هناك منذ الآن دعايات انتخابية على التلفزيون الأميركي، ولا ينقص الحملة الجارية سوى مشهد الرئيس جورج بوش وهو يحمل أطفالاً ويقبلهم. كانت انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني نوفمبر. ودخل الرئيس الجديد البيت الأبيض في كانون الثاني يناير، وولايته أربع سنوات. غير ان الانتخابات الأميركية صناعة مستمرة، وهناك الانتخابات "النصفية" السنة المقبلة لجميع مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ. نحن والأميركيون في المئة يوم الثانية من ولاية بوش، ومع ان انتدابه الرئاسي لا يسمح له بانتهاج سياسة حزبية ضيقة، بعد ان حصل آل غور على نصف مليون صوت شعبي أكثر منه، فإن من الواضح ان الرئيس يعتزم تنفيذ "أجندة" محافظة، قوامها مشاريع طويلة الأمد، ما جعل جمهوريين كثيرين يبدون خشيتهم من ان يخسر الحزب غالبيته الصغيرة، في مجلس النواب في تشرين الثاني 2002. وقد خسر الجمهوريون فعلاً غالبيتهم في مجلس الشيوخ بعد ان ترك السناتور جيمس جيفورد الحزب ليصبح مستقلاً فاصبح للديموقراطيين 51 مقعداً في مقابل 49 مقعداً للجمهوريين. الرئيس بوش يقول انه يمارس "محافظة من نوع جديد" تعكسها اجراءاته من خطط توفير الطاقة، والعودة الى الطاقة النووية، مع تخصيص جزئي للضمان الاجتماعي، وتشجيع صغار السن على استثمار جزء من مدفوعاتهم الى الضمان الصحي في شراء اسهم وسندات وغير ذلك، واعطاء حوافز ضريبية للطاقة، وخفض الضرائب في شكل دائم، مع مساعدة فيديرالية لجمعيات دينية تقدم خدمات اجتماعية، واصلاح التعليم. وفي حين نهتم كعرب بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، الا ان ابرز مظاهر السياسة هذه عدم وجودها، فأهم القضايا في المئة يوم الثانية لجورج بوش الابن، محلي خالص من نوع سياسة الطاقة والسياسة الدفاعية، وقد دخل الرئيس في صدام مع المعارضين منذ الآن. في مجال الطاقة يريد الرئيس بوش زيادة الانتاج من نفط وغاز وفحم، وتقديم اعفاءات ضريبية للتشجيع على التوفير في استهلاك الطاقة. وهو يريد العودة الى الطاقة النووية وفتح محمية الاسكا في القطب المتجمد الشمالي للتنقيب عن الغاز والنفط، وقد ادى قراره الى ثورة انصار البيئة عليه داخل أميركا وخارجها. غير ان المعارضة الأكبر هي لسياسته الدفاعية فهو هنا يواجه معارضة حلفائه الأوروبيين وروسياوالصين لمشروع شبكة الصواريخ الدفاعية، كما يواجه معارضة محلية من ناس لا يعترضون على مبدأ الشبكة وانما يقولون ان التكنولوجيا المطلوبة غير متوافرة الآن، وقد لا تتوافر في المستقبل، والمشروع بالتالي غير مضمون فقد تنفق مئات بلايين الدولارات والنتيجة صفر. وربما زدنا هنا معارضة مراقبين وخبراء يقولون انه اذا قام خطر نووي في المستقبل على الولاياتالمتحدة فالأرجح الا يكون صاروخاً من كوريا الشمالية أو العراق، وانما سلاح نووي صغير يهرب الى داخل الولاياتالمتحدة، وهذا لا تنفع الصواريخ المقترحة في اعتراضه. السياسة الدفاعية الجديدة تتجاوز شبكة الصواريخ هذه، فوزير الدفاع دونالد رامسفلد اقترح على ما يبدو التخلي عن مبدأ "حربين كبيرتين في وقت واحد"، أي ان تكون عند الولاياتالمتحدة القدرة على شن هاتين الحربين معاً، في الشرق الأوسط وبحر الصين مثلاً. والأرجح انه سيحاول جهده عندما يقابل الرئيس الروسي الكسندر بوتين في لوبليانا في 16 من الشهر المقبل ان يبدد مخاوفه من السياسة الدفاعية الجديدة، الا ان روسياوالصين لا بد من ان تشعرا بقلق وهما تريان موازنة لوزارة الدفاع الأميركية هي الآن 300 بليون دولار، يتوقع ان تزيد قليلاً في السنتين الماليتين 2002 و2003، والفكرة خفض الأفراد، من 4،1 مليون الآن، وزيادة الاعتماد على السلاح. لذلك يفكر الوزير رامسفلد في تطوير دفاع في الشرق الأقصى قوامه الصواريخ البعيدة المدى بدل القواعد البحرية الموجودة التي يعتبرها عرضة للاصابة بصواريخ صينية أصبحت أكثر دقة وقوة. اذا وافقنا جدلاً على ان الرئيس بوش عقد العزم على تنفيذ "أجندة" محافظة في الداخل والخارج فإنه يبقى ان نرى كيف ستنعكس افكاره على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وثمة أمور مؤكدة حتى الآن، فأولاً هو لا يعرف كثيراً عن الشرق الأوسط، وثانياً ليست عنده الرغبة أو القدرة على التعلم، وثالثاً فهو يترك هذه السياسة لأركان ادارته، وهؤلاء ليسوا على اتفاق على سياسة واحدة، ورابعاً ففي غياب موقف شخصي أو سياسة متفق عليها فإن السياسة المتبعة هي السياسة التقليدية المؤيدة لإسرائيل. وعندما اجتمع الرئيس الأسبوع الماضي مع كبار مساعديه مثل نائب الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع ومستشارة الأمن القومي، لدراسة تقرير ميتشل بدا انه لا يريد الالتزام باقتراح وقف بناء المستوطنات أو توسيعها في شكل كامل، مع ان ذلك يعني نسف التقرير. ثم عادت الإدارة وقبلت التقرير بناء على الحاح باول. ويفضل الرئيس بوش ومعاونوه التركيز على العراق، ربما اعتقاداً منهم ان الوضع هناك اسهل، الا انه ليس كذلك، والمشروع البريطاني الجديد الذي تؤيده الولاياتالمتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية وتشديد الحصار على التسلح لن يحظى بتعاون العراق الذي اخذ يهدد الدول المجاورة اذا قبلته. والواقع ان أي طالب سياسة في الشرق الأوسط يعرف ان المشروع لا يمكن ان ينجح في شكله الحالي، الا ان البريطانيين والأميركيين مصرون عليه. هل تفشل ادارة بوش في العراق فتعود الى المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية، أو ان هذه المواجهة تنفجر خارج حدودها الحالية لترغم الادارة على التدخل؟ مهما كان الجواب، فالرئيس بوش سيكتشف في الشرق الأوسط أو غيره ان العالم لا يسير بالضرورة وفق اجندته اليمينية.