تحولت الانتفاضة الفلسطينية منذ أيامها الأولى إلى مسألة عربية اقليمية، وكان لها تأثيرها المباشر في إسرائيل وموقفها وسمعتها، كما كان لها تأثيرها المباشر في الأنظمة العربية ومواقفها، حتى ليمكن القول إن الانتفاضة كانت وراء عقد قمتين عربيتين في مدى بضعة أشهر. كذلك تحولت الانتفاضة الفلسطينية منذ أيامها الأولى إلى مسألة دولية، وكانت لها تفاعلاتها العميقة مع الرأي العام الدولي، والذي انعكس على مواقف العديد من الأنظمة الإسلامية والغربية والآسيوية، وساعد ذلك في اضعاف مكانة إسرائيل، وشكل نوعاً من العزلة السياسية لها. وقد كان يمكن لهذه التفاعلات أن تتفاعل أكثر فأكثر، وأن تقود نحو موقف عالمي يتدخل لحماية الشعب الفلسطيني من الاعتداءات الإسرائيلية، ويمهد أيضاً لحل عقلاني للمفاوضات التي فشلت ثم جمدت، لولا أن الولاياتالمتحدة تدخلت لشن هجوم سياسي وإعلامي مضاد استطاع أن يعطل جهود دول مجلس الأمن لتشكيل قوة دولية لحماية الفلسطينيين، وأن يقدم غطاءً سياسياً للعنف الإسرائيلي، لم يحصل مثيل له منذ أن قدم وزير الخارجية الأميركي الكسندر هيغ عام 1982 غطاء أميركياً سياسياً لاجتياح إسرائيل للبنان قاده الجنرال ارييل شارون نفسه. وإذا كان الفيتو الأميركي في مجلس الأمن قد مثل ذروة في التغطية الأميركية للعدوان الإسرائيلي، فإن موقف الرئيس الأميركي جورج بوش عند لقائه مع الرئيس المصري حسني مبارك في البيت الأبيض، يمثل ذروة أخرى في التغطية الأميركية للعدوان الإسرائيلي. ففي هذا اللقاء كرر بوش موقفه الداعم لإسرائيل، ولم يكن معنياً حتى بمجاملة ضيفه، بواسطة "كلام" يتخذ مظهر الحياد أو القلق من العنف الإسرائيلي الذي تتسع دائرته يوماً بعد يوم. ولكن هذا الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، ولإسرائيل شارون بالذات، لم يستطع أن يلغي تأثيرات الانتفاضة على إسرائيل. وهي تأثيرات بدأت تبرز حالة من القلق السياسي، وحالة من الاحساس بالعجز، على رغم امتلاكها قوة متفوقة بشكل مطلق. وتمتلئ الصحف الإسرائيلية بمقالات تتحدث عن حالة العجز السياسي التي بدأت تواجه حكومة شارون، وتتحدث هذه المقالات عن أن شارون لا يمتلك سياسة خاصة به، وأن كل ما يفعله هو تكرار أساليب عمل ايهود باراك في قمع الانتفاضة، أي القصف ثم الجلوس والانتظار. وتذهب هذه الصحف إلى حد القول إنه كما فشل باراك واستقال، فإن فشل شارون قادم. أما المحللون السياسيون فيعتقدون أن فشل حكومة شارون يبدأ بتصدع الائتلاف الحاكم الذي شكله، وهم لا يستبعدون أن يتم ذلك خلال فترة لا تتجاوز الأشهر الأربعة المقبلة. ويزيد من حدة القلق هذه نوع الخسائر التي تتكبدها إسرائيل، فبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي بلغت حتى الآن 75 قتيلاً، هناك خسائر اقتصادية، ونفقات استنفار الجيش، وحال القلق والخوف التي تسيطر على المستوطنين. أبرز ما يتردد في إسرائيل الآن عن خطة لمواجهة كل ذلك، هو التوجه نحو قرار الفصل بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بحيث تنسحب إسرائيل من طرف واحد إلى حدود الأراضي التي تريد السيطرة عليها الانسحاب والضم، لتكون في منأى عن الانتفاضة ومتاعبها، ثم تجلس متحصنة بأمان خلف حواجز الفصل التي ستنشئها. تطرح إسرائيل قرار الفصل وكأنه تهديد للفلسطينيين، ولكنه سيتحول على أرض الواقع إلى انتصار لهم، فما يسمى الفصل هو انسحاب إسرائيل من جزء من الأرض الفلسطينية، يذكر ولو جزئياً بانسحاب الجيش الإسرائيلي مهزوماً من جنوبلبنان. كما أن الفصل لن يجلب الهدوء لإسرائيل، فالمستوطنات المزروعة في قلب الأرض الفلسطينية، والطرق الالتفافية التي تجزئ وتقسم هذه الأراضي، ستشكل محاور المواجهات الجديدة بين الانتفاضة وما يتبقى من احتلال في هذه المناطق. إنه الطريق الإسرائيلي المسدود أمام إرادة شعب يقدم التضحيات لتحرير وطنه.