قبل فوزه بالانتخابات في شباط فبراير الماضي وبعده، تعهد ارييل شارون للناخب الإسرائيلي بتوفير الأمن لكل مواطني دولة إسرائيل خلال وقت قصير، وبتجاوز الخطوط الصفراء الحمراء وعدم الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين إذا تطلب أمن إسرائيل ذلك، وتعهد أيضاً بعدم اجراء مفاوضات مع الفلسطينيين قبل وقف العنف "الانتفاضة"، وأوحى بأن لديه من الأساليب ما يكفي لإعادة القيادة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات حسب شروطه، وتأديب "حزب الله" ومن يسانده في حال تعكيرهم الأمن والهدوء في شمال إسرائيل. وبعد أكثر من شهرين على تشكيل حكومته، يواجه شارون صعوبة بالغة في الوفاء بالتزاماته، واصطدم بحواجز اقليمية ودولية منعته من تنفيذ أعمال عسكرية تختلف نوعاً عن التي نفذت في عهد سلفه ايهود باراك. وعلى رغم نجاحه في إقفال كل الأبواب أمام إمكان استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين... لكنه لا يستطيع ادعاء النجاح في وقف "العنف" الفلسطيني، وجر القيادة الفلسطينية من عنقها إلى طاولة المفاوضات. فالانتفاضة، التي يسميها عنفاً، تواصلت وتصاعد زخمها الشعبي والعسكري، وكيّف أهلها نظام حياتهم اليومية وأوضاعهم المعيشية مع الواقع الجديد الذي خلقته، وباتت هذه الحركة الشعبية تحمل في طياتها مقومات التواصل والاستمرارية. ويتحدث ناس الانتفاضة عن الصبر على الواقع المر والصمود في وجه العدوان، طوال فترة حكم شارون، باعتبارهما الضمان الوحيد المتوفر لعدم اهدار معاناتهم وآلامهم وضياع تضحيات قرابة 500 شهيد و15 ألف جريح. وبات دعاة السلام في إسرائيل وكثير من كبار وصغار المؤسسة الأمنية والعسكرية مقتنعين بقدرة الفلسطينيين على التحمل وإدامة "الانتفاضة"، وبعضهم بدأ يشكك بقدرة الحلول الأمنية - العسكرية على اخمادها، وآخرون يحذرون من النتائج المباشرة وبعيدة المدى لتصعيد الأعمال العسكرية وقتل وجرح أعداد كبيرة من الفلسطينيين. ويرون في الاصرار على الحل العسكري للانتفاضة والتأخر في البحث عن حل سياسي أنه يؤجج نيرانها، وقد يحرق كل الأوراق والاتفاقات التي تمت بين السلطتين ويدمر علاقات السلام التي نشأت بين الشعبين، ويجرف معه الجهود الدولية والاقليمية التي بذلت في 10 سنوات ويعيد الأوضاع إلى حال الحرب والكراهية والعداء التي كانت سائدة قبل انطلاق عملية السلام من مدريد في العام 1991. أما بشأن تعهد شارون بتوفير الأمن للإسرائيليين، فالفشل فيه أوضح على الصعيدين الداخلي والخارجي، وإذا كان بناء أمن استراتيجي قوي للدول والحفاظ عليه يتحققان بمقدار ما تنجح الدولة في توسيع شبكة المصالح الأمنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها وإقامة علاقات سلام ثابتة مع جيرانها، فالأمن الخارجي الإسرائيلي، صارا بعيد المنال في زمن شارون، وتراجعت إمكان إقامة علاقات سلام حقيقي مع الفلسطينيين والدول العربية جيران إسرائيل. وفي زمن الانتفاضة وعهد حكومة شارون - بيريز تدهور الوضع الأمني على الحدود السورية - اللبنانية أكثر من أي وقت مضى، وبلغ بعد الغارة الجوية الإسرائيلية الأخيرة على أحد مواقع الرادارات السورية في لبنان حد التهديد بوقوع حرب اقليمية محدودة جديدة. وتتبادل القيادتان السورية والإسرائيلية التهديدات والاصبع على الزناد، ولا أحد يمكنه استبعاد احتمال انفجار الوضع في جنوبلبنان في أي لحظة. ويكفي سقوط صاروخ واحد على كريات شمونة مثلاً أو تنفيذ عملية نوعية في مزارع شبعا توقع خسائر جدية في صفوف الإسرائيليين لتحويل التوتر الشديد إلى انفجار واسع، خصوصاً وأن إسرائيل غيرت في عهد شارون قواعد اللعبة، وتصر على تحميل القيادة السورية المسؤولية الكاملة عن كل عملية ينفذها "حزب الله" ضد إسرائيل، وتهدد بضرب القوات السورية العاملة في لبنان وعدم الاكتفاء بتوجيه ضرباتها للحزب فقط، تماماً كما تتصرف في هذه الأيام مع السلطة الفلسطينية ازاء عمليات حركة "حماس" وتحملها المسؤولية عنها. إلى ذلك، تدهور الأمن الداخلي بمفهومه التكتيكي إلى حد كبير، وتلقى ضربة معنوية كبيرة وقوية: الانتفاضة تواصلت والمقاومة المسلحة تصاعدت، وزاد معدل الاشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين وأفراد أذرع الأمن الإسرائيلية وقتل عدد من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين بذات المعدل الذي قتلوا فيه في عهد باراك، وعلى رغم الحصار المضروب على الأراضي الفلسطينية وتخصيص أعداداً كبيرة من الجيش والشرطة وحرس الحدود لمراقبة حدود إسرائيل مع الضفة والقطاع، تم في عهد شارون تفجير عبوات ناسفة عدة في القدس وكفار سابا ونتانيا ومدن إسرائيلية أخرى. وزاد عدد قذائف الهاون التي تساقطت على المستوطنات في قطاع غزة وبات تساقطها روتيناً يومياً ساعته مجهولة. وأصبحت حركة المستوطنين على الطرقات محفوفة بمخاطر أكبر من التي سادت في عهد باراك، واضطرت شركة الباصات "ايجد" تصفيح مئات الباصات ضد الرصاص. وعلى رغم مشاكله في حاسة السمع، سمع شارون من والدة مستوطن قتل ابنها على طريق مستوطنة عوفرا المجاورة لمدينة رام الله كلاماً قاسياً. وقالت له بحضور رئيس أركانه وعدد كبير من الوزراء: "وعدتنا بالأمن وفشلت في تحقيقه وقتل ابني وقبله بشهرين قتل زوجي". وبدأنا نقرأ يومياً في الصحافة الإسرائيلية تعليقات كتّاب ومحللين مرموقين مشابهة لكلام والدة المستوطن القتيل. وبدأت أصوات سياسية وازنة في المجتمع الإسرائيلي تقر باستحالة وقف الانتفاضة والمقاومة بالحديد والنار والقتل والدمار وتدعو إلى البحث عن سبل سياسة لوقفها. إلى ذلك، يسجل لشارون وأركانه الأمنيين نجاحهم في عسكرة الانتفاضة، ودفع بعض الفصائل الفلسطينية إلى الالتحاق بركب "الجهاد" بمفهوم حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" بعد أن تخلوا عملياً عن البندقية ومالوا نحو النضال السياسي كوسيلة لتحقيق الأهداف. وبصرف النظر عن ملابسات "باخرة السلاح" ودقة أقوال أحمد جبريل، رئيس تنظيم "القيادة العامة" انها "الشحنة الرابعة"، فإنها تأتي في سياق شعور وطني فلسطيني عام بأن وجود شارون في رئاسة الوزراء لم يبق مكاناً للسلام على الأرض الفلسطينية، وتنامي احساس الناس في الضفة والقطاع بأن لا بد من اقتناء السلاح للدفاع عن النفس ودرء الخطر المباشر الذي تتعرض له حياتهم. ويسجل لشارون أيضاً أنه حقق نجاحات أولية لجبهة "لبننة" الوضع الأمني على الأرض الفلسطينية على غرار ما كان الوضع في لبنان سعبينيات القرن الماضي، حيث توجد بجانب الجيش البناني الشرعي ميليشيات لبنانية وجيوش الفصائل الفلسطينية، وخلق هذا الوجود في حينه نوعاً من الازدواجية الأمنية والسياسية. واظن أن توجهات شارون - موفاز الجديدة تعجل في دفع الأوضاع في الضفة والقطاع بهذا الاتجاه، والنتيجة الوحيدة لاستهدافهما تدمير الأعمدة الأمنية للسلطة الرسمية هي اضعاف سيطرة السلطة وشل قدرتها على ضبط الأمن وفرض النظام العام، وتدمير مركزها ومقراتها يحولها إلى ميليشيا مسلحة تقيم في بيوتها وأماكن سكنية مبعثرة بعيدة عن سيطرة القيادة ورقابتها اليومية ولا تخضع لقوانين الضبط والربط العسكري التي تنظم علاقاتها ومهامها. والتدقيق في تصريحات شارون وأركانه الأمنيين في الأيام الأخيرة يشير إلى أنهم ماضون في تطبيق توجهاتهم الأمنية الجديدة، وبدلاً "من التقاط المبادرة المصرية - الأردنية وتقرير لجنة ميتشل والتعامل معهما كمخرج سلمي واقعي للصراع، يركزون أبحاثهم حول سبل تدمير بنية السلطة الفلسطينية الأمنية العسكرية، وتحقيق الانتصار في ميدان القتال، واخضاع الشعب الفلسطيني وقيادته ومعاقبتهم بسبب ما يعتبرونه تطاولاً على جيش الدفاع الإسرائيلي ومواطني إسرائيل وضمنهم المستوطنون، ويرفضون سماع صوت أنصار السلام من شتى أنحاء العالم وصوت المعارضة الإسرائيلية وصوت المثقفين والمفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين العقلاء الواقعيين الذين يؤكدون أن لا حل عسكرياً للانتفاضة وللصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ككل. والواضح أن صبر شارون على هذه التطورات وعلى سياسة عرفات ومواقفه بدأ ينفد وينتظر لحظة مناسبة للانتقام، وكسب السباق الجاري بين تشوه سمعته وتضعضع أوضاع حكومته أو اخضاع الفلسطينيين وتوفير الأمن للإسرائيليين، خصوصاً أن تهمة الفشل في تحقيق ما تعهد به بدأت بالانتشار في الشارع الإسرائيلي، وبدأ خصمه اللدود بنيامين نتانياهو بترويجها على أوسع نطاق في صفوف قواعد وكوادر حزب ليكود. وأظن أن أرض الضفة وقطاع غزة ستشهد في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة تصعيداً نوعياً جديداً. لقد اعتمد شارون ضرب أجهزة الأمن الفلسطينية من دون مبرر وتنفيذ عملية عسكرية واحدة توقع خسائر بشرية في إحدى المدن الإسرائيلية تكفي لتبرير التصعيد ووضع مخطط القتل والتدمير الجديد موضع التنفيذ. وإذا كان ذهاب شارون إلى حرب اقليمية واسعة يحتاج مصادقة أميركية، فصمت إدارة جورج بوش وشلها دور الأممالمتحدة، وعجز روسيا والدول الأوروبية عن القيام بحركة مجدية، وتخاذل النظام الرسمي العربي... الخ تشجعه على المضي قدماً في الحرب المحدودة الجارية على الأرض الفلسطينية منذ أكثر من سبعة أشهر، وتفتح شهيته على اشعال حرائق أخرى بذات الحجم أو أكبر في أكثر من زاوية من زوايا المنطقة المشحونة بكل مستلزمات الحريق. * كاتب فلسطيني.