أصبح واضحاً أن الرئيس الاميركي الجديد جورج بوش يولي سياسته الدفاعية، التي أعلن عنها في برنامجه الانتخابي، اهتماماً كبيراًَ، وانعكس ذلك في اجتماعاته المتعددة مع أعضاء إدارته وعدد من زعماء الكونغرس لتحويل التعهدات الى برامج يتم تنفيذها طبقاً لخطة قصيرة المدى. وأوضح بوش في خطاب ألقاه في أيلول سبتمبر 1999 في الكلية العسكرية في ساوث كارولينا أنه سيطالب في حال انتخابه بتخصيص 20 بليون دولار اضافية للأبحاث ونشر نظام الدرع الصاروخي NMD، وإدخال أسلحة أخرى جديدة، ورفع رواتب الجنود، بهدف تعزيز القوة العسكرية إلى جانب خفض القوات الاميركية في الخارج، وجعل القوة العسكرية رديفاً داعماً للسياسة الخارجية. وأكد أن أولوياته تقوم على تطوير نظام الدفاع المضاد للصواريخ، وجعل القوات العسكرية أكثر قدرة على الحركة استجابة لتحديات القرن الحادي والعشرين المتمثلة أساساً في انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. ويعتبر وزير الدفاع الاميركي الجديد رامسفيلد من المؤيدين لهذا المشروع، إضافة إلى مستشارة الرئيس الجديد للأمن القومي كوندوليزا رايس التي كانت تعمل ضمن طاقم مستشاري الرئيس الاميركي السابق جورج بوش. وكانت رايس كتبت في مقال نشرته مجلة "السياسة الخارجية" في عدد كانون الثاني يناير 2000 عن معاهدة A.B.M التي تحدد أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ الموقعة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في 1972: "إن هذه المعاهدة عفا عليها الزمن". وأشارت رايس الى ضرورة قيام الولاياتالمتحدة بدور مهم على صعيد السياسة الخارجية في حال فوز الجمهوريين بمنصب الرئاسة، وأضافت: "إن التهديدات النووية من جانب العراقوكوريا الشمالية تأتي اليوم على رأس الأولويات". اعتقد عدد من المراقبين في عواصم العالم الكبرى أن فشل التجربة التي اجرتها الولاياتالمتحدة في تموز يوليو الماضي على هذا النظام يمكن أن تثني البنتاغون عن المضي قدماً في برنامجه، إلا أنه ثبت خطأ هذه التقديرات، وتأكد انه سيشرع بطريقة أو بأخرى في تنفيذ برنامجه لتصبح الصواريخ المضادة للصواريخ جزءاً أساسياً من استراتيجية الدفاع النووي في السنوات المقبلة. باتت الولاياتالمتحدة تتبنى رؤية جديدة للأخطار التي تتهددها في المستقبل، فلم تعد الصواريخ الروسية أو الصينية هي الهاجس الأول، مغلبة تلك الصواريخ التي من الممكن أن تطورها كوريا الشماليةوإيرانوالعراق، وتطلق عليها الدول الشاردة أو المشاغبة، وهو ما أكده أحد كبار المسؤولين الاميركيين في تموز الماضي حين قال: "إننا لا نخشى أن نتعرض لهجوم من جانب الروس، وهم أيضاً لم يعد هناك ما يدعوهم للخوف من تعرضهم لهجوم أميركي على أراضيهم. فالخطر الذي يهدد العالم اليوم يكمن في الصواريخ البالستية التي أخذت تنتشر هذه الأيام بفضل الصادرات الصينية والروسية". وعبّر بوش عن هذا المفهوم في خطاب له في 23 أيار مايو الماضي، حين قال: "إن نهاية الحرب الباردة لم تقد الولاياتالمتحدة إلى التخلي عن نظريتها النووية، وأنه آن الأوان لكي تعمل على تنفيذ هذه النظرية وتكييفها بما يتناسب وتراه يعترضها من تهديدات جديدة". واقترح بوش خفض الترسانة النووية الاميركية بصورة هائلة، على أن تعزز في المقابل فكرة إقامة درع مضاد للصواريخ يكون ركيزة اساسية للنظام الدفاعي. ويتم تغيير مفهوم البرنامج حتى يعمل على مستويين: استراتيجي مضاد للصواريخ البالستية عابرة القارات يُنشر أساساً في الولاياتالمتحدة وأوروبا، وتكتيكي مضاد للمسرح TBMD ليعمل في مناطق انتشار القوات الاميركية في الشرقين الأوسط والأقصى ويعمل على ردع انتشار الصواريخ البالستية فيهما. وعندما سئل بوش عن الكيفية التي سيتحقق بها ذلك من دون اللجوء إلى إلغاء معاهدة ABM التي تنص على حظر امتلاك الولاياتالمتحدةوروسيا أنظمة مضادة للصواريخ على المستوى الوطني، وتسمح فقط لكل منهما بنشر مئة صاروخ اعتراضي مقسمة على موقعين لحماية العاصمة، ولحماية أحد مواقع الصواريخ الهجومية، لمح إلى احتمال إلغاء مثل هذه المعاهدة، ولكنه قال: "إن الأمر يتطلب أخذاً ورداً، إنه أمر حساس بالنسبة إلى بعض الأعضاء في الاطلسي الناتو وقادة بعض الدول"، وأضاف: "أعتقد أنه لزام علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لحماية أميركا وحلفائنا من مخاطر حقيقية في القرن الحادي والعشرين". ويعتقد المسؤولون عن وضع استراتيجية الحزب الجمهوري، ويمثلون مدرسة سياسية جديدة، أن الصواريخ الروسية المتعددة الرؤوس النووية لم تعد تمثل تهديداً يذكر، إلا أن حال عدم الانضباط التي تعانيها هذه الدولة، جعلت من عناصر القوة النووية المتناثرة في البر والبحر والجو في تلك الامبراطورية، عرضة لعبث الأفراد والجماعات، يضاف إلى ذلك انتشار الرؤوس النووية والكيماوية والبيولوجية في دول لا يمكن التحكم في ردود فعلها ولا يعرف على وجه الدقة ما يحدث داخلها. ويتساءل المؤيدون لبرنامج بوش: ماذا فعلت معاهدة ABM لمنع كوريا الشمالية من اطلاق صاروخها تايبوونغ 10 الذي بلغ مداه حوالى 1950 كلم وعبر أجواء اليابان؟ ولمنع إيران من تطوير صاروخها شهاب -3 الذي بلغ مداه 1500 كلم، وماذا يمكن أن تفعله هذه المعاهدة لمنع صدام حسين من تطوير صاروخ يصل مداه إلى 3000 كلم ليهدد به القوات الاميركية في منطقة الخليج، وأوروبا أيضاً؟ في مثل هذه الحالات لن ترد الولاياتالمتحدة بإطلاق صواريخها التقليدية، وإنما ستحاول إيقاف الصواريخ المعادية قبل وصولها إلى أهدافها. مكونات النظام الدفاعي الصاروخي يعتمد النظام الدفاعي الصاروخي الجديد على التكامل بين ثلاثة أنظمة دفاعية يتم تحقيقها على مراحل في الأمداء القريبة والمتوسطة والبعيدة. أ- في المدى القريب وحتى العام 2005 يتم نشر قاعدة مضادة للصواريخ في جزيرة شيما في آلاسكا، بدأ إقامتها، ويتكون من 100 صاروخ اعتراضي من نظام NMD لمواجهة عدد محدود من الصواريخ عابرة القارات. ب- في المدى المتوسط يتم التوسع في اقامة قواعد أرضية وبحرية وفضائية لمواجهة أعداد كبيرة من الصواريخ المعادية ذات الرؤوس المتقدمة تكنولوجياً في الجو وفي الفضاء. ج- وفي المدى البعيد يتواكب مع ذلك تطوير أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ تعمل على المستوى التكتيكي مثل الأميركي باتريوت والإسرائيلي آرو/حيتس. وتخطط ألمانيا وإيطاليا للاعتماد على باتريوت -3 لمواجهة الصواريخ المعادية المنتشرة في الشرق الأوسط وشرق آسيا. وهو أكد الكفاية في اعتراض الصواريخ المعادية. ولا تزيد فاعلية باتريوت -2 المتاح حالياً على 40 إلى 60 في المئة. ويعمل هذا النظام على اعتراض الصواريخ على الارتفاعات العالية في مسرح العمليات ذات مدى يصل الى 4500 كلم، وهو نظام خفيف الحركة، يعمل على سطح الأرض لاسقاط الصواريخ المعادية داخل الغلاف الجوي وخارجه، ويشمل المنظومات الآتية: أ- منظومة استطلاع وانذار مبكر واتصالات فضائية وجوية وقيادة وسيطرة، وتتكون من أقمار تجسس وإنذار مبكر تعتمد على الأشعة تحت الحمراء في كشف مكان ولحظة إطلاق الصاروخ ونقل المعلومات فوراً وتبليغها إلى أقمار الاتصالات التي تنقلها إلى مركز الانذار الأرضي، بمدة لا تتجاوز 6،1 دقيقة من لحظة اطلاق الصاروخ المعادي. وتتكون أقمار التجسس من مجموعتين: الأولى مكونة من أربعة أقمار تدور في مدار مرتفع، والثانية من 42 قمراً تدور في مدار مخفوض. وتتبادل المجموعتان المعلومات خلال عملية الاعتراض. كما يسعى مركز القيادة والسيطرة إلى منع وحدة الصواريخ المعادية من توجيه ضربة صاروخية أخرى، من خلال توجيه هجمات جوية بالقاذفات المقاتلة والصواريخ البالستية ضد وحدات الصواريخ المعادية التي رُصدت مواقع إطلاقها. ب- منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ المعروفة بإكسو أتموسفريك كيل فيهكل، أي مركبة قتل الصاروخ المعادي خارج الغلاف الجوي، وتتكون من قسم الدفع الصاروخي، ثم المركبة القاتلة التي تنفصل عن قسم الدفع لتصطدم برأس الصاروخ المعادي بسرعة تصل إلى 26 ألف كلم /ساعة وتدمره. وتشمل هذه المركبة رأساً باحثة مزودة أجهزة دفع واستشعار وتوجيه وكمبيوتر تضمن وصولها إلى رأس الصاروخ المعادي وتدميره من دون الارتطام بالشراك المخادعة الحرارية، لذلك فهي مزودة جهاز أشعة تحت الحمراء وتلسكوباً. وتزن هذه المركبة القاتلة 54 كيلوغراماً وطولها 140 سم. واستخدم في التجارب الثلاث، الصاروخ الاميركي مينوثمان -2 كهدف معاد لعملية الاعتراض بعد أن اطلق من قاعدة فاندنبرغ في كاليفورنيا على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة. وأطلق الصاروخ الاعتراضي من جزيرة واغالين من مجموعة جزر مارشال في المحيط الهادي على مسافة 7200 كلم. وفشلت التجربة الثانية نتيجة عطل في نظام التوجيه الذاتي في مركبة القتل الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء جعلها تعبر بعيداً عن الهدف بمسافة 30 متراً فقط على ارتفاع 232 كلم. وفشلت التجربة الثالثة بسبب عدم انفصال مركبة القتل عن الصاروخ الأم بسبب عيب في صاروخ اطلاقها الذي صنعته شركة لوكهيد مارتن، أو بسبب البالون الخداعي المثبت في الصاروخ مينوتمان. ومن عيوب هذه التجربة أيضاً أن نظام الانذار المبكر رصد انطلاق مينوتمان متأخراً عن موعده بنحو ساعتين، ويرجع ذلك إلى ضعف بطاريات جهاز إطلاق الإشارات الالكترونية من الصاروخ إلى مراكز المراقبة الأرضية. وأدى فشل التجربتين إلى تأخير نشر هذا النظام عن الموعد المخطط له، كما يتوقع ارتفاع كلفته حتى العام 2005 إلى نحو 36 بليون دولار، اي ضعف التقديرات الأولى. تكلفة الانتاج يكلف البرنامج 23 بليون دولار تشمل تكلفة انتاج الصواريخ الاعتراضية ومصروفات التشغيل والصيانة لمدة عشرين عاماً بعد دخولها خدمة القوات المسلحة، وتكلف القذيفة في مرحلة التجارب الحالية نحو 8،1 مليون دولار، وتتقاضى شركة لوكهيد مارتن 25 مليون دولار لكل تجربة اطلاق ناجحة. أما إذا فشلت مركبة القتل الاعتراضية في إصابة الهدف، كما حدث في تجربة 8/7/2000 فتحصل "لوكهيد" على 15 مليون دولار. وتشير تقديرات الكونغرس إلى أن إنشاء كتيبتين لهذا المشروع 250 صاروخاً مضاداً للصواريخ في ولاية آلاسكا سيتكلف 60 بليون دولار حتى العام 2015 مع وضع معدلات التضخم في الاعتبار. وتصل كلفة إقامة النظام ثاد في أي من منطقتي الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى إلى حوالى 10 بلايين دولار، وخصصت موازنة وزارة الدفاع الخمسية 6،6 بلايين دولار لهذا المشروع. النتائج السلبية على رغم التشكك في فاعلية هذا النظام، بسبب الاستحالة الفنية في رصد كل الصواريخ المعادية واعتراضها، خصوصاً إذا ما اطلقت في وقت واحد أو قصير، إلا أن هذه المعضلة الفنية لن تمنع الاستمرار في التجارب حتى ينجح هذا النظام في تجاوزها. إذ سيظل هدف تلاقي الصاروخين في الفضاء هدفاً تكنولوجياً وهندسياً أمام مراكز البحوث والتطوير في الدول الكبرى. وكما كانت انجازات الهبوط على القمر واطلاق مكوكات الفضاء والمنصات الفضائية التي تبقى لسنوات تدور في الفضاء حلماً في الماضي، ثم اصبحت واقعاً بعد ذلك، فليس من المستبعد أن تنجح مراكز البحوث والتطوير في تحقيق حلم تلاقي الصاروخين في الفضاء. إلا أن اعتراض الكثير من الدول على هذا المشروع سيبقى أكبر المعضلات، وهو اعتراض لا يقتصر على روسياوالصينوكوريا الشمالية، بل شمل أيضاً المانيا وفرنسا وحتى بريطانيا. ويرجع هذا الاعتراض الى ما سيسببه المشروع من دفع سباق التسلح الصاروخي والنووي قدماً بعد ان هددت روسيا بخرق معاهدة 1987 لحظر انتاج الصواريخ البالستية متوسطة وقصيرة المدى ذات الرؤوس النووية، طراز SS-20 المعدل، وتحديث الصواريخ SS-27 بالرؤوس توبول -م ما يعد خرقاً لمعاهدة ستارت -2، وهددت الصين برفع كفاية استعدادها النووي، وتطوير صواريخها التي لا تزال تعمل بالوقود السائل، كما ألمحت إلى استئناف صادرات الصواريخ M-11 إلى باكستان، وهددت كوريا الشمالية بدورها بتطوير صاروخها تايبودنغ-2 الذي يتوقع أن يصل مداه إلى 4500 كلم ليغطي الساحل الشرقي من الولاياتالمتحدة وجزر هاواي. كما يتوقع أن تطور إيران صاروخها شهاب - 4 ليصل مداه إلى 3000 كلم، وتخطط اليابان لإنتاج اسلحة نووية وصاروخية وزيادة انفاقها الدفاعي في هذا المجال، ناهيك عن استنزاف ثروات الحلفاء الاصدقاء في تمويل هذا المشروع لمصلحة احتكارات السلاح في الولاياتالمتحدة. * لواء ركن متقاعد وخبير استراتيجي مصري.