المؤتمر القومي العربي الذي عقد دورته الحادية عشرة اخيراً في بغداد يستحق تحليلاً معمقاً يبيّن ما له وما عليه. فهو يمثل ظاهرة مستقلة متميزة تستحق الدعم والاستمرار، لكنه، من جهة اخرى، يحتاج الى تطوير، وألاّ يقتصر على اسبوع نشاط سنوي، في احدى العواصم العربية، وإصدار بيانات تعبّر عن موقفه في المناسبات. وآن الأوان لتنشيط المشاركة والتواصل بين المؤتمر وأعضائه وبين الجماهير والأجيال والقوى الشعبية العربية داخل الوطن العربي وخارجه، ليصبح "مرجعية قومية شعبية"، كما يعلن عن نفسه، وكما ينتظر منه. ما نتوقف عنده في هذا المقال هو جزء من الحوار الذي اجاب من خلاله السيد طارق عزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي ووزير الخارجية بالوكالة، على اسئلة اعضاء المؤتمر القومي العربي خلال جلسة مفتوحة عقدت بعد انتهاء اعمال المؤتمر. وتناولت الاوضاع والعلاقات الاقليمية والدولية للعراق وللأمة العربية. وتوجهت الى السيد طارق عزيز بالسؤال الآتي: "تتشابه الدول العربية في ان العلاقة بين السلطة والحاكم، من جهة، والشعب والمواطن، من جهة اخرى، لا تسر إلاّ الأعداء! فكيف يتصور السيد طارق عزيز مستقبل هذه العلاقة، ومتى سيتمتع المواطن بحرّياته وحقوقه الاساسية، في التعبير، والتنظيم، وانتخاب ممثليه بصورة حرة، ومساءلة السلطة والمسؤول امام الدستور والقانون، والحصول على نصيبه العادل من الثروة والدخل الوطني، وذلك باعتبار هذه الحقوق والحريات الاساسية تمثل الشرط الحاسم للانتصار على جبهة النهضة والتقدم وفي مواجهة الأعداء؟". والسؤال يتعرض لواحد من أهم هموم المؤتمر القومي العربي، يحتل مكانة بارزة على الدوام في تقرير "حال الأمة" وتقارير لجان المؤتمر ومناقشاته، بل في التزامات اعضاء المؤتمر انفسهم. وكان البيان الختامي للمؤتمر في دورته الحادية عشرة في بغداد اكثر استفادة من دوراته السابقة في التأكيد على الديموقراطية وحقوق المواطن وتطوير المجتمع المدني في الوطن العربي، إدراكاً من اعضاء المؤتمر للتناقض بين الطاقة غير المحدودة للجماهير العربية والتي كان انتصار المقاومة الوطنية والإسلامية في جنوبلبنان وانتفاضة الأقصى المتصاعدة من اهم تعبيراتها، وبين القيود التي تزداد تشدداً في مختلف الدول العربية على حركة المواطن وعلى الحريات العامة، والانتهاكات التي تتسع يوماً بعد يوم لحقوق المواطنين الاساسية، مما يحمّل المواطن والشعب العربي أعباء داخلية هائلة تحط الى حد كبير من قدراتهما في مواجهة القوى والاخطار والتحديات الخارجية المعادية، ومواكبة التقدم العالمي. كان جواب السيد طارق عزيز على السؤال ما فحواه ان البعثيين الذين ناضلوا لتحرير الشعب العراقي من النظام الملكي الديكتاتوري لا يخشون من الديموقراطية، وأنهم يرفضون الليبرالية الغربية التي كانت نتاج تطور طويل الأجل لمجتمعات مختلفة عن مجتمعاتنا، ومع ذلك ففي حال اجراء انتخابات حرة على الطريقة الغربية فإن الرئيس وحزب البعث سيفوزون في سهولة بأصوات الشعب سواء في انتخاب رئيس الجمهورية او انتخابات السلطة التشريعية، ولكن الامبريالية والصهيونية والولايات المتحدة يستخدمون شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني لتخريب وتفتيت الانظمة والمجتمعات التي تناضل لمواجهتها والتحرر منها...الخ. يستحق جواب السيد طارق عزيز وقفة متأنية، لأنه ليس موقف نظام عربي واحد، او مسؤول عربي واحد، فحسب، بل هو موقف مشترك معمم لكل الأنظمة والمسؤولين العرب تقريباً، مما يجعله حالاً موضوعية لا تفسر ذاتياً، بربطها بخصائص نظام او شخص معين، وإنما بربطها بواقع موضوعي متشابه ومتجذر في مختلف الانظمة العربية، يرجع الى طبيعة هذه الانظمة الناجمة من طريقة تشكلها وأساليبها في البقاء والاستمرار. بداية نقول، لا خلاف على ان الامبريالية والصهيونية والولايات المتحدة لا توفر اي وسيلة لاستخدامها في تقويض الانظمة والمجتمعات العربية وتحطيمها، بما في ذلك شعارات جذابة ومغرية مثل الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان ومؤسسات المجتمع المدني، اذا أمكن توظيفها لتحقيق غايات مضادة لها. ولكن، هل احتمال ان يحقن احد ما بضع برتقالات بسم خطير، حتى ولو حصل هذا الاحتمال في الواقع، يجعل هذه الفاكهة محرّمة ومكروهة ويستوجب منع استهلاكها كلياً، سواء كانت مستوردة، او بالاحرى، ولو لم تكن مستوردة، وإنما منتجات محلية ذات جذور عميقة في التاريخ والأرض والمجتمع والمعتقدات والتقاليد العربية؟ فمن اين توصل الغرب الى قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان واعتماد المجتمع على الذات المجتمع المدني ومجتمعاته كانت تعيش حال التوحش الى عهود متأخرة جداً عن تاريخ الحضارات الشرقية القديمة، او الأديان الشرقية الانسانية، إن لم يكن استقاها من التراث الانساني الحضاري، الشرقي على الخصوص، وينطبق ذلك على الحضارتين اليونانية والرومانية، قبل الحضارة الاوروبية الحديثة؟ فلماذا نصرّ، نحن العرب، على ان الحقوق والحريات العامة هي "بدع وصادرات" غربية ملغومة وفاسدة ومدمرة لنظمنا الحياتية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من ان نكون السبّاقين لتطبيقها والأخذ بها، بعد تخليصها من عيوبها الشكلية التي طغت على جوهرها في النظام الرأسمالي الامبريالي الغربي؟ ام اننا يجب ان نستمر في تصديق النظرية الغربية العنصرية التي تحاول البرهان دائماً ان النظم الشرقية لا تعترف بأي قيمة للانسان، ككائن فرد، وإنما فقط باعتباره وقوداً في آلة النظام الكلي؟ انه من الملفت ان الانظمة العربية، على اختلاف اشكالها السياسية وايديولوجيتها، تتفق في اعتبار مجتمعاتها ومواطنيها بعيدين من النضج وناقصي الاهلية للاختيار الصائب ولممارسة المسؤولية، وان عدم الاجماع لدى مجتمعاتنا ووجود الاختلاف في اوساطها على قضايا التطور والحياة والمشكلات والخيارات المرتبطة بها يتوجب ويبرر احتكار القول والفعل من جانب بضعة افراد او عائلات، او من جانب حزب واحد او اجهزة السلطة، نيابة عن مجموع الشعب في كل دولة عربية، ومن دون اي حاجة لاكتساب الشرعية من الشعب ولو مرة واحدة على مدى جيل كامل، أللهمّ إلا بالحصول على "بصمة" الشعب على ما تقوله وتفعله النخبة صاحبة القرار، او المسؤول الأول صاحب القرار الأوحد، في كل قطر عربي؟ انني، للحقيقة، لا اناقش هنا السيد طارق عزيز، تحديداً، وإنما اناقش "نظرية عربية مقدسة" مكتملة ولا تقبل النقاش، تؤمن بها الغالبية الساحقة من المسؤولين العرب المعاصرين، وتفسر لنا تشابه وتطابق الخطاب والفلسفة والممارسة وطبيعة وجوهر النظم العربية، وآليات عملها، وذلك في خصوص مكانة ودور وموقع المواطن والشعب وإرادتهما ومصالحهما في النظام العربي، على المستويين القطْري والقومي. ولن نغفل هنا ان الانجازات الواقعية للنظم العربية تختلف بين قطْر وآخر، وأن العراق، على سبيل المثال، تميز وما يزال بمقدرة عظيمة على الاعتماد على الذات لا تتوافر في اي قطْر عربي آخر مهما بلغت الامكانات، بدليل المشروعات الضخمة التي ينجزها حتى في اصعب الظروف. لكننا لا نرى في هذه الميزة ما يسمح او يبرر التمسك ب"النظرية العربية المقدسة" التي تدّعي ان الشعب العربي، والانسان العربي، يبقى قاصراً ويحتاج الى وصاية، وتتمثل في السلطة ومسؤوليها، الذين، بحسب ما يقول مسؤول آخر في دولة عربية اخرى، جاؤوا بفوهة البندقية وعبر الكثير من الانقلابات والحركات العسكرية، ولا يمكن ان يسمحوا لغيرهم بالوصول الى السلطة!! مع العلم انه لا يوجد عاقل يطلب من صاحب سلطة التنازل له عنها، وإنما يطالبه بحقوقه فقط! ترى، اي "عظمة" لأمتنا العربية في انها لا تعرف طريقاً آخر للوصول الى السلطة واكتساب الشرعية، او التمسك بها وتوريثها ومنع تداولها، غير فوهة البندقية؟ أبسبب من هذه "العظمة"، تُتّهم أي مطالبة من الشعب والمواطن بالمشاركة والحرية والديموقراطية والمساواة في الحقوق والمساءلة امام الدستور والقانون والتوزيع الأعدل للفرص والثروة والدخل بأنها "حصان طروادة" الامبريالية والصهيونية لتدمير أنظمتنا العربية؟ وإذا كان الشعب والمواطن "حصان طروادة" للأعداء، كما يقول المسؤولون العرب، وليسوا كذلك بالتأكيد، فمَنْ المسؤول عن الوصول الى هذه الحال، اي انقلاب الشعب والمواطن الى عدو نفسه؟ وهل يمكن ان يكون ذلك بسبب من خصائص "جينية" عربية؟! فمتى نستعيد الثقة بشعبنا وبإنساننا العربي، وهما الأحق بالثقة؟ وسؤال اخير: لماذا لا تستخدم الأنظمة العربية الديموقراطية الحقيقية، وحقوق المواطن والمجتمع المدني والمشاركة الشعبية ورفع القيود عن الحريات العامة، والشفافية والانفتاح لتمكين المواطن من الوصول الى المعلومات الصحيحة، المحلية والعالمية، وذلك لتحصين المجتمع والأمة في مواجهة الاختراقات الامبريالية والصهيونية التي لا تجد ظروفاً مؤاتية افضل من تغييب هذه الحقوق والحريات بدعوى هشاشة وقصور وعي وتجربة الشعب والمواطن العربي؟ ان تنمية الوعي والتجرية لا تتحقق إلا عبر الاختلاف في الرأي والتجربة والممارسة الحرة نفسها. ان امكانات الأمة العربية وطاقاتها هائلة، إلا انها مقزمة ومهدورة وموظفة بعيداً من خدمة المصالح الوطنية وترقية نوعية الحياة الانسانية للغالبية الساحقة من المواطنين العرب، وفي الوقت نفسه تنتظر الدول العربية الاستثمارات والخبرات الاجنبية، بل والمواد الغذائية المستوردة للتعويض عن امكاناتنا المهدورة! ان قلب هذا الواقع العربي البائس لن يكون ممكناً إلا بتمكين الانسان العربي من التمتع بحقوق المواطنية الكاملة، بغض النظر عن كونه مؤيداً او معارضاً للسلطة القائمة، ما دامت معارضته تنطلق من قناعاته، ويعبّر عنها بالوسائل السلمية المشروعة، التي يجب على الانظمة ان تتيحها له وبضمانات كاملة، دستورية وقانونية وواقعية. انه الطريق الوحيد للخلاص والأمل بمستقبل أفضل. * كاتب سوري. عضو المؤتمر القومي العربي.