كائناً من كان الفائز، فإن التاريخ السياسي الاميركي الذي تحفظه الذاكرة لم يسجّل تعادلاً بين القوتين المتنافستين كالذي سجّلته انتخابات الثلثاء الماضي. ومجرد ان ننتظر الحسم في ولاية فلوريدا الكبيرة، والتي ظُنّ قبلاً أن أمرها قد حُسم، لهو دليل على هذا التعادل وعلى حدّته. فأميركا جورج دبليو بوش تقف في مواجهة أميركا آل غور أنفاً على أنف. الأولى رجالية أولاً والثانية نسائية أولاً، وقد عملت سياسات الديموقراطيين المؤيّدة لحرية المرأة في الخيار ولتقييد استخدام السلاح الفردي على رفع الاستنفار النسائي لمصلحة غور. والأولى بيضاء وبروتستانتية وغنية أساساً، والثانية ملوّنة ومتعددة الأعراق والأديان وأقل غنى، فضلاً عن صلتها الوطيدة بالنقابات. وأميركا بوش، وبحسب ما عكس التصويت، هي اميركا الداخلية لا سيما في الغرب الاوسط. وهذا يعني عزلة اكبر عن العالم الخارجي وارتباطاً اكبر بالقطاعات الاقتصادية التقليدية، الزراعية والصناعية القديمة والنفطية. اما اميركا غور فهي الاكثر ساحلية واطلالاً على الخارج واستقبالاً للمهاجرين منه، وهي كذلك معاقل الاقتصاد الجديد، الدائر حول الكومبيوتر والانترنت ومتفرعاتهما مما يرتبط صعودها بالعهدين الديموقراطيين لبيل كلينتون، وباسم آل غور شخصياً الى حد بعيد. والولايات التي كسبها الاخير ولايات كبرى واكثر مدينيةً من تلك الصغرى التي تصوّت للجمهوريين فيما يغلب عليها الطابع الريفي. وفي المقابل لم ينجح الجمهوريون في ان يحصدوا اصوات المُسنّىن المعروفين عادة بالمحافظة، اذ اشمئز كثيرون منهم من نية جورج دبليو خصخصة الضمان الاجتماعي. ولم يخل أمر المعركة من صور ورموز ومثالات. فقد مثّل غور، الذي أُخذ عليه جمود حركته وجسمه وقلة جاذبه الشخصي، الخبرة السياسية فيما مثّل حاكم تكساس، الذي أُخذت عليه الضحالة وكونه مجرد ابنٍ لأبيه الرئيس السابق جورج بوش، "ابن البلد" الذي يشبه الجار الاليف بعفويته وسذاجته. واذا ما احالت هاتان السذاجة والعفوية الى الصورة النوستالجية للاميركي الميثولوجي في "الغرب"، فإن غور يحيل الى الانجازات المنفتحة على العالم كما تجسدت في عهده وعهد كلينتون: نافتا ومنظمة التجارة الدولية، واهم من ذلك كله الفائض النوعي والتقدم الاقتصادي اللذان تحققا. وليس قليل الدلالة اطلاقاً أن السخافات، بما فيها قضية مونيكا لوينسكي وفضائح بيل كلينتون الجنسية، تراجعت كثيراً لمصلحة الخلافات الفعلية بين المرشحين. وفي الاطار هذا جاء الاقبال الكثيف نسبياً على التصويت، وهو ما شجّع عليه الاعلام، راغباً ام غير راغب. ذاك ان الإلحاح على هزال الفارق بين ما سيناله المرشحان جعل كل فرد يشعر ان صوته مهم وان للسياسة دوراً لا يزال فاعلاً. واذا ما اصاب نقّاد دور المال الذين تحدثوا مراراً وتكراراً عن انفاق ثلاثة بلايين دولار على الحملة، بقي ان بليون الديموقراطيين كانت فعاليته بمثل فعالية بليوني الجمهوريين. لكن لماذا التعادل بين الاميركتين؟ فبعيداً عن استقصاءات الرأي السريعة التي سبقت المعركة، كانت الولاياتالمتحدة قد قدمت في الأشهر الاخيرة اشارات عدة مفادها ان اميركا الجديدة بدأت تغلب القديمة. فالراغبون في تقييد السلاح ومراقبة البيئة وتفعيل الضمان الصحي في تزايد، والمتمسكون بالانجازات الاقتصادية لعهد كلينتون - غور في تزايد ايضاً. وهذه النتيجة انما انعكست في اوضح صورها في معركة هيلاري كلينتون لعضوية مجلس الشيوخ في نيويورك. فهيلاري تمسكت بالجوهري واهتمت بالمواضيع الجدية من دون ان ترضخ للابتزاز "الاخلاقي" ممثلاً في فضائح زوجها والاستخدام الجمهوري لها. هكذا احرزت السيدة الاولى ما احرزته من دون ان تفصل نفسها عن الرئيس وعن رصيده. وهذا، بالضبط، ما لم يفعله غور الذي خضع للابتزاز بالشكليات، ففصل نفسه عن رئيسه، واضعف بالتالي صلته بالانجازات التي كان له هو شخصياً دور اساسي فيها. وتولى ترشيح رالف نادر عن حزب الخضر باقي المهمة. فقد نجح نادر في احراز 3 في المئة من الاصوات انتُزع معظمها من الحزب الديموقراطي، لا سيما في ولايات مثل أوريغن. ذاك ان روح النادرية تسكن اقصى اليسار الديموقراطي الذي خلّفه وراءه انتصار الوسط في حزب كلينتون وغور. وانجاز الخضر هنا انما تجسد في سحب اقصى اليمين ممثلاً بحزب الاصلاح ومرشحه بات بوكانان من صدارة التمثيل الهامشي، الا انه إنجازٌ لا يُقارن بالخسارة التي هي تثبيت التعادل الكابح واضعاف غور وربما اطاحته ما لم تنجده فلوريدا. اما المتابع العربي والشرق الأوسطي فقد ينفّره ان لا يسمع في هذه المعمعة اسم اسرائيل او فلسطين او العرب او اليهود. لكن هذا النفور سيصيب المتابع الروسي او الصيني او الاوروبي ايضاًَ. فعند الجدّ لا تبقى، في اميركا، إلا اميركا.