وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنتاج المعرفة العلمية واستهلاكها في المجتمع العربي المعاصر: حقائق وآمال
نشر في الحياة يوم 25 - 04 - 2000

أعالج في هذا العرض الاشكاليات الفكرية والمنهجية المتعلقة بإنتاج المعرفة العلمية وأساليب استهلاكها في المجتمع العربي المعاصر، والمتطلبات الثقافية والإجتماعية للتغلب على هذه الإشكاليات ولإنهاء التبعية الثقافية وتحقيق الاستقلال المعرفي.
في الغرب اليوم تتصارع إيديولوجيات ونظريات فكرية مختلفة تقول بالحداثة وما بعد الحداثة، بالتحديث الجديد والعولمة، بالديموقراطية والتعددية، بالرأسمالية والسوق الحرة، إلخ، صراعات يساهم فيها الكثيرون من المثقفين والأكاديميين العرب في الداخل والخارج. في هذا البحث أحاول تجنب الدخول في هذه الخلافات النظرية والتركيز على وصف وتحليل عملية إنتاج المعرفة واستكشاف دورها في تغيير الوعي والممارسة الاجتماعية وتأثيرها في تقرير مصير العالم العربي في هذا القرن.
وأتساءل بداية عن ماهية المعرفة التي نسعى اليها وشروط إنتاجها ومتطلبات تحقيقها في المجتمع:
المعرفة بمدلولها الحديث هي المعرفة العلمية غير أو عكس المعرفة الغيبية التي تتجسد في العالم والتكنولوجيا التقانة أو التقنية، وفي العلوم الاجتماعية ومناهجها التطبيقية. ويتم انتاج، هذه المعرفة ضمن إطار اجتماعي تاريخي محدد يقرر في أن مضمون المعرفة وطرق استهلاكها عملياً ونظرياً.
تتميز إشكالية المجتمع العربي مثل المجتمعات الانتقالية في نزعته لصد المعرفة الجديدة والتركيز على إنتاج المعرفة الموروثة وإعادة إنتاجها باستمرار، مما يؤدي في كثير من الأحيان الى حالة من التناقض بين المنظور العلمي والمنظور الغيبي تمنع التطور العلمي السليم وبالتالي تمنع التمكن من المنهج العلمي لبناء نظام علمي متكامل ومستقل. لهذا يمكن القول إن المعرفة العلمية في المجتمع العربي أو في المجتمعات العربية في شكلها التقليدي المحافظ وشكلها الانتقالي المستحدث، ليست علمية بالمعنى الدقيق.
وينعكس ذلك في الخطاب الثقافي العام في هذه المجتمعات على صعيدي الوعي واللغة التي تغلب فيها الخطابة اللاتحليلية على العقل الناقد. هذه المجتمعات تنقصها الثقة الذاتية لمجابهة أسباب عجزها ولاستنباط الوسائل الفعالة لإمتلاك المنهجية العلمية على المستوى الذي يمكنها من إنتاج نظام معرفي مستقل عن المعرفة المستوردة وبالتالي يمكنها من التحرر من حاجتها المستمرة لإرسال البعثات الطالبية والطلبة الموهوبين الى الخارج للتخصص في الحقول العلمية كالطب والهندسة إلخ، كما في العلوم الاجتماعية والانسانية كما كان الحال منذ أيام رفاعة الطهطاوي في مطلع القرن التاسع عشر حتى الان.
والسؤال الذي أثيره في نهاية هذا البحث يدور حول امكانية هذه المجتمعات مجابهة اشكالياتها والخروج من حالة التبعية المعرفية التي تعاني منها وإقامة نظامها العلمي المستقل.
بعد مرور أكثر من قرنين على قيام حركة التنوير في أوروبا، هناك اليوم بداية إدراك في عالمنا العربي بأن نشوء المعرفة الحديثة القائمة على العلم والعقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على تحقيق قطيعة معرفية مع الفكر التقليدي أو الموروث، الذي وصفه عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب بالفكر "الذي لم تخترقه المعرفة العلمية، ولم يرتبط بتقدم العلم" الطاهر لبيب، "العالم والمثقف الانتليجنسي" في "الثقافة والمثقف في الوطن العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ص22.
أقول إن هناك بداية إدراك، إذ أن مفهوم القطيعة المعرفية لم يستوعب تماماً بعد بكامل ابعاده الإبستمولوجية، لا لأن "العقل العربي" لا يستطيع استيعابه، بل لأن المجتمع الأبوي ينزع بعامة الى منع التحول الفكري والوقوف بوجه التغيير بأشكاله الاجتماعية المختلفة لتعزيز نظامه القائم فكراً وسلطة. وفي حين توظف المجتمعات التقليدية مجتمعات ما قبل الحداثة المعرفة للحفاظ على الأوضاع القائمة، تستعملها المجتمعات الحديثة التي حققت القطيعة مع الموروث أداة تطويرٍ وتغيير مستمر في المجتمع. في القرن الواحد والعشرين، في عالم ما بعد الحداثة، لا مهرب من التغيير. ما كان يُدعى العالم الثالث أو عالم "الجنوب"، أصبح جزءاً من نظام عالمي سنته التغيير المتواصل. في هذا النظام كل المجتمعات التقليدية سائرة، عاجلاً أم آجلاً الى الزوال. وما يحكم صراع البقاء هي المقدرة على استيعاب عملية التغيير وتحقيقه ذاتياً لمجابهة تحديات العصر الذي تهيمن عليه اليوم البلدان المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
مقدرة الصراع والبقاء ليست ملك مجتمع دون آخر. ليس هناك "عقل عربي" متخلف و"عقل" أميركي أو غربي متقدم إلا بالمعنى التجريدي أو المجازي. إذ ليس هناك إلا عقول فردية تتجسد باستمرار في ثقافات ومجتمعات مختلفة ومتغيرة في تجلياتها. "العقل العربي" الذي تحدث عنه محمد عابد الجابري في كتابه بهذا العنوان ليس إلا الفكر العربي ولا شيء آخر. محمد عبد الجابري، "العقل العربي"، ص12. بهذا المعنى فإن "العقل" العربي ينبثق من المجتمع العربي وتاريخه، ولا يمكن تفهمه والتعامل معه إلا من خلال المجتمع العربي نفسه ومن خلال الثقافة العربية المتغيرة عبر التاريخ.
ليس القطيعة مع الموروث، إذاً، نتيجة تفوق شعوب عن شعوب أو ثقافات عن ثقافات، بل هي عملية ذاتية تنبثق من داخل المجتمع في لحظة تاريخية، فتحقق نقلةً نوعية في الوعي الثقافي وتحولاً جذرياً في الانتاج المعرفي في المجتمع. الحدث الرئيسي في هذا التحول هو أن الإطار الذي ينتقل فيه انتاج المعرفة من النمط التقليدي الموروث الى النمط العلمي الحديث، يتحول فيه لا مضمون المعرفة وحسب، بل أيضاً "أسلوب ومنهجية انتاج المعرفة واستهلاكها.
إن انتاج المعرفة الحديثة، إنتاج العلم والتكنولوجيا والعلوم الاجتماعية، يحصل في إطار أو مجال مؤسسي محدد يتألف من "جماعات علمية" Scientific Communities مقامها الرئيسي في الجامعات ومراكز البحوث العلمية Research Centers وينمو وينضج في مناخ علمي تسوده حرية الفكر والقول، ويؤتمن فيه الدعم المالي الكامل. أما استهلاك المعرفة استعمالها اجتماعياً فيتم من خلال أجهزة الدولة المختصة من ناحية، وبواسطة المؤسسات والبنى المستقلة داخل المجتمع المدني من ناحية أخرى.
إذا كانت الجامعة ومراكز البحوث المرتبطة بها، والمستقلة عنها تشكل بؤر انتاج المعرفة العلمية، فما هو وضع الجامعة ومراكز البحوث العربية الحالي وما هي قدراتها الفعلية والكامنة على انتاج المعرفة العلمية واستهلاكها عقلانياً في المجتمع العربي؟
لنراجع بعض الاحصاءات الواردة في تقريرين مهمين صدر في السنوات الأخيرة حول الجامعات ومراكز البحوث العلمية في الدول العربية. الأول، بقلم د. أنطوان زحلان، الخبير والمؤرخ العلمي الأول في العالم العربي، ورئيس قسم الفيزياء السابق في الجامعة الأميركية في بيروت، بعنوان "العرب وتحديات العلم والثقافة: تقدم من دون تغيير، "الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية 1999. والتقرير الثاني، من اصدار الأمم المتحدة ومؤسسة اليونسكو بعنوان "The Higher Educational System in the Arab States: Development of Science and Technology Indicators 1998": القاهرة، 1999.
في منتصف القرن حوالى سنة 1950 كان عدد الجامعات في البلدان العربية 12 جامعة، بينها ثلاث جامعات خاصة وأجنبية الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف أيضاً في بيروت، والجامعة الأميركية في القاهرة. وبين سنة 1950و1980 ارتفع عدد الجامعات الى 82 جامعة وأما في السنوات الخمسة عشر الأخيرة فقد إزداد عدد الجامعات بما يفوق المئة، فوصل في نهاية القرن العشرين الى 200 جامعة تقريباً.
عام 1997 كان عدد خريجي الجامعات العربية حوالى عشرة ملايين خريج: 25 في المئة منهم يحملون شهادات بالكالوريوس أو أعلى في العلوم الأساسية Basic Sciences أو في العلوم التطبيقية Applied Sciences. بين جميع الخريجين كانت نسبة التخصص في العلوم الطبيعية على صعيد ال B A 26 في المئة سنة 1985 وارتفعت الى 29 في المئة سنة 1997، وفي الفترة ذاتها، انخفض التخصص في العلوم الطبيعية على صعيد الMA من 52 في المئة الى 66 في المئة سنة 1991، عاد وانخفض الى 63 في المئة سنة 1997.
- كان الانفاق السنوي الإجمالي على التعليم العالي وعلى برامج البحث والتطوير Research & Development في البلدان العربية بحسب احصاءات زحلان دون 1 في المئة من اجمالي الناتج المحلي العربي، أي على مستوى مأسوي بالنسبة لمتطلبات التنمية والتطوير ولمتطلبات الجامعات ومراكز البحوث العلمية زحلان، 185. ويقول زحلان إن هذا النقص في التمويل كان عاملاً أساسياً في انخفاض المستوى العلمي وبخاصة في حقول الجيولوجيا والهندسة المدنية والكيماوية والميكانيكية والصيدلة والإدارة العامة، وفي الحقول العلمية الجديدة، مثل بيولوجيا الجزئيات Molecular Biology والرياضيات وتكنولوجيا المعلوميات وعلوم المواد زحلان، 97.
- ويشير زحلان الى علاقة انخفاض المستوى العلمي بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إذا استمرت الأوضاع الجامعية على حالها واستمر تضاعف عدد السكان مع نهاية العقد الثاني كما هو متوقع. أن الازدياد السكاني في هذه السنة سيتطلب تأمين مليونين ونصف مليون مهنة جديدة سنوياً، الأمر الذي يعجز النظام الاقتصادي القائم عن تحقيقه، مما سيؤدي في السنوات المقبلة الى تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية بشكل لم يعهد مثله العالم العربي من قبل.
واضح أن موضوع انتاج المعرفة واستهلاكها ليس موضوعاً أكاديمياً فحسب، وأن قضية الجامعات ومراكز البحوث العلمية العربية قضية قومية مصيرية. فحال التخلف المعرفي القائمة من شأنها أن تؤدي الى كارثة قومية إذا استمرت على حالها. في حين يؤمن نظام العولمة الجديد، الذي تهيمن عليه الدول المتقدمة، وفي مقدمها الولايات المتحدة، أي دول الأقلية السكانية التي لا يزيد عدد سكانها عن 20 في المئة من عدد سكان العالم ارتفاع ارباح الطبقات الثرية فيها، يُزيد هذا النظام في الوقت نفسه من فقر الدول النامية التي تشكل الأكثرية السكانية في العالم.
في تحليل شامل باللغة الإنكليزية يلخص العالم المصري المرموق، نادر الفرجاني، الوضع العربي القائم كالتالي:
"إن النظام الاجتماعي القائم في العالم العربي هو نظام أبوي يلفه الخوف من السلطة والرضوخ لإرادتها. أكثرية السكان فوق 50 في المئة أميين عملياً. والأكثرية الكبرى لا مقدرة لها على التفكير الناقد أو التعبير الحر، والجميع محروم من حق المساهمة في الشؤون العامة ... إزاء هذا الوضع القاسي ليس أمام العلماء والباحثين إلا أحد الخيارين: أن يسلكوا سلوك المثقف المسؤول، أو أن يقبلوا التعامل مع النظام القائم. إن الخيار الأول يرمي الى استعمال المعرفة في خدمة التقدم البشري. غير أن الذين اختاروه واستمروا فيه قلائل...".
نادر فرجاني
Science and Research for Development in The arab Region, Cairo 1999 P 27-28
مما لا شك فيه أن المجتمع العربي، في مطلع القرن الواحد والعشرين، يتعرض لخطر محدق لم يتعرض له. منذ العصور الوسطى والغزوات البربرية التي هددت وجوده في الماضي. مجابهة هذا الخطر والتغلب عليه لا يتمان إلا من خلال عملية تغيير جذري تجري داخل المجتمع وتُصلح نظامه التربوي والتعليمي القائم وتقيم في فترة زمنية لا تتعدى حياة الجيل الصاعد نظاماً حديثاً يسهم في مسيرة التغيير الاجتماعي.
على رأس جدول عملية التغيير التربوي والتعليمي، إصلاح الجامعات ومراكز البحوث العلمية. فيتناول الاصلاح أولاً بيروقراطية الجامعة وبرامج التدريس ونظام مراكز البحوث العلمية التابعة للجامعة والمستقلة عنها. ويشترط زُحلان قيام عملية اصلاح مماثلة تجري يداً بيد على صعيد البيئة السياسية ويقول:
"إن مستقبل الوطن العربي ومستقبل العلم في الوطن العربي يعتمدان على قدرة العرب على تطوير ثقافتهم السياسية... على العرب حتى يستفيدوا من العلم أن يقيموا بيئة سياسية يمكن ضمنها للاقتصاد الوطني الصناعي أن ينمو. وإلا فإن التدهور الاقتصادي للوطن العربي مقارنة بكل المناطق الرئيسية في العالم سيستمر في الهبوط السريع". زحلان، 28.
أما الخطوط العريضة التي تلخص متطلبات الإصلاح بشقيه الإداري والسياسي فهي:
أولاً، "دمقرطة" الادارة الجامعية وفصلها إذا أمكن عن بيروقراطية الدولة.
وهذا يشكل الشرط الرئيس لتحويل الإدارة الجامعية من إدارة تابعة لإدارة السلطة وأيديولوجيتها السياسية كما الحال في العديد من البلدان العربية الى ادارة أكاديمية تتمتع بالاستقلال التام في تسيير شؤونها وتنفيذ مخططاتها التعليمية والبحوثية دون خوفٍ من التدخل الخارجي.
ثانياً، تأمين القوانين اللازمة لضمان استقلال الجامعة وحريتها الفكرية وحمايتها من تدخل أجهزة الدولة، وعلى رأسها الأمن العام والمخابرات. وهذه الخطوة، إذا اتخذت، من شأنها أن تؤدي الى عودة آلاف "الأدمغة" العربية المهاجرة والمبعدة وتمكنها من المساهمة في عملية اصلاح الجامعات ومراكز البحوث وتحديث المجتمع ككل.
ثالثاً، على الصعيد الأكاديمي، اعادة النظر في نظام التدريس على المستويات كافة وفي جميع الأقسام واستبداله بنظام جديد، شرط أن يتم ذلك ليس فقط بواسطة وزارة الثقافة أو وزارة التعليم العالي أو غيرهما من الدوائر الحكومية، بل بواسطة اللجان الجامعية ذات التخصص العلمي التي تنتقيها الجامعة ويكون لها الكلمة الأخيرة في عملية التجديد والاصلاح.
رابعاً، وضع الأسس الجديدة والمقاييس الموضوعية لتعيين الأساتذة والمدرسين وفي أسلوب قبول الطلاب في الأقسام والمعاهد المختلفة. إن أحد أهم أسباب انخفاض مستوى التعليم العالي في معظم الجامعات العربية يعود الى ضعف مؤهلات الهيئات التدريسية وضعف الكفاءات الأكاديمية لدى الطلاب. أن مجرد تخريج الآلاف من الشباب والشابات الجامعيين ذوي الثقافة الناقصة يُضعف المجتمع، ولا يزيد في مخزون معرفته العامة. إنه يؤدي الى تفاقم بطالة "المتعلمين" وازدياد الضغوط الاجتماعية وبالتالي إلى اضعاف البنية الاجتماعية.
خامساً، اصلاح مراكز البحوث العلمية، ويدعو الفرجاني الى تفكيك بعضها كلياً، واعادة تنظيم الاتحادات العلمية بحيث يقوم على الكفاءات المؤهلة لا على الواسطة والصلات العائلية.
ندرك بحيث أن عملية الاصلاح هذه تشكل مشروعاً متكاملاً ليس من السهل تحقيقه غداً أو بعد غد، حتى لو اقتنعنا جميعاً بضرورته. فالإصلاح لا يحققه مجرد الشعور بضرورة الإصلاح، ولا حتى تعهد الدولة بتحقيقه. أنه يتم من خلال عملية تراكمية طويلة الأمد تحققها فئاتُ وحركات اجتماعية وثقافية وسياسية داخل المجتمع تدعم الجامعة وتمهد لها السبل والوسائل لتطوير نفسها وتحقيق أهدافها.
والمرحلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة لعملية الإصلاح هذه كما بالنسبة الى التغيير الاجتماعي. في وطننا العربي. وكما وقد أظهر زحلان في تقريره، ان عجز العرب، في مجتمعاتهم القطرية عن توظيف امكاناتهم البشرية والمادية بالكفاية لتحقيق النقلة التاريخية التي تمكنت من تحقيقها معظم شعوب العالم، أي تحقيق الحد الأدنى من التغيير الممكن والمطلوب لإقامة المجتمع الحديث، فسيكون مصير هذه المجتمعات الى المزيد من الضعف والتبعية والتراجع الاجتماعي والتحجر السياسي والبلقنة القومية وإلى اضمحلال الحضارة العربية كحضارة عالمية في القرن الواحد والعشرين.
أن العرب قادرون على تحقيق النقلة التاريخية.
والخطوة الأولى في هذه النقلة تقوم على الاعتبارات العملية التالية:
أولا، على أن مشروع التغيير ومسؤولية تحقيقه يقعان ضمن إطار الدولة الوطنية" Nation State أي في المجتمعات القُطرية، لا خارجها.
ثانياً، أن العامل الحاسم في التغيير القُطري، ليس القرار الذي يؤخذ من قبل الدولة منفردةً بل يقوم على مشاركة الحركات الاجتماعية، من أحزاب وتجمعات وجمعيات واتحادات وطلابية نسائية وطالبية وعمالية.
ثالثاً، ان التغيير لا يتحقق بواسطة العنف أو الاكراه بل بواسطة القانون والقرارات الدستورية والحوار والتعاون بين السلطة والحركات الاجتماعية.
وأخيراً هناك للمثقفين العرب في اقطار الوطن العربي وخارجه دور خاص يلعبونه في عمليتيّ الإصلاح العلمي والتغيير الاجتماعي. فهم صلة والوصل بين ما يجري في الجامعات ومراكز البحوث وبين ما يجري في المجتمع. انهم، بكلمة أخرى، الجسر الرابط بين صراعات المجتمع الكبرى وبين قضاياه المصيرية، وفي مقدمها ترشيد المعرفة وتحرير المرأة واقامة النظام الديموقراطي الحديث.
* أستاذ في جامعة جورجتاون، واشنطن، والنص مساهمة في المؤتمر العلمي الرابع الذي عقد في كلية التربية - جامعة البحرين الشهر الماضي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.