مع اعلان نائب الرئيس الاميركي آل غور عن ترشحه رسمياً للانتخابات الرئاسية في العام المقبل، تتضح معالم المعركة الانتخابية القادمة. اذ على الرغم من تعدد المتنافسين للحصول على ترشيح الحزب "الجمهوري"، تشير التوقعات الحالية الى ان جورج دبليو بوش هو صاحب الحظ الأوفر في الفوز بالترشيح، وربما بالمنصب. جورج دبليو بوش، حاكم ولاية تكساس الحالي، هو طبعاً ابن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. وهو كذلك شبيهه وسميّه تقريباً. يذكر هنا ان صيغة الاسم التي يشدد عليها المقربون منه هي "جورج دبليو بوش" وليس "جورج بوش جونيور" جونيور تعني الصغير او الابن. والواقع ان مسألة الاسم تكاد ان تختزل حال جورج بليو بوش بايجابياته وسلبياته. اذ قد يجوز تصنيف قدر كبير من الموقف الشعبي المتجاوب معه في باب الوفاء لوالده. وجورج بوش، الرئيس السابق، كان قد اتهمه البعض بالترفع والتعالي عن هموم المواطنين العاديين وشجونهم، مما افقده الشرائح الشعبية التي سبق لسلفه الرئيس رونالد ريغان ان استقطبها لصالح الجمهوريين، وأدانه البعض الآخر لعدم التزامه الخط المحافظ والاقدام على تسويات عدة مع الديموقراطيين، ولا سيما نكث وعده الانتخابي للمحافظين بعدم فرض ضرائب جديدة، مما أوهن التأييد له في صفوف محازبيه. وكانت النتيجة بالطبع ان فاز منافسه الديموقراطي بيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية عام 1992، ولم يتمكن جورج بوش من الحصول على ولاية ثانية. ومع مرور الأعوام، وفي خضم مسلسلات الفضائح التي طمرت البيت الابيض في عهد كلينتون، استحال عيب الترفع الذي وصم به جورج بوش بالأمس حلية محمودة تحيط منصب الرئاسة بالهيبة والاحترام، وأعيد النظر بالتسويات التي عُيّر بسببها فأضحت خطوات واقعية عملية. فلا يمكن بالتالي التقليل من اهمية عنصر الاعتذار الضمني من جورج بوش الرئيس السابق والذي يستفيد منه جورج دبليو بوش، الطامح الى منصب الرئاسة المقبل. واستطلاعات الرأي العام في اوساط الحزب الجمهوري تشير الى ان جورج دبليو يحظى لتوّه بأغلبية واضحة من اصوات محازبيه، تتجاوز الثلثين في بعض الاستطلاعات، وذلك على الرغم من وجود عدد كبير من المنافسين. وقد أبدى بوب دول، المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية السابقة عام 1996، امتعاضه إزاء اعتبار مسألة اختيار مرشح الحزب للعام المقبل أمراً محسوماً، مذكراً بأن المطلوب ليس تتويجاً لولي عهد، بل السير بالعملية الانتخابية وفق الأصول. ويذكر هنا ان زوجة بوب دول، اليزابيث، هي بدورها مرشحة منافسة لجورج دبليو. والواقع ان الأغلبية المنسوبة لجورج دبليو ما زالت هشة. وقد شهدت الاستطلاعات الاخيرة بالفعل بعض التراجع له مع نجاح منافسيه في توسيع رقعة حضورهم الإعلامية والإعلانية. وقد يكون الحضور الاعلامي، ومقدار "أنسنة" المرشح، وتقريبه انفعالياً وعاطفياً من جمهور الناخبين، العامل الأول في النجاح الانتخابي، وذلك قبل البرنامج السياسي نفسه. فعلى سبيل المثال، تجد هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس، التي حازت على تعاطف قطاعات واسعة من الجمهور الاميركي نتيجة للخيانات الزوجية التي تعرضت لها، مؤهلة انتخابياً لخوض معركة تمثيل ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ في الكونغرس، وذلك على الرغم من انتفاء المعطيات الموضوعية لها من حيث الخبرة السياسية والانتماء الى الولاية مثلا. وكما هيلاري كلينتون، كذلك اليزابيث دول وجورج دبليو بوش، وان بدرجات متفاوتة. اذن، يجد جورج دبليو بوش نفسه في بداية حملته الانتخابية في موقع طليعي بفضل الحضور الاعلامي الموروث من والده. الا ان الأوساط المقربة منه تشدد على ان الاقبال الشعبي على تأييده يعود كذلك الى عنصرين موضوعيين بعيدين عن الاعتبارات الانفعالية. ذلك انه قد اظهر خلال توليه حاكمية ولاية تكساس في الأعوام القليلة الماضية القدر المطلوب من الدراية والحزم والثبات في المواقف، ما يؤهله للاضطلاع بمسؤولية قيادة البلاد بأكملها. كما انه يمثل نهجاً سياسياً متوسطاً قد ينجح في توسيع القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري. والعبارة التي يستعملها جورج دبليو هي "المحافظة العطوفة" Compassionate Conservatism ففي اطار شعاره، يؤكد جورج دبليو انه ما زال مثابراً على الخط المحافظ الذي يلتزمه الحزب والذي يتلخص ادارياً في العمل على تقليص العبء الضريبي والحد من البرامج الحكومية لا سيما منها الاعانة الاجتماعية والتخصيص التفضيلي للأقليات العرقية، واجتماعياً في السعي الى حظر الاجهاض والدعوة الى التقيد بالقيم العائلية. غير انه يضيف انه يمكن تحقيق هذه الأهداف من دون ان يضفي على الحزب الجمهوري طابعاً من القسوة التي تتسبب بنفور العديد من الفئات الشعبية. الا ان هذا الشعار واجهته الاعتراضات من المعسكرين الجمهوري والديموقراطي على حد سواء. فالعديد من الجمهوريين يتذمرون من إلصاق تهمة القسوة بالخط المحافظ ويعتبرون انه اذغان وحسب للمسعى الشعبوي الديموقراطي الى احتكار زعم العمل للصالح الاجتماعي. اما خصوم جورج دبليو من الديموقراطيين، فيشيرون الى ان هذا الشعار لم يوضع موضع التنفيذ في ولاية تكساس التي يمسك جورج دبليو زمام الحكم فيها. اي انه يبقى شعاراً أجوف. ولا شك ان شعار "المحافظة العطوفة"، وكذلك شعار "المحافظة الشجاعة" الذي طرحته اليزابيث دول، وفي المقابل شعار الأولوية للتربية والعائلة الذي قدمه آل غور، تندرج جميعها في اطار السعي الى ايجاد الصيغة الخطابية القادرة على الاستقطاب في المعركة الانتخابية. ويلاحظ ان جورج دبليو بوش لم يحسم موقفه علنياً إزاء العديد من المسائل المطروحة على الساحة اميركية. بل انه قد اقر ضمناً بذلك عند الاعلان عن نواياه الانتخابية من خلال الاشارة الى ان زمن البرامج والنقاط التفصيلية سوف يأتي لاحقاً. وقد يكون هذا التلكؤ عائداً جزئياً الى رغبته بعدم الكشف عن مواقف يمكن لخصومه الاستفادة منها لاضعافه شعبياً. وبالفعل، فإن باتريك بوكانان، المرشح الجمهوري ذا النزعة الانعزالية، في أعقاب كلمة لجورج دبليو بوش تطرقت الى مسائل اقتصادية وعلاقات خارجية، سارع الى التشهير به عبر اسقاطه في خانة "النظام العالمي الجديد" الذي كان والده جورج بوش قد نادى به، والذي كان بوكانان قد امعن في ادانته وتحميله مسؤولية تردي اوضاع العمال الاميركيين. الا ان تريّث جورج دبليو يعود كذلك الى افتقاده الى التنظيم الانتخابي المتكامل، كما يتبين من نجاح احدى المجموعات المحافظة في استدراجه الى التوقيع على تعهد بعدم رفع الضرائب في حال فوزه بعد يوم واحد فقط على اعلانه انه لن يعمد الى تقديم الوعود الانتخابية. وقد يعود التريث كذلك الى ادراكه ضرورة الاطلاع التفصيلي على المواضيع قبل الخوض في مناقشتها امام الملأ. فعند تعليقه على عملية حلف شمال الاطلسي في البلقان، كشف جورج دبليو عن عدم المامه بالموضوع عند استعماله تسميات خاطئة للشعوب المعنية. بل يلاحظ كذلك ان جورج دبليو يفتقد الحنكة السياسية احياناً. فعلى سبيل المثال، قد اغضبه احد مواقع الانترنت لانتحاله اسمه تهكماً، فعمد الى الدعوة الى وضع حدود للحرية والى تشبيه القائمين بهذا الموقع برجال جمع النفايات. معيداً الى البعض ذكرى تهمة التعالي عن عامة الناس التي رافقت والده، مع التساؤل هل ان جمع النفايات مهنة تستحق الذم؟ والواقع ان هذه الحوادث، على ضآلتها موضوعياً، تكتسب اهمية كبيرة، ذلك ان السمعة الشعبية لجورج دبليو ما زالت تقوم على الشكل من دون المضمون. وثمة عقبات ينتظر ان تواجه سمعة جورج دبليو بوش مع نجاح الصحافة في تفصيل سيرته السابقة. فعلى الرغم من اصراره على المحافظة على خصوصيته، تسربت الروايات حول ادمانه على الكحول، وتعاطيه المخدرات بالماضي. كما ان دوره في الانتكاسة المالية لاحدى الشركات التكساسية التي تولى ادارتها من شأنه ان يعود اليه في المواجهات مع منافسيه. فالمطلوب بالنسبة الى جورج دبليو بوش هو ان يحقق نجاحاً أولياً في الانتخابات لحزبية التحضيرية في ولاية أيوا، مطلع العام المقبل، وذلك قبل بروز ما يؤدي الى تردٍ كبير لسمعته يخلط له الأوراق. ويبدو انه في طريقه الى هذا النجاح، اذ على الرغم من العدد الكبير للمرشحين الجمهوريين، يبدو انه الوحيد الذي يجمع الشهرة والمال ومن ثم احتمال الفوز في مواجهة آل غور. غير ان الحديث عن حتمية انتصاره وفوزه بالمنصب الرئاسي لا يزال مبكراً جداً.