شاهدنا على امتداد الشهور الثمانية الماضية مواجهة عنيفة بين جيش دولة وسكان مدنيين. ومن الصعب ان يتصور المرء صراعاً غير متكافىء الى هذا الحد. فالجيش يستخدم مجموعة متنوعة من الاسلحة المتطورة ضد هؤلاء السكان ويفرض على اراضيهم حصاراً مؤثراً ومهلكاً، ويرد السكان بقذف الحجارة واستخدام اسلحة خفيفة وشن هجمات متفرقة بقذائف الهاون. ويبيّن التفاوت في ارقام القتلى والجرحى والأذى الاقتصادي الذي لحق بكلا الجانبين اكثر من اي شيء آخر مدى عدم تكافؤ الصراع. في أي وضع آخر كان سيجري الاقرار بهذه الحقيقة كما هي فعلاً: جيش احتلال يحاول ان يُخضع الشعب الذي يقع تحت قبضته ويقاوم احتلاله بأي وسيلة متاحة له. لكن في حالة اسرائيل، تُشوّش هذه الحقيقة بمجموعة محيّرة من الاساطير والدعايات والمغالطات، استناداً الى افكار لا علاقة لها بالموضوع ولكنها مألوفة عن كون اليهود ضحايا وعن مناهضة السامية والخوف من الارهاب. ويقدم الاعتقاد بأن لاسرائيل حجة مقنعة وأن في إمكانها ان تواصل استدرار العطف والتأييد، حتى بعد كل ما حدث، الدليل على النجاح المذهل للمشروع الصهيوني. عندما واجهت اسرائيل في بداية الانتفاضة رد فعل غربي عدائي على هجماتها ضد الفلسطينيين، انطلقت بسرعة حملة مكثفة من الدعاية الوقائية. واوفد مبعوثون اسرائيليون الى العواصم الغربية، ليطرحوا بصورة مقنعة وجهة نظر اسرائيل. وقد نجحت حملة العلاقات العامة هذه في تحقيق هدفها. اذ استطاعت اسرائيل ان تثير علامات استفهام او تبثّ على الاقل تشويشاً في اذهان الناس بشأن الموقف المتعاطف مع الفلسطينيين، وتسترد بالتالي شيئاً من صدقيتها. فالفكرة الخبيثة التي تدّعي وجود تكافؤ في الصراع بين الجانبين واسعة الانتشار في الغرب. وحتى اللغة التي تستخدم لوصف النزاع تعكس ذلك: "العنف على كلا الجانبين" كما لو كانا متكافئين، و "الارهاب" لوصف اعمال المقاومة الفلسطينية، و "الاصابة خلال اطلاق نار من الجانبين" حول رمي اطفال من قبل الجنود الاسرائيليين، و "وقف النار" كما لو كان هناك جيشان يخوضان معركة، وهلم جراً. ويدعو زعماء الغرب كلا الطرفين الى "التحلي بضبط الاعصاب" كما لو انهما يستحقان اللوم على حد سواء. لم يكن مدى التواطؤ الغربي في المشروع الصهيوني اطلاقاً اوضح مما هو عليه الآن. ففي الوقت الذي يلاحظ ان المواقف تجاه اسرائيل تغيرت منذ بدء الانتفاضة - على سبيل المثال، اصبحت نبرة وسائل الاعلام الغربية اقل تعاطفاً مع اسرائيل وعكست التصريحات الرسمية في الغرب هذا الميل - لا يشكك احد بشكل جدي في الافتراضات الاساسية التي تقوم عليها اسرائيل وبالتالي في سلوكها. فلا يوجد أي دليل على ان مؤيدي اسرائىل التقليديين في الغرب يتخلون عن المشروع الصهيوني الذي كانت بريطانيا في البداية، والولاياتالمتحدة في وقت لاحق، رعته ومدته بالاموال والاسلحة والدعم المعنوي. واستند هذا الى عوامل كثيرة، ليس اقلها الثقل الكبير للمسيحيين البروتستانت في الغرب الحساسين بشكل خاص تجاه ادعاء اليهود المستند الى التوراة بأحقيتهم في فلسطين. لكن الاكثر اهمية آنذاك هو وجود احساس عام بالتماهي مع اسرائيل كديموقراطية ليبرالية متعددة الثقافات على النمط الاوروبي. وكانت بهذا المعنى مفهومة ومألوفة الى حد كبير من منظور غربي. بالمقارنة مع ذلك، لا توجد مثل هذه الالفة الثقافية او التماهي مع العرب بشكل عام او الفلسطينيين بشكل خاص. هذا الدعم الغربي، المستمر من دون تغيير حتى اليوم ورغم الوحشية الواضحة لاجراءات اسرائيل الاخيرة ضد الفلسطينيين وعدم شرعيتها، كان عاملاً لا غنى عنه لنجاح المشروع الصهيوني. فاسرائيل تتمتع بعلاقة خاصة مع الاتحاد الاوروبي في التجارة واتفاقات تبادل التكنولوجيا. وهي تستمر في الحصول على دعم مالي كبير من المانيا كتعويضات عن المحرقة. كما تتلقى مساعدات مباشرة من الولاياتالمتحدة تبلغ قيمتها 3 بلايين دولار سنوياً، واكثر الاسلحة الاميركية تطوراً، اضافة الى تقاسم المعلومات الاستخبارية ونقل التكنولوجيا. وهي تتمتع في الوقت نفسه بدعم معنوي غربي كبير وبتأكيد شعبي لشرعيتها، رغم استهانتها بقرارات عديدة للامم المتحدة، وبأدنى حد من النقد مهما كان سلوكها يستحق الشجب. على سبيل المثال، لا يزال الاتحاد الاوروبي، الذي تراجعت استثماراته الكبيرة في الاراضي الفلسطينية الى حد كبير بسبب فرض الحصار وعمليات الاغلاق والاعتداءات الاسرائيلية، غير مستعد لاستخدام العقوبات ضد اسرائيل، مكتفياً بالتعبير عن عدم الرضا. وفي الاجتماع المشترك لمجلس الشراكة بين الاتحاد الاوروبي واسرائيل في 21 ايار مايو الجاري، دان الرئيس الحالي للاتحاد الاوروبي سياسات اسرائيل ضد الفلسطينيين بلهجة قوية. لكن الاجتماع لم يخرج بشيء ملموس ولم يكن في وسع احد ان يتفق بشأن استخدام العقوبات ضد اسرائيل. ولا يختلف الامر في الولاياتالمتحدة. فتغيير الرئيس هناك لم يؤد الى تراجع في الدعم لاسرائىل. ومنذ زيارة ارييل شارون الى واشنطن في آذار مارس الماضي، بدأ الرئيس بوش يستخدم لغة الحكومة الاسرائيلية. وتبعاً لذلك، القى مسؤولية العنف في الضفة الغربية وغزة على السلطة الفلسطينية ورفض ان يدعو عرفات الى البيت الابيض ما لم يدن "العنف" ويبذل جهوداً لخفضه. والمشكلة بالنسبة الى الغرب الآن هي كيف يمكن ان يديم الصورة الزائفة عن اسرائيل "لطيفة" ومتحضرة تستحق التأييد فيما تتجلى وحشيتها ضد الفلسطينيين. وناشدت الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي الطرفين ان يوقفا العنف ويستأنفا المفاوضات كما لو ان الامور ما تزال قابلة للحل. وهما يتعلقان الآن بالأمل في ان يقدم "تقرير ميتشل"، الذي نشر الاسبوع الماضي، الحل للمشكلة. فالتفكير بخلاف ذلك سيعني الاعتراف بما لا ترغب أي قوة اوروبية ان تواجهه: ان الانتفاضة هي أساساً حركة مقاومة شعبية ضد استعمار اسرائيلي كان آخر تجلياته هو توسعه الى داخل الاراضي التي اُحتلّت بعد 1967، ولكن بدايته الفعلية ترجع الى ما قبل 1948. وما كان للمشروع كله ان يتحقق ابداً لولا تواطؤ الغرب. كان احد الاشياء المتأصلة في المشروع الصهيوني ان السكان الاصليين في المنطقة، التي سيُطبّق فيها مشروع كهذا، سيرفضوه. وهو شيء طبيعي اذا اخذ المرء بالاعتبار ما كان هذا المشروع يسعى الى تحقيقه. اذ كان يهدف الى اقامة دولة قومية نقية عرقياً على ارضٍ لشعب آخر، مأهولة بالفعل، واستقدام سكان غرباء اليها لا يوجد ما يجمعهم مع الشعوب الاخرى في المنطقة. وجرى تبرير ذلك بايديولوجية قومية كانت تعتبر احقيتها في الارض شيئاً صائباً من الناحية الاخلاقية واجدر من احقية السكان الاصليين. ولأن الصهيونية اُعتبرت الرد على قرون من اضطهاد اليهود في اوروبا وبشكل خاص لتوفير ملاذ لضحايا المحرقة، فقد اكتسبت تفوقاً اخلاقياً على غيرها من حركات الاستيطان الاستعمارية. وواضح ان مشروعاً عدوانياً وعنصرياً كهذا لا يمكن ان يُكتب له البقاء طويلاً الاّ اذا تخلى عن نوازعه وحاول ان يتكيف مع محيطه او بقي كما هو وأدام نفسه بالقوة. وهذا هو، بالطبع، ما حدث. فاسرائيل تملك الجيش الاكثر تطوراً في المنطقة وخاضت حروباً عدة مع جيرانها، وغزت واحتلت اراضي جيرانها وقمعت بوحشية كل مقاومة ابداها الفلسطينيون ضد حكمها. وتقدم ادارة اسرائيل الحالية للأزمة مع الفلسطينيين مثالاً بالغ الوضوح على هذا المنطق. ومع ذلك، ورغم الطبيعة العدوانية للمشروع الصهيوني، كان يمكن للأمور أن تتطور بشكل آخر لولا الدعم من الغرب. فلو أن اسرائيل تُركت لتتدبّر امرها في محيط عربي بشكل ساحق، لكان المشروع انهار منذ وقت طويل ووجد الاسرائيليون انفسهم مستوعبين في المنطقة ليغرقوا في النهاية، كما كانت حال شعوب وقبائل اخرى كثيرة من قبلهم، من دون ان يتركوا اثراً. كان هذا سيكون نهاية المشروع الصهيوني، وكان هذا الخوف بالضبط هو الذي دفع زعماء اسرائيل منذ البداية الى رفض كل الحلول السلمية للنزاع. وكما بيّن الباحث الاسرائيلي آفي شلايم في كتابه "الجدار الحديد" The Iron Wall الذي صدر اخيراً فإن الاسرائيليين رفضوا مراراً اقتراحات السلام التي قدمها الزعماء العرب منذ وقت طويل يعود الى 1949، وصيغت كل اتفاقات السلام القائمة حالياً مع الدول العربية في اوضاع يعاني العرب فيها الضعف وبما يؤمّن اقصى منفعة لاسرائيل. لذا تجد اسرائيل نفسها قوة لا تُقهر في مواجهة العرب، تملك سجلاً من النجاحات والانتصارات. وهذا صحيح، من بعض النواحي. فالعالم العربي منقسم وعاجز اكثر من أي وقت مضى بشأن كيفية التعامل مع اسرائيل. صحيح ان مؤتمر وزراء الخارجية العرب الاخير في القاهرة اتخذ قراراً جريئاً على نحو غير مألوف بتجميد العلاقات مع الدولة العبرية. لكن لا يزال هذا يبعد كثيراً عن اتخاذ خطوات جذرية قطع كل العلاقات الديبلوماسية، والغاء معاهدات السلام، وانشاء تحالف عسكري عربي ستكون ضرورية لترك تأثير حقيقي على اسرائيل. وتتكل الكثير من الحكومات العربية على الولاياتالمتحدة والغرب، وهي ليست في وضع يمكّنها ان تقف لوحدها ازاء قضية تحظى بوضوح بمناصرة الغرب. كما ان هذا الوضع هو، بالطبع، احد البنود الاساسية لدعم الغرب للمشروع الصهيوني. فلا يكفي لتمكين اسرائيل من البقاء ان يُشرّد الفلسطينيون ويتم اخضاعهم. كان ضرورياً ايضاً ان يتم إضعاف الجيران العرب لاسرائىل وأي دولة عربية اخرى كان يمكن ان تصبح قوية بما فيه الكفاية لتشكّل خطراً على بقائها. وبوجود اصطفاف القوى هذا ضد العرب لا توجد لديهم فرصة تذكر للانتصار على اسرائىل. ومهما بلغ التزام الزعماء العرب وشعوبهم بالقضية الفلسطينية، ومهما كانت رغبتهم في تغيير الاحداث، فإنهم لن يتمكنوا من القيام بذلك واسرائيل تتمتع بمثل هذا الدعم الغربي. وفي الوقت نفسه، سيتعيّن على الاسرائيليين اذا كان سيكون لهم أي مستقبل بعيد المدى في المنطقة ان يدركوا ان مشروعهم، بحكم طبيعته بالذات، كان لا بد ان يستفز هذا التفاعل المتسلسل. لا يمكن ضمان بقاء اسرائيل في وضعها الحالي الاّ اذا استمر الوضع الراهن. أي اذا بقي العرب عاجزون، واذا بقي الفلسطينيون من دون اصدقاء، واذا ظل الغرب مسايراً، وبشكل خاص اذا ابقت الولاياتالمتحدة على تدفق الاموال. سيحتاج الاسرائيليون اذاً الى ان يعيدوا النظر في المشروع الصهيوني بصيغته الاصلية وينبذوه، وان يتعلموا القبول بأن دولتهم ليست سوى دولة صغيرة في منطقة عربية كبيرة يجب ان يتوصلوا الى تفاهم معها على اساس الصداقة والاحترام. ومن المستبعد ان يحدث هذا بينما يواصل الغرب التساهل مع اسرائيل على حساب العرب. كما يجب ان يكون العالم الغربي مستعداً لانهاء تواطئه في المشروع الصهيوني. لكن لا يمكن ان نفترض انهم سيفعلوا ذلك من دون حافز. ولذا ربما حان الوقت لأن يقدم العرب هذا الحافز. فالغرب يحتاج ان يدرك بان هناك ثمناً يُدفع مقابل التأييد الغربي لاسرائيل: اسعار النفط، تجميد الارصدة في الخارج، تعليق مشتريات السلاح .. الخ. ونعرف جميعاً التردد والخوف الذي سيثيره اتخاذ مثل هذا القرار الجريء. لكن ألا يخيف اكثر من ذلك بكثير وجود اسرائيل عدوانية وتوسعية وتملك ترسانة نووية في قلب المنطقة العربية؟ * طبيبة فلسطينية، لندن.