وزير خارجية اسرائيل شمعون بيريز، كُلّف او كلَّف نفسه ملف إحياء المسار التفاوضي مع الفلسطينيين وحسر المسار التصادمي بين اسرائيل وكل من لبنان وسورية، امامه فرصة. فرصة سبق له ان فوّتها عندما كان رئيساً للوزراء قبل بنيامين نتانياهو ثم ايهود باراك ثم ارييل شارون. فرصة الاقدام بما يتماشى مع الرؤيوية التي يزعمها من خلال توظيف منصب حكومي تعلّق به دوماً في سيرته السياسية. وفي وسع الادارة الاميركية ان تساعده اذا شاءت او اذا وجدت فيه قناة لمساعدة اسرائيل على التخلص من ورطتها. عام 1995، كانت تحت انف بيريز مبادرة اتخاذ قرار انفرادي بالانسحاب من لبنان، لكنه تلكأ عن الخطوة الجريئة وعن القيادة بما يتعدى التوقف عند ردود الفعل الاولى وحساباتها السياسية القصيرة المدى. بعد ذلك نسف بيريز سيرته السياسية المزعومة في مجزرة قانا حيث تعرّى من لباس الحمائم ونصّب نفسه صقراً. ايهود باراك اقدم على الانسحاب من لبنان، لكنه تلكأ في مستوى رؤيوية الاقدام، ففوّت فرصة التوصل الى اتفاقية سلام مع كل من سورية ولبنان بسبب تعثّره في بحيرة طبريا، وترك نافذة على استمرار عمليات المقاومة من خلال مزارع شبعا. في وسع شمعون بيريز اليوم ان "ينتقم" من تاريخه السياسي الذي ترافقه سيرة الفشل والاحباط والتردد والتقلّب بين الصقر والحمامة. قد يكون اللقب الافضل له في هذا المنعطف لقب "صقر حمامة" او "حمامتصقر" لكن ما سيسجل التاريخ له يتطلّب منه المبادرة الجريئة لتحدي الحكم العسكري في اسرائيل بمنطق المصلحة الاسرائيلية. احدى حلقات هذه المبادرة محطة مزارع شبعا. اسرائيل تمسكت بها اثناء التفاوض مع الاممالمتحدة لتنفيذ القرار 425 لانها فوجئت بطرحها كجزء من الاراضي اللبنانية فيما اعتبرتها تابعة للاراضي السورية بسبب وقوعها تحت ولاية القوات الدولية لفكّ الاشتباك بين سورية واسرائيل، من جهة. ومن جهة ثانية، أحد ابرز اسباب تمسكها بمزارع شبعا عائد لمنشآت امنية اقامتها اسرائيل في شبعا يستغرق تفكيكها وقتاً حتى بعد اتخاذ القرار السياسي بالانسحاب من المزارع. فاذا لم يكن التمسك بشبعا افرازاً لنمط "الطمع" الاسرائيلي، او اذا لم يكن جزءاً من الفكر الاسرائيلي الذي يحتفظ ببؤرة توتر لغايات عسكرية استراتيجية، فإن المبادرة الى اقفال جبهة المقاومة في شبعا من مصلحة اسرائيل. فهذه هي الجبهة الوحيدة بين اسرائيل والدول العربية المفتوحة على المقاومة. واذا تم اقفالها، تتحدى اسرائيل سورية بأن تفتح الجبهة السورية الاسرائيلية الهادئة تحت اشراف قوات "فك الاشتباك"، وتقوّض الطرح القائل بتفعيل منطق المقاومة عبر احياء نموذج "حزب الله" في سحق الاحتلال في المنافذ المتاحة باستثناء النافذة السورية الاسرائيلية. اقفال جبهة المقاومة في مزارع شبعا خيار متوافر لدى اسرائيل، وكل ما عليها ان تفعله هو اخذ زمام المبادرة الى الانسحاب من مزارع شبعا. واذا كانت المنشآت الامنية هي العائق، فان كرم واشنطن غزير في تقديم البدائل لهذه المنشآت و"حرفية" اسرائيل في تفكيكها سريعاً لا غبار عليها، اذ قررت تفكيكها. فكما اثبتت فكرة "الحزام الامني" فشلاً ذريعاً لاسرائيل، ومثلها منظور "الامن" في المنطقة الفاصلة بين لبنان واسرائيل، كذلك ستثبت بدعة الاحتفاظ بمزارع شبعا فشل المنظور الامني لاسرائيل واستبداله ببؤرة توريط اسرائيلية سورية لبنانية. كل الاجراءات الاخرى موقتة، تلك المتمثلة بتعهدات باحترام "الخط الازرق" الذي وضع مزارع شبعا خارج الاراضي اللبنانية، او تلك المتداخلة بين منطقي المقاومة والتفاوض. الاجراء الوحيد الذي يضمن تحييد جبهة المقاومة الوحيدة عبر الحدود هو ان تبادر اسرائيل الى انسحاب انفرادي من مزارع شبعا. بذلك تعيد فرز الاوراق وتسحب الذرائع والمبررات وتضع كل اللاعبين في مواجهة قراراتهم مباشرة. هذه واحدة من حلقات المبادرة التي يمكن لشمعون بيريز التقدم بها. واذا كان يريد اكثر من مجرد اقفال جبهة مقاومة، فأمامه حلقة ثانية تتعلق ايضاً بسورية، وهي طرح مبادرة موافقة اسرائيل على استكمال ما توصلت اليه المفاوضات حين توقفت عند بضع كيلومترات من بحيرة طبريا بهدف تحقيق الانسحاب حتى حدود 4 حزيران يونيو 1967 وتوقيع معاهدة سلمية. فهذه هي حدود التسوية، ولو كانت اسرائيل تعرف مصلحتها على المدى البعيد، لبادرت الى الموافقة عليها من دون تسويف او طمع او مماطلة. وبما ان بيريز "رؤيوي" فلعله يرى في مثل هذه المبادرات وسيلة لنقل الرؤيوية من الاكاديمية الى الواقعية. الحلقة الثانية تتعلق بالمسار الفلسطيني الاسرائيلي في المفاوضات والمواجهة، والذي لا بديل لاسرائيل سوى التعامل معه سواء بادرت او تلكأت على الساحتين السورية واللبنانية. هنا ايضاً يمكن لبيريز المبادرة ليس فقط الى معالجة هذا المسار بالواقعية الرؤيوية الضرورية وانما ايضاً بما يرد على السؤال الجوهري "هل للسيد شمعون بيريز الحقيقي ان يتفضل ويقف ليعرّفنا بنفسه؟". فليس منطقياً ان يكون الرجل داعية صادقاً للسلام وان يسوّق في الوقت ذاته تلك البدعة الخدعة المسماة "النمو الطبيعي" للمستوطنات. فالمستوطنات غير شرعية اصلاً والمستوطنات خطيرة في تهديد امكانات تحقيق السلام. والمستوطنات ليست فقط "عثرة" في طريق الجهود السلمية ولا "عرقلة" وانما هي اساساً عائق يحول دون التوصل الى اي اتفاق سلمي ذي معنى. فليبادر بيريز، صاحب نظرية السلم الضروري واستحالة الحل عبر استخدام القوة الى الوقوف علناً امام الرأي العام الاسرائيلي ليخبره عن حقيقة المستوطنات. ليطرح مبادرة قوامها مقايضة تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى اسرائيل بالغاء كل المستوطنات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية من دون اي استثناء. ليعترض علناً على فكرة تمييع العنصر الزمني في المفاوضات على الوضع النهائي للاراضي الفلسطينية، بدلاً من تسليم الاعتراض على الالتزام الزمني الى اصحاب المبادرة الاردنية المصرية ومحاولة تسويقه في واشنطن ونيويوك. فصدق التفاوض غير وارد في روزنامة زئبقية بلا تواريخ ولا التزام مواعيد وصدق السعي الى المفاوضات يتطلّب الكفّ عن الألاعيب والبدع والمماطلات، فالمرحلة الراهنة لا تتحمل التحايل على الالفاظ. والفرصة المتاحة اليوم لحل سلمي على اساس حدود التسوية/ حدود الهزيمة/ حدود الانتصار/ لعام 1967، قد لا تكون متاحة غداً اذا استمرت المغامرة. لذلك فإن شمعون بيريز، وزير الخارجية في حكومة ارييل شارون، الزعيم المرحلي في حزب العمل، طالب السلم وتلميذ الرؤيوية، مطالب اسرائيلياً اولاً، قبل ان يكون مُطالباً عربياً، بالتفضل للوقوف علنا ليعلن عن شخصية شمعون بيريز الحقيقية. اما هذا، او التنحي امام امثال يوسي بيلين، أقله لكي يترك لجزء من الرأي العام الاسرائيلي خيار الرهان على السلم. اقل من ذلك يعني عملياً انه عائق امام تطور المجتمع الاسرائيلي الى مرتبة حسم القرارات. لماذا بيريز الآن؟ لأنه اختار ان يكون في حكومة ارييل شارون ليصحّح الاعوجاج فيها. لانه يزعم ان التأثير الايجابي في حكومة شارون يأتي عبر الانخراط فيها وليس عبر المحاضرة والاحتجاج والصراخ خارجها. ولأنه قد يكون محقاً في ذلك، انما، اذا فعل واذا اثّر واذا بادر خلاف ذلك، فانه سيكون المتقاعس التاريخي الذي فوّت فرص القيادة كما فرص التجاوب مع التحديات، سلباً او ايجاباً. والفعل ليس فكرة في فراغ في هذه المرحلة، ذلك ان المبادرة الاردنية المصرية توفر، مرة اخرى، وسيلة للقرار الاسرائيلي للخروج من قوقعته. تلك المبادرة محاولة لمدّ سلّم التسلّق من المواجهة الى المحاورة للطرف الاسرائيلي، وهي ايضاً رسالة واضحة تُحرج الطرف الاسرائيلي فحواها ان الطرف العربي يريد السلام. ارييل شارون مرتبك على رغم محاولاته العديدة للايحاء بالحزم والحسم. بعيداً عن الارتباك انه في هلع، والهلع سيد القرارات السيئة. وهو في حيرة من سيرته الذاتية وسيرته التاريخية، وارتباكه في هذا اكبر واعمق من محاولات فهم فكره او افعاله. ارييل شارون مشكلته اسرائيلية اولاً قبل ان تكون عربية. وعلى الاسرائيليين ان يتحملوا عبء من اختاروه قائداً لهم. وقد يكون في حسابات شارون، في مغامرات اعادة احتلال اراضٍ واقعة تحت السلطة الفلسطينية او توسيع المستوطنات تحت عنوان "النمو الطبيعي" او التهرب من الالتزامات الزمنية في المفاوضات على الوضع النهائي ذلك البُعد السطحي في رجال كأمثاله. بعد التحدي بسبب افتقاد الفكر والاستراتيجية بعد المغامرة الامنية للتغطية على القصور السياسي في الاستراتيجية. ومرة اخرى، هذه مشكلة الاسرائيليين كرأي عام، وامثال شمعون بيريز كأفراد قرروا الانخراط في الحكومة للتأثير في قراراتها. هذه مشكلة الادارة الاميركية التي لا تزال تغشّ ذاتها وتتهرّب من مسؤولية الصراحة والصدق. وهذه مشكلة العرب لأن شارون واقع سياسي وعملي وقمعي واستفزازي خطير على رغم الخيارات والقرارات العربية. انما الفكرة هنا، حصراً وليس في اطار المتطلبات كافة، هي التركيز على دور رجل اختار ان يكون أحد أعمدة حكومة الائتلاف لانقاذ اسرائيل من تهورها المتطرف في اختيار ارييل شارون رئيساً للحكومة. فلنتفق، جدلاً، ان شمعون بيريز احسن اتخاذ القرار وانه فعلاً السبيل الى كبح جماح حكومة متطرفة يترأسها ارييل شارون، ولنقل انه المنقذ والمصحح لمسار الاعوجاج والخطورة. ولنراهن عليه. هذا الرهان يتطلّب قطعاً ان يتجرأ على المبادرة، وهذه المبادرة متوفرة في الاقدام على كسر طوق المحرّمات والأخذ بالعلاقة العربية الاسرائيلية الى الرؤيوية الواقعية بحس العدالة وبحس المصلحة الوطنية المتفوقة على الاعتبارات الآنية.