قبل الهزّة التي تسبب بها انسحاب عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت جيمس جيم جفوردز من الحزب الجمهوري، والتي اخلّت بتوازن القوى في المجلس، كانت مهمة توماس توم داشل الاولى، كزعيم للكتلة الديموقراطية فيه، تسجيل معارضة حزبه للمشاريع المحافظة التي يسعى الرئيس بوش الى تنفيذها، من دون ان تكون لهذه المعارضة الكلامية القدرة على عرقلة هذه المشاريع او اعتراضها. اما اليوم، وبعدما اصبحت الكتلة الديموقراطية الاكثرية، انتقلت معارضة داشل لبوش من القول الى الفعل. وقد أعرب داشل لتوه عن تحفظات عدة حول عدد من البرامج التي كان بوش اطمأن الى امكانية تنفيذها، من الطاقة الى حرب النجوم، مروراً بإصلاح نظام الضمان الاجتماعي. فالتوزيع الحزبي في مجلس الشيوخ هو اليوم 50 عضواً ديموقراطياً و49 جمهورياً بالاضافة الى جفوردز "المستقل". اي ان "الاكثرية" الديموقراطية ما زالت مكبّلة، وعرضة للصوت الفاصل لنائب الرئيس الجمهوري ديك تشيني في حال التساوي في الاصوات. وباستثناء امكانية عرقلة التعيينات القضائية التي تأخر بوش في ارسالها للاقرار في مجلس الشيوخ، اذ يجري البحث فيها ضمن اللجان، ورئاسة اللجان اضحت اليوم في يد الديموقراطيين، فإن قدرة داشل والديموقراطيين على اعتراض برامج بوش رهن بنجاحهم في استقطاب جفوردز او بعض الجمهوريين المعتدلين، وذلك عبر اعتماد الوسطية. لكن داشل، على رغم لباقته واعتداله الكلامي، لم يشتهر يوماً بوسطيته، بل كان دوماً من المتمسكين بالتوجه التقليدي التقدمي للحزب الديموقراطي، والداعي الى توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تقدمها الحكومة وقصر الخفض الضريبي على ذوي الدخل المحدود. ولد توم داشل عام 1947 في ولاية ساوث داكوتا، احدى ولايات الغرب الاوسط. وليست ساوث داكوتا بعيدة جغرافياً وحسب عن مراكز السلطة السياسية والاقتصادية في البلاد، بل انها بعدد سكانها الضئيل وتاريخها المقتضب، تقع على هامش الحياة الاجتماعية والثقافية الاميركية. وقد نشأ في بيئة متواضعة فكان اول من نال شهادة جامعية في عائلته. وبعد بضع سنوات من الخدمة العسكرية، انضم عام 1973 الى مكتب عضو مجلس الشيوخ عن ولايته، جيمس ابو رزق اللبناني الاصل وامضى خمس سنوات فيه بصفة مساعد. وبعد هذه الفترة التدريبية خاض عام 1978 معركته الانتخابية الاولى ففاز بمقعد عن ولايته في مجلس النواب. ثم كرر الفوز ثلاث مرات في 1980 و1982 و1984. وقد اندرج داشل خلال خدمته في المجلس في الاطار التقدمي للديموقراطيين، وبرز في نشاطه فانضم الى المجموعة القيادية للكتلة الديموقراطية التي تصدت للبرامج المحافظة لعهد رونالد ريغان. وفي 1986، بدلاً من ان يسعى داشل الى الاحتفاظ بمقعده في مجلس النواب، تحدى عضو مجلس الشيوخ عن ولايته آنذاك، جيمس عبدالنور لبناني الاصل كذلك، وتمكن من انتزاع المنصب منه بفارق ضئيل. ثم تابع تألقه في المجلس الجديد، فجرى اختياره عضواً في احدى الهيئات الرئيسية في مجلس الشيوخ وهي اللجنة المالية. واذا كان ابو رزق هو الذي اكسب داشل الخبرة والتجربة ومكّنه من الانطلاق، فان جورج ميتشل، زعيم الكتلة الديموقراطية في مجلس الشيوخ اواخر الثمانينات لبناني الاصل ايضاً، من باب الصدفة ليس الا هو الذي وفّر لداشل المقومات التي اوصلته الى الموقع النيابي القيادي الاول للديموقراطيين. فقد اختاره لشغل منصب المدير المشارك للجنة السياسية الديموقراطية، وهي الهيئة التي تناط بها مهمة رسم التوجه السياسي للكتلة الحزبية. وانسجاماً مع الممارسة التي اعتادها اعضاء الكونغرس كافة في الاستفادة من مراكزهم القيادية لافادة ناخبيهم فان داشل، وهو اول اعضاء مجلس الشيوخ عن ساوث داكوتا يحتل موقع مسؤولية مهماً، بذل جهوداً دؤوبة هنا. الا ان هذه الجهود اثارت حفيظة الذين حاولوا اتهامه بالفساد وتطويع التشريعات لخدمة المقرّبين منه. وعلى اي حال، ضمنت جهوده هذه اعادة انتخابه بسهولة فائقة عام 1992 ثم عام 1998. وفي 1994 مع افول النفوذ الديموقراطي في مجلس الشيوخ، واعلان ميتشل عن عزمه التقاعد من المجلس، جرى اختيار داشل زعيماً للكتلة الديموقراطية. وعلى رغم ان بروزه جماهيرياً بقي محدوداً فانه بأسلوبه اللبق، تمكن من الاستمرار بتوجه تقدمي ثابت في مجلس الشيوخ، وان بدا احياناً ان المحافظة والوسطية تمكنتا من اطاحة التقدمية في الخطاب السياسي الاميركي. والواقع ان داشل مع سائر رفاقه التقدميين، شكل خطاً راسخاً للدفاع عن الخدمات الاجتماعية، من البرامج الخاصة بقدامى المحاربين والسكان الاصليين، الى المخصصات المالية للمزارعين والمناطق الريفية. ولم يكن بالحسبان ان يتمكن من التأثير على سير برنامج الرئيس بوش للاعفاءات الضريبية، لكن موقفه كان تفضيل توسيع نطاق الخدمات التي تقدمها الحكومة والاقتصار في الاعفاءات على القليل الذي لا يستفيد منه الاثرياء. وفيما حافظ على روابط متينة مع ديموقراطيي مجلس الشيوخ ومد الجسور للعديد من الجمهوريين، فان علاقته بالرئيس السابق بيل كلينتون كانت مترددة ومبهمة. بل انه لم يبخل على الرئيس السابق بالانتقاد لتجاوزاته وفضائحه. ذلك ان الصورة الذاتية التي يعمل داشل على تعزيزها صورة السياسي الاخلاقي النظيف وهو خدم في اللجنة الاخلاقية لمجلس الشيوخ. الا ان ثمة مسألة قد تتسبب بتلطيخ هذه الصورة. فزوجة توم داشل، ليندا، شريكة في احدى اهم شركات الخدمات السياسية في العاصمة الاميركية. ويذكر هنا ان النظام السياسي الاميركي يسمح بقيام الافراد والمؤسسات، بالوكالة عن اي طرف محلي او خارجي، بالعمل على اقناع المشترعين في الكونغرس بالتقدم بمشاريع القوانين التي تحبذ مصالح موكليهم، او بالتصويت لاقرارها او اسقاطها. وهذا النشاط هو الذي يعرف بالLobying ، وشرطه ان يتم علناً وان لا يتضمن اية رشوة. وبالفعل، ونتيجة للرقابة الصارمة قد لا يحصل عضو الكونغرس على رشوة صريحة تضاف الى حسابه المصرفي لكنه، مقابل التجاوب مع جهود شركات الخدمات السياسية، غالباً ما يفوز بقدر مهم من التبرعات لصندوقه الانتخابي، او برحلات شتى، لاهداف "تثقيفية" طبعاً، او بغير ذلك من جوائز. ويجد البعض في هذا النشاط افساداً للتمثيل الشعبي، فيما يعتبره البعض الآخر جهوداً مشروعة تدخل ضمن اطار حرية التعبير عن الرأي. وتجني شركات الخدمات السياسية الاموال الطائلة من موكليها، وتشكل هذه الاموال عامل استقطاب اكيد لقدامى الخدمة السياسية في الولاياتالمتحدة. بل ان العديد من السياسيين من مختلف سلطات الحكم التنفيذية والتشريعية، يعمدون الى "التقاعد" المبكر للانضمام الى هذه الشركات للاستفادة والافادة من علاقات أقاموها مع زملائهم السابقين، مقابل الرواتب والمكافآت المالية التي تفوق بأضعاف مضاعفة التعويضات الرسمية. واستعراض اسماء الشركاء الكبار في هذه الشركات يكاد ان يكون استرجاعاً للماضي الاميركي القريب. فالاسماء التي تغيب عن التداول الاعلامي اليومي تعود لتظهر في البيانات السنوية لهذه الشركات النافذة. وليندا داشل احدى "النجوم" في شركة خدمات سياسية كبرى جرى تصنيفها لسنوات متتالية عدة ضمن الشركات الاهم. وقد عملت لصالح شركات دواء وطيران ونفط. والسؤال ليس حول مدى استفادة ليندا من علاقات زوجها للحصول على هذه الوكالات فحسب، بل حول امكانية ان يمارس توم نفسه تطويعاً لبرنامج عمل مجلس الشيوخ في طرح مشاريع القوانين والعمل على اقرارها بصفته "الرجل القوي" فيه، على نحو يستفيد منه موكلو زوجته. ويؤكد داشل وزوجته ليندا ان التأثير غير قائم وانهما حريصان على تجنبه. لكن، وبغض النظر عن صدقهما، لا شك ان الجمهوريين سيبقون بالمرصاد لأي تجاوز، او ما يمكن تصويره كذلك. وسجل توم داشل يكشف انه استفاد من ظروف واشخاص للارتقاء الى موقع المسؤولية، لا سيما استقالة ميتشل عام 1994 وانسحاب جفوردز من الحزب الجمهوي مؤخراً. وداشل اليوم في موقعه الجديد يواجه تحدي الوسطية التي تفرضها الممارسة السياسية في مقابل التزامه التقدمي. لكنه ايضاً يواجه رقابة ناتجة عن ظروفه الذاتية قد تحدّ من قوته، على رغم انه "الرجل القوي" في مجلس الشيوخ.