بعد تحقيق نجاح مشهود في دفع نهج التفاوض قدماً في ايرلندا الشمالية، يدخل جورج ميتشيل، العضو السابق في مجلس الشيوخ في الكونغرس، معترك الشرق الأوسط للمرة الأولى، بناء على طلب الرئيس الاميركي بيل كلينتون، الذي أناط به مسؤولية قيادة لجنة تقصي الحقائق حول أعمال العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وينتظر ان تضم هذه اللجنة وارن رودمان، زميل ميتشيل السابق في مجلس الشيوخ، وسليمان ديميريل، الرئيس التركي السابق، وخافيير سولانا، مسؤول الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، وثوربيورن ياغلاند وزير الخارجية النروجي. والمتوقع ان تشكل هذه المهمة الجديدة حلقة اخرى من حلقات الأداء السياسي البارز لميتشيل. فهو يحوز على التقدير في مختلف الأوساط الأميركية النافذة، على اختلاف توجهاتها الحزبية. فالنجاح الذي حققه في ايرلندا الشمالية، والذي استحق نتيجة له جملة من الأوسمة وجوائز التقدير العالمية لكن دون ان يفوز بجائزة نوبل كما توقع له الكثيرون، عزز دون شك سمعته الطيبة. إلا ان هذه السمعة كانت مستتبة لتوها بعد عقود طويلة من العمل السياسي. ولد جورج ميتشيل في بلدة ووترفيل، في ولاية ماين، عام 1933، لأب ايرلندي الأصل وأم لبنانية ماري سعد. وقد اشار في مناسبات عدة الى أصوله الايرلندية واللبنانية على حد سواء، مؤكداً اعتزازه بها. ورغم هذا الاعتراز المعنوي، فإن المواقف السياسية والعقائدية التي التزمها ميتشيل انطلقت بالدرجة الأولى من اعتبارات محلية، على مستوى الولاياتالمتحدة ككل بشكل عام، وعلى مستوى ولاية ماين بشكل خاص. ولا بد هنا من الاشارة الى الطابع الاجتماعي الثقافي الخاص بولاية ماين. فهذه الولاية التي تشغل أقصى الشمال الشرقي للولايات المتحدة، وتضم مساحات واسعة من الغابات والجبال، تتميز بقدر من العزلة وبغلبة الطابع الريفي والمحلي على أهلها. وتشهد هذه الولاية بالتالي حالاً مرتفعة من الاستمرارية السكانية والاستقرار المجتمعي بالمقارنة مع مجموع البلاد حيث الانتقال الدوري من مدينة الى اخرى، ومن ولاية الى أخرى، هو واقع الحال بالنسبة لمعظم السكان. وجورج ميتشيل هو أولاً ابن ولاية ماين. فهو، كما العديد من سكانها في أواسط القرن الماضي، نشأ في أجواء أسرة متواضعة وشهد ظروفاً اقتصادية صعبة. وكانت ماين حىنئذ تعاني من انفصام اجتماعي اقتصادي بين سكانها الدائمين، والذين كانوا يعانون عادة من الضيق، وبين الوافدين الجدد اليها، سواء منهم المقيمين فيها بصورة دائمة أو القادمين اليها فصلياً للتمتع بثرواتها الطبيعية، اذ كان العديد من هؤلاء ينتمون الى الشرائح الاقتصادية العليا. وفي حين ان معظم الظروف الموضوعية لهذا الانفصام قد تبددت اليوم، فإن الولاية ما زالت تشهد مقداراً من الانطوائية والحذر ازاء الوافدين الجدد اليها. بل ان شعار ميتشيل نفسه، في حملته الانتخابية عام 1974 للفوز بحاكمية الولاية، وهو فوز لم يتحقق، كان أن "ولاية ماين مجتمعان، ويجب ان تصبح مجتمعاً واحداً". ولا شك ان هذه الخلفية الاجتماعية وما يستتبعها من وعي طبقي ومناطقي قد ساهمت في تشكيل التوجه التقدمي الذي التزمه طوال أعوام خدمته السياسية. تخرج ميتشيل من جامعة بودوين في ولاية ماين عام 1954، ثم التحق بالخدمة العسكرية لمدة عامين، وانتسب بعد ذلك الى جامعة جورجتاون في العاصمة واشنطن لدراسة الحقوق. وبعد نيله شهادة المحاماة عام 1960، شغل منصباً في وزارة العدل، ثم انضم الى فريق عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماين، إدموند ماسكي، في واشنطن، قبل ان يعود الى ولايته عام 1966، حيث مارس المحاماة وتولى مناصب عدة ضمن هرمية الحزب الديموقراطي. وفي حين انه لم يتمكن من الفوز بمحاكمية الولاية عام 1974، فإنه، مع تولي جيمي كارتر الرئاسة عام 1977، ومع استمرار علاقته الوطيدة بماسكي، تمكن من الاضطلاع بمناصب بارزة، فجرى اختياره لمنصب المدعي العام الاتحادي في ولاية ماين عام 1977، ثم لمنصب قضائي رفيع عام 1979، قبل ان يطلب منه حاكم الولاية ان يحل محل ماسكي في مجلس الشيوخ عام 1980، اثر تولي هذا الأخير منصب وزير الخارجية في حكومة الرئيس كارتر. وشغل ميتشيل في مجلس الشيوخ مناصب عدة في اللجان المعنية بالشؤون المالية وشؤون البيئة والمشاريع العامة، وشؤون قدامى الحرب، والتنظيمات الادارية، كما تولى قيادة الهيئة التوجيهية الحزبية الديموقراطية. وبعد عامين في مجلس الشيوخ بالوكالة، فاز جورج ميتشيل عام 1982 بالمقعد بالأصالة، ثم كرر هذا الفوز عام 1988 حين حصل على زهاء 81 في المئة من أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية جداً قل ان تتحقق في الانتخابات الاميركية. والواقع ان هذه النسبة تعكس الانجازات التي اشرف عليها لصالح ولايته، كما تأتي تقديراً لنجاحه الاشتراعي البارز في تجسيد الاهداف التقدمية. وقد استحق ميتشيل نتيجة لهذا النجاح دوراً قيادياً في الكتلة الحزبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ. فقد كان لميتشيل، عبر تنسيق الحملات الانتخابية لمحازبيه، دور بارز في تحقيق الحزب الديموقراطي عام 1986 فوزاً قاطعاً في مجلس الشيوخ عبر اضافة 11 عضواً جديداً الى الكتلة الديموقراطية فيه، محققاً الأكثرية المطلقة، وممهداً السبيل أمام تمرير التشريعات التي تنسجم مع التوجه التقدمي. والواقع ان هذه التشريعات أرست الطابع الخدماتي التقدمي للحكومة الاتحادية والذي أضحى متوقعاً لدى العديد من الأوساط الاجتماعية في الولاياتالمتحدة. وأهم التشريعات التي اشرف ميتشيل على اقرارها قانون حقوق المعاقين، وقانون "الهواء النظيف" الذي وضع قيوداً بيئية على قطاعات الصناعة والطاقة. ورغم الاحترام الذي ناله في الأوساط السياسية، ونجاحه الملحوظ في تحقيق اقرار التشريعات ذات الطابع التقدمي، فإن بروزه على المستوى الشعبي العام في الولاياتالمتحدة، تضاعف من دون شك عام 1987 نتيجة لمشاركته في أعمال لجنة التحقيق في قضية ايران - الكونترا التي تفاعلت إزاء انكشاف أمر مجموعة مقربة من الرئيس حينذاك رونالد ريغان، عمدت سراً الى بيع الأسلحة لايران وتحويل عائدات الصفقة لدعم ثوار الكونترا في نيكاراغوا، متجاوزة قرار الكونغرس بالامتناع عن هذا الدعم. وقد شاهد الجمهور الاميركي، في اطار النقل المباشر لوقائع الجلسات، المواقف الحازمة لجورج ميتشيل في تحديه وتصديه لأوليفر نورث الذي حاول تبرير الصفقة. فارتبط اسمه بالتشدد في التقيد بالمبادئ من دون التخلي عن الوقار. ثم تولى ميتشيل قيادة الكتلة الديموقراطية في مجلس الشيوخ وخاض مواجهات عدة مع الرئيس جورج بوش في مواضيع السياستين الضريبية والخارجية، لا سيما في موضوع الانفتاح الاقتصادي غير الملزم بحقوق الانسان والذي اعتمدته حكومة بوش ازاء الصين، ثم في حرب الخليج. ومع تولي بيل كلينتون الرئاسة عام 1992 نشط في دعم التوجه التقدمي الذي بدا في مطلع العهد. ولكن ميتشيل، فاجأ الوسط السياسي باعلانه عام 1994 عزمه على مغادرة مجلس الشيوخ. وكثرت محاولات تفسير الخطوة، اذ ربطها البعض بفشل جهود الرئيس في تعميم الضمان الصحي، وهو من اولويات ميتشيل، فيما اعتبر البعض الآخر انها نتيجة لاعتبارات شخصية. لكن الانسحاب من الشيوخ لم يكن تخليا عن النشاط العام. فقد اناط به كلينتون عام 1995 اعداد تقرير حول امكانات حل المشكلة في ايرلندا الشمالية. وجاء تقريره مطالع 1996 ليشكل بداية عملية تسوية ادت الى تحقيق سلام نسبي، وارتقت بميتشيل نفسه من مصاف الوجوه البارزة محلياً الى مقام الشخصيات الحائزة على الاحترام والتقدير العالميين. يأتي جورج ميتشيل اذن الى موضوع الشرق الاوسط على خلفية من التقدمية والانجاز والاصل العربي وان الجزئي. فهل يصح بالتالي التفاؤل بأنه سوف يكسر التوجه الاميركي المنحاز لاسرائيل؟ غالباً ما تلقي الصحافة العربية تبعة تأييد الولاياتالمتحدة لاسرائيل على المسؤولين الاميركيين المعنيين بمسألة الشرق الاوسط، عبر ربطها بالاشارة والتصريح بين انحيازهم و"يهوديتهم" وذلك باعتبار "اليهودية" موضوع الادانة، صفة اطلاقية غالبة على من استحقها. وفيما الرجاء ان يأتي ميتشيل بالجديد، فالارجح انه لن يخرج عن هامش الاجماع الاميركي الرسمي والشعبي المتعاطف اولاً مع اسرائيل. ويمكن الاشارة في هذا الصدد الى مواقف كل من مواطنيه المبعوث فيليب حبيب والوزيرة دونا شلالا، وكلاهما من اصل عربي لبناني، في التزامهما الصارم بالتحفظ عن اي نقد لاسرائيل. ولا شك انه للاعتبارات الانتخابية والذاتية دور في هذا الالتزام. لكن الانحياز الاميركي لاسرائيل هو بالدرجة الاولى نتيجة حالة ثقافية مترسخة في الولاياتالمتحدة. ولهذا فالأصح التواضع بالتفاؤل ازاء دوره المرتقب.