ونذكر هذه المبادرة المهمة لأن منح الجائزة أثر تأثيراً كبيراً في منحى الدراسات الاقتصادية، إذ كافأت الجوائز الممنوحة في معظم الأحيان الاقتصاديين ذوي منحى استعمال التقنيات الكمية Technique quantitatives الشكلية المستندة الى اجهزة رياضية معقدة ضمن اطار اتجاه عقائدي تميز بسيطرة الأفكار المبسطة والساذجة لليبرالية الجديدة Neoliberalisme الآتية من الولايات المتحدة. وتدل الأبحاث والاحصاءات حول حائزي الجائزة الى ان الغالبية العظمى منهم هم من الجنسية الأميركية ومن مستعملي التقنيات الكمية كمنهج رئيس في أعمالهم، وأشهر الحائزين ملتون فريدمن Milton Freedman الذي نال الجائزة عام 1976.
ويشار الى أن عدداً قليلاً جداً من حائزي الجائزة ينتمون الى مدارس فكرية أخرى لا تزال تهتم بقضايا العدالة والصالح العام Bien commun.
وما لا شك فيه ان توظيف "العلم" الاقتصادي الجديد المبني على استعمال كثيف للتقنيات الكمية في آخر مرحلة من صراع العقائد بين الشيوعية والرأسمالية،د أدى الى صعود أو انتشار المدرسة الفكرية الاميركية الاقتصادية المبنية على المغالاة في الليبرالية، ولذلك تسميتها بالليبرالية الجديدة.
ان استعمال الرياضيات اعطى الانطباع للجميع بأن الاقتصاد علم وضعي وموضوعي في الوقت ن فسه، وترافق هذا الاتجاه مع صعود الايديولوجيات المعادية لتدخل الدولة في الاقتصاد كوسيلة أساسية لتأمين المصلحة العامة والرفاهية للمجتمع. وكانت تجربةثاتشر وريغان في كل من انكلترا والولايات المتحدة من العوامل التي أعطت دفعاً قوياً في هذا الاتجاه الميتافيزيقي Metaphysique الايماني الطابع في اطار آخر مرحلة من الحرب الباردة. وفي المعركة جرت تصفية تراث الاقتصاد السياسي وآخر رمز كبير له وهو اللورد كينز Lord Keynes مع كل الأدبيات الاقتصادية التي بنيت حول نظريته القاضية بضرورة تدخل الدولة لتأمين التنمية المتواصلة وتجنب الأزمات الاقتصادية الانكماشية.
واشتهر معظم حائزي جائزة نوبل باستبعاد دور الدولة في كتاباتهم الا للمطالبة بعدم تدخلها في القرارات العقلانية الطابع التي يتخذها الأفراد أو المنشآت الاقتصادية في ادارة اعمالهم الاقتصادية والمالية. فالانسان يعلم كيف يتصرف وكيف يقرأ التطورات المستقبلية، ولذلك يبني قراراته على استباق عقلاني لمجرى الأمور Anticipation rationelle. ولا حاجة إذاً الى أي تدخل للدولة في الشؤون الاقتصادية وفي آليات السوق شرط أن يكون السوق فعلاً حراً لا يعرقله تدخل ما، خصوصاً من الدولة. وعلى الدولة فقط أن تؤمن استقرار الأسعار، وهذا أصبح الهدف الرئيس لأي بنك مركزي بدلاً من تطوير وسائل التمويل وتكييفها لتلبية حاجات التنمية كما كان الحال سابقاً. والحقيقة ان الفكر النقداوي Monetariste العائد الى شهرة ملتون فريدمن أصبح يهيمن على الساحة الاعلامية والاقتصادية، وترافقت هذه الظاهرة مع صعود المدارس الاقتصادية المركزة على دراسة تصرفات المنشآت والعاملين فيها.
وهكذا اكتمل الانقلاب على تراث الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، المبني على ثقافة واسعة منفتحة على المعارف المختلفة، لمصلحة بعض القواعد المنزلة الطابع وغير القابلة للمناقشة والتي بها تختصر كل معرفة اقتصادية معرفة تستند في شكل حصري إلى تطبيق اساليب الحساب الرياضي الشكلي على كل شيء. والحقيقة ان هذا التطور المؤسف في الاقتصاد اقتحم أيضاً سائر العلوم الانسانية.
* كاتب لبناني ووزير سابق. والنص من مداخلة له في "بيت الحكمة" تونس في اطار "اللقاء الدولي الخامس لقرطاجة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.