اطلقت الصحافة الاسرائيلية في الاسابيع الاخيرة سلسلة هجمات عنيفة على الرئيس بشار الاسد، عبر تسريبات الى صحافيين مصدرها "موساد"، جهاز الاستخبارات الخارجية الاسرائيلي. وحسب هذه التقارير فان صناع القرار الاسرائيليين اجروا "مراجعة لتقويمهم" بشأن الدكتور بشار وخرجوا باستنتاج سلبي. وكانت الصحافة الاسرائيلية اعطت صورة ايجابية عن الدكتور بشار قبل وصوله الى السلطة، وقدمته كشاب ليبيرالي ذي ذهنية متفتحة تلقى تعليمه في الغرب ويشير اهتمامه المتحمس بالانترنت الى انه سيكرس طاقاته للشؤون الداخلية، وبشكل خاص للاصلاح ولتحديث المجتمع السوري. وكان ذلك يعني ضمناً ان آفاق السلام مع اسرائيل ستتعزز في ظل زعامة كهذه. هذا الانطباع اكدته وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت التي افادت، اثر لقائها الدكتور بشار خلال مراسم تشييع الرئيس الراحل حافظ الاسد، انه بدا حريصاً على استئناف محادثات السلام مع اسرائيل بأسرع ما يمكن. لكن طرأ الآن تغيير راديكالي على نبرة الحديث. فالدكتور بشار يُصوّر الآن كحاكم ضعيف تعوزه الخبرة، لا يفرض سيطرة كاملة على سورية، وهو عرضة للتلاعب في لبنان من جانب "حزب الله" وامينه العام السيد حسن نصرالله. ولم تكتف الصحافة الاسرائيلية بتوجيه انتقادات، مستندة في ذلك الى تصريحات "مسؤولين امنيين" مجهولي الهوية، بل لجأت ايضاً الى اطلاق تهديدات. فقد حذرت من ان بشار يلعب بالنار باعطاء ضوء اخضر ل"حزب الله" لشن هجمات على الجنود الاسرائيليين من داخل لبنان. واذا حدث تصعيد للعنف في لبنان، هل سيكون قادراً على التعامل معه؟ واذا واصل نهجه الحالي فانه سيجد نفسه في مشكلة عويصة! وعلى الوتر الاسرائيلي ذاته عزف كاتب العمود توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" واطلق تهديداً اكثر صراحة. إذ نشر في مطلع كانون الاول ديسمبر الجاري مذكرة وقحة الى الدكتور بشار، زُعم انها من بيل كلينتون، تضمنت تهديداً مكشوفاً لسورية بهجوم اسرائيلي اذا واصل الدكتور بشار، حسب ادعائه، تشجيع "حزب الله" على شن غارات ضد مزارع شبعا الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي. كتب فريدمان: "اعتقد انك ... تقترب على نحو خطر من اقتراف اكبر خطأ في حياتك السياسية القصيرة". واضاف: "اعرف انك تعتقد بأن الجنود الاسرائيليين اصبحوا يتصفون بالرخاوة، لكن يمكن ان تخطىء التقدير تماماً ... قد تُمنى بضربة جسيمة ... وسينتهي الامر على نحو سيىء بالنسبة اليك، وعلى نحو اسوأ بالنسبة الى سورية". بدأت الحملة ضد الدكتور بشار في تشرين الاول اكتوبر الماضي في اعقاب لقاء الزعيم السوري مع مادلين اولبرايت في الرياض. ونتذكر ان اولبرايت توجهت بصورة مفاجئة الى المملكة العربية السعودية، مباشرة بعد قمة شرم الشيخ بين كلينتون وباراك وعرفات، لتلتقي الدكتور بشار وتحضه، على ما يبدو، على استئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل. لكن مع استمرار الانتفاضة وسقوط فلسطينيين قتلى كل يوم، لم يكن بوسع الدكتور بشار إلاّ ان يرفض. واُفيد ان اولبرايت ابلغت صحافيين غربيين في طريق عودتها الى واشنطن اثر اللقاء ان لا شىء ايجابياً اطلاقاً يمكن ان يُتوقع من الدكتور بشار في المستقبل القريب. هذه كانت الاشارة الى "اعادة التقويم" من جانب اسرائيل. باراك وخطط "حزب الله" ماذا يكمن وراء هذه الحملة ضد الدكتور بشار؟ انه، باختصار، خوف رئيس الوزراء ايهود باراك من "جبهة ثانية" في لبنان. فباراك يكافح لانقاذ حياته السياسية. وهىأت استقالته المفاجئة المسرح لاجراء انتخابات مبكرة لاختيار رئيس الوزراء في 5 شباط فبراير المقبل. وتمكن منذ ذلك الحين، عبر سلسلة خطوات تكتيكية، من اقصاء خصمه اليميني بنيامين نتانياهو من السباق، بالاضافة الى منافسين محتملين على اليسار مثل رئىس الكنيست افراهام بورغ والسياسي المخضرم شمعون بيريز. ويواجه باراك الآن "البلدوزر" الاسرائيلي ارييل شارون 72 عاماً الذي يتقدم عليه بفارق كبير في استطلاعات الرأي على رغم - او ربما بسبب - سجله المغمس بالدم. ويكمن أمل باراك الوحيد في ان يفوز على شارون - وهو أمل ضئيل - في ابرام اتفاق سلام مع ياسر عرفات في الاسابيع المقبلة. وعلى رغم ان من المستبعد ان يحظى مثل هذا الاتفاق بتأييد كنيست تناصبه العداء، يمكن لباراك عندئذ ان يطرحه على الجمهور في انتخابات عامة سيطلق عليها "استفتاء من اجل السلام". ويعتقد باراك ان الجمهور الاسرائيلي سيصوت له اذا استطاع ان يضمن نهاية حاسمة للنزاع مع الفلسطينيين. لكن خطط باراك يمكن ان يفسدها تفجر المواجهات على الحدود الاسرائيلية - اللبنانية. فالانجاز الوحيد لباراك حتى الآن، من منظور جمهور الاسرائيليين، هو انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان. لكن حتى هذا الانجاز يواجه التشكيك والنقد حالياً بسبب الضغوط التي يمارسها "حزب الله" على مزارع شبعا. وفي حال تفجر العنف على الجبهة اللبنانية سيُنظر الى مراهنة باراك بالانسحاب من لبنان من دون اتفاق مع سورية باعتبارها انتهت الى الفشل. وسيتحول انجاز باراك الوحيد الى هباء. وهذا هو احد الاسباب التي تجعل باراك يتطلع بقوة الى ان يلجم الدكتور بشار "حزب الله"، كما انه يفسر التهديدات ضد سورية اذا اخفق في ذلك. ويكرر معلقون في الصحافة الاسرائيلية السيناريو المفزع الآتي: ماذا سيحدث اذا نفذ "حزب الله" هجوماً جريئاً وقتل، مثلاً، عشرين جندياً اسرائيلياً في مزارع شبعا، او حتى بعض المدنيين الاسرائيليين في منطقة مجاورة؟ سيُجبر باراك على الرد بقوة. وسيطلق "حزب الله" عندئذ، بالمقابل، صواريخ ضد المستوطنات في شمال اسرائيل. وسيلجأ باراك حينذاك الى قصف اهداف سورية في لبنان، وربما حتى داخل سورية بالذات. يتساءل الاسرائيليون بقلق: كيف سيرد الدكتور بشار؟ هل سيكون حكيماً ومحترساً مثل والده الراحل الذي ابقى سورية خارج النزاع عندما شنت اسرائيل هجمات على لبنان؟ يكمن خوف اسرائيل في انه اذا اخفق الدكتور بشار في التعامل مع التصعيد فإن الوضع قد يتدهور الى حرب. ونشوب حرب في الشمال هو آخر شىء يريده باراك في الوقت الذي يعاني فيه جمهور الاسرائيليين بالفعل آثار الصدمة التي احدثتها الانتفاضة. وكما قال لصحيفة "لو فيغارو" الفرنسية في 15 كانون الاول ديسمبر فإن "اسرائيل لا تريد حرباً جديدة ... بصفتي جنرالاً سابقاً استطيع ان اقول لك ان الحرب ليست ابداً نزهة. لن تبدأ اسرائيل نزاعاً آخر". على العكس تماماً، يريد باراك الحفاظ على الهدوء على امتداد الحدود مع لبنان. وقد أبدى حرصاً على تجنب التصعيد. وطالما يقصر "حزب الله" نفسه على هجمات محدودة النطاق على مزارع شبعا وعلى أهداف عسكرية فإن باراك سيتردد في الانتقام. لكنه قد يجد من الضروري القيام بذلك، في فترة سباقه الانتخابي مع شارون، بغية اظهار القوة، كما فعل شمعون بيريز في 1996 عندما اطلق "عملية عناقيد الغضب" المشؤومة. إسكات المتطرفين لدى باراك سبب آخر للخوف من "حزب الله" وزعيمه ذي الشخصية الجذابة حسن نصرالله. فقد اصبح "حزب الله" مصدر الهام للانتفاضة الفلسطينية. وتبنى المقاتلون على الارض "النموذج اللبناني" لحرب العصابات. وهم يشاطرون نصرالله رأيه بأن المفاوضات مع اسرائيل عبث وان اسرائيل لن ترضخ إلاّ للقوة. ويتعارض هذا كلياً، بالطبع، مع استراتيجية باراك التي تهدف الى انهاء العنف وفرض شروط سلام على سلطة فلسطينية اضعفها الحصار الاقتصادي وعمليات الاغلاق وتدمير المزارع والبنية التحتية واغتيال مسؤولين كبار فيها. وفي اعقاب محادثات واشنطن بين الوفدين الفلسطيني والاسرائيلي يريد باراك من عرفات ومساعديه المقربين - ابو مازن وابو علاء ونبيل شعث وصائب عريقات - ان يضبطوا الجناح العسكري للانتفاضة الذي يتزعمه رجال مثل مروان البرغوثي وحسين الشيخ. ويشمل معسكر المتطرفين حالياً "اليسار" الفلسطيني - اي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي - بالاضافة الى حركات اسلامية مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي". لكن السؤال الاساسي هو الآتي: هل ان باراك مستعد لتقديم التنازلات الحاسمة بشأن القدس واللاجئين والارض، القادرة وحدها على تمكين عرفات من أن "يقنع" النشطاء في الميدان بقبول اتفاق؟ واضح ان باراك يريد اتفاقاً مع عرفات، لكن يحتمل انه لم يستوعب بعد تماماً دروس الانتفاضة. وربما لم يتكيف بعد مع تضاريس المشهد السياسي الجديد. قبل وقت غير بعيد كان معظم الاسرائيليين، وقطعاً باراك بالذات، يعتقدون انهم يستطيعون ان يفرضوا تسوية دائمة على عرفات وفق الخطوط الآتية: نوع من "كيان دولة" فلسطيني على اقل من 55 في المئة من الضفة الغربية و 60 في المئة من قطاع غزة، واعتبار القدس كلها "العاصمة الابدية والموحدة" لاسرائيل، وسيادة اسرائيل على كل المستوطنات تقريباً، واخضاع كل المعابر الحدودية لسيطرة اسرائيل، وابقاء وادي الاردن "منطقة امنية خاصة". كم تغيّرت الاحوال! لقد كشف شهداء الانتفاضة اوهام اسرائيل. قد يجد باراك ايضاً نفسه مقيداً نتيجة للاعتقاد بأن انقاذ حياته السياسية قد يعرض حياته الى الخطر. بمعنى آخر، اذا تجاوز الحدود في مساعيه لارضاء الفلسطينيين فإنه قد يجازف بمصير مماثل لاسحق رابين: الاغتيال على يدي متطرف اسرائيلي. هذه هي ورطة باراك. وتلمح الاجراءات الامنية المشددة لحماية كل خطوة يقوم بها باراك الى ان الاسرائيليين يعتقدون بأن خطر الاغتيال حقيقي. في المقابل لا يواجه شارون مثل هذه الصعوبات اطلاقاً. وهو يعتقد ان في امكانه ان يسحق الانتفاضة عبر اللجوء الى القوة وان يعيد عرفات ورفاقه الى تونس! سجناء "حزب الله" يمثل الاسرائيليون الاربعة الموجودون في ايدي "حزب الله" ورطة كبيرة اخرى بالنسبة الى باراك. ومن بينهم الجنود الثلاثة الذين أسرهم "حزب الله" في مزارع شبعا يهوديان اسرائيليان وآخر من البدو والخانان تنينبويم الذي تصفه مصادر اسرائيلية بأنه ضابط احتياط سابق يملك صلات تجارية واستخبارية جيدة. وتقول مصادر اسرائيلية ان تنينبويم كان يهوى معاشرة النساء ولعب القمار، وعندما خسر مبالغ كبيرة في كازينو اريحا استدرجه احد العرب الاسرائيليين من عملاء "حزب الله" الى دبي بعدما وعده بصفقة مغرية، ومن ثم الى بيروت حيث أُسر. ويعتقد "حزب الله" انه ضابط في "موساد". وينفي الاسرائيليون ذلك، وحرص افراييم هاليفي رئيس "موساد" على ان ينأى بنفسه عن المفاوضات بشأن السجناء، ولا شك انه يهدف بذلك الى التأكيد بأن تنينبويم ليس واحداً من عملائه. وتبقى الحقيقة ماثلة بأن الرقابة العسكرية الاسرائيلية منعت الصحافة الاسرائيلية من مناقشة قضية تنينبويم، وهو مؤشر بحد ذاته الى ان هذه قضية بالغة الحساسية. واجرى فريق يضم مسؤولين الماناً في الشؤون الاستخبارية والخارجية جولات مكوكية بين لبنان واسرائيل في محاولة للتفاوض بشأن تبادل للسجناء: الاسرائيليون الاربعة مقابل 19 لبنانياً، من بينهم الشيخ عبدالكريم عبيد ومصطفى الديراني، المسؤولان في حزب الله اللذان خُطفا من منزليهما في 1989 و1994. ولم يتم التوصل بعد الى أي اتفاق بشأن مبادلة السجناء. وشروط حسن نصرالله متشددة: انه يريد السجناء اللبنانيين، ولكن ان يُدرج ايضاً في أي اتفاق نهائي سجناء فلسطينيون وسوريون واردنيون وأي سجناء عرب آخرين. وهو يريد ان تقدم اسرائيل خرائط كاملة للالغام البرية الاسرائيلية في جنوبلبنان والبقاع الغربي التي ادت الى قتل اشخاص عدة. كما يريد ان يعرف مصير اشخاص فقدوا في 1982 عندما كانوا يقاتلون ضد الغزو الاسرائيلي. ووصف ناطق اسرائيلي هذه الشروط بانها "غير واقعية". لكن هناك سبباً آخر وراء عدم احراز تقدم في المفاوضات: يعتقد الاسرائيليون ان الجنود الثلاثة قد لا يكونون على قيد الحياة. فقد اصيبوا بجروح بالغة عندما وقعت آليتهم في كمين. ويشير العثور على كميات كبيرة من الدماء في موقع العملية وغياب اثار اقدام الى ان اجسادهم نُقلت من قبل المهاجمين. وتريد اسرائيل قبل مناقشة الشروط ان تحصل على اثبات بأنهم لا يزالون على قيد الحياة، لكن نصرالله يقول ان على اسرائيل ان تدفع ثمناً مقابل اي معلومات تطلبها. هكذا فإن "حزب الله" اصبح، لأكثر من سبب، طرفاً في العلاقة السورية - الاسرائيلية المتوترة وفي النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي على حد سواء. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط