لا يبدي سكان المناطق المحررة في جنوبلبنان حماسة للاستعدادات القائمة للاحتفال بالذكرى الأولى لتحرير أرضهم، كالحماسة التي يتمتع بها المسؤولون السياسيون والمقيمون خارج قراهم بعدما غادروها خلال 22 سنة من الاحتلال الإسرائيلي. فالهدوء الذي يخيم ثقيلاً على البلدات والقرى المحررة تقطعه أصوات معاول تعمل على ترميم أو تشييد منازل متفرقة في بعضها، لا يتآلف مع ما يفترض ان تكون عليه الحال بعد مرور سنة على التحرير. سيدة تعيش في مرجعيون تحفظت عن ذكر اسمها وقفت امام منزلها المطل على ساحة البلدة عند الغروب، وقالت بحسرة: "في مثل هذا الوقت تكون الساحة تعج بالناس والسيارات، لم يعد هناك أحد، كانت السهرات يومية، اليوم نغلق أبوابنا ونتوارى خلفها". وتشاركها الرأي السيدة نازك شديد، وهي خياطة، لأنها كما قالت "لم تمسك الإبرة منذ ستة أشهر إذ لم يعد هناك لا أفراح ولا مناسبات". والانطباع يكاد يكون نفسه في بنت جبيل، فالشاب ابراهيم سعد القلق على مستقبله بعد التخرج يعلّق على أوضاع بلداته التي لم يغادرها قط: "تحررنا منذ سنة ومياه الشفة لم تصل الى بيوتنا، وطرقنا الداخلية محفرة ولا بنى تحتية. أما المدارس فلا مختبرات ولا كومبيوتر ولا ملاعب رياضية ولا نشاطات نقوم بها بعد الدراسة". وما يقلق المهندس الزراعي ضياء يونس في بلدة الخيام "عدم توفير الدعم الرسمي للمزارعين لجهة البذور والأسمدة وتصريف الإنتاج في ظل المنافسة الخارجية ما يدفع المزارعين الى التفتيش عن عمل آخر له مردوده المالي غير الزراعة والخوف كل الخوف من نزوح الناس عن أرضهم التي صمدوا فيها". يعيش أبناء القرى المحررة خيبة امل "فالعودة الى أحضان الوطن"، على ما يقول مدير مشروع برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في جنوبلبنان التابع للأمم المتحدة محمد مقلد "افترضت توقعات كبيرة لدى الناس، إلا أن المردود بعد مرور سنة لم يوازِ التوقعات". لا يخفي أبناء هذه البلدات والقرى كلاماً كان يقال في السر عن "أن الوضع أيام الاحتلال كان أفضل". ويعترف عدد كبير منهم بأن المنطقة كانت تعيش في فوضى، لكنها فوضى تدر الأموال، أكان لجهة التهريب يميناً ويساراً، أو العمل في إسرائيل. لكن الثمن كان باهظاً، ففي مقابل كل عامل، شقيق أو أب يخدم في "جيش لبنانالجنوبي" الموالي لإسرائيل، ومن بقي في هذه المناطق من غير المنتفعين هم الفقراء من غير العملاء ولا المهربين وهؤلاء لم تختلف أوضاعهم في شيء. بل إن "التحرير" كشف مدى العزلة التي عانوها ولا يزالون. ويشير صاحب محل يبيع الصحف في بلدة بنت جبيل الى "أن قلة تشتري الصحف اللبنانية على رغم توافرها في المنطقة وقلة من اعتادت مجدداً التنقل من ضيعة الى أخرى، بعدما كان هذا الأمر ممنوعاً في زمن الاحتلال من دون ايضاح سبب ذلك لعناصر الجنوبي". وحديث الأهالي في مرجعيون ليس إيجابياً عن أحوالهم. البعض يتحدث عن بطالة تطرق الأبواب بقوة وتفكير بالهجرة وعن "سياسة اخترقت برامج الدعم بتفضيل منطقة على أخرى"، على ما قال المحامي اميل جبارة. أما متروبوليت صيدا وصور ومرجعيون المطران الياس كفوري، وإن كان يعبر في كل مناسبة عن "سعادة الجميع بالتخلص من نير الاحتلال"، فيرى "أن الحاجات كثيرة والوعود التي أعطيت منذ يوم التحرير لم يوفَ بها، لكي يبقى الناس في بيوتهم وأرضهم التي أحبوا وضحوا من اجلها". سنة مرت على التحرير والوضع الاقتصادي يتفاقم والأسئلة كثيرة عن مصير مساعدات وقروض منحت باسم الجنوب المحرر وشكوك تحوم حول طريقة صرف الأموال، وهل يشبه مصيرها مصير مساعدات كثيرة سابقة قدمت باسم الجنوب. وتقول السيدة وفاء شرف الدين، منسقة برنامج يتعلق بإنماء المناطق المحررة والمتاخمة ينفذه مجلس الإنماء والإعمار: "منذ إقرار البرنامج المتكامل في حزيران يونيو الماضي، كان واضحاً ان نبدي التنمية الاجتماعية والاقتصادية من البرنامج لا يمكن تنفيذهما بواسطة الآليات الخاصة بالقطاع العام وحده، بل علينا التنسيق مع الهيئات الوسيطة المعنية في مجالات هذه التنمية وبناء القدرات من أجل التعاون معاً ضمن إطار عمل منظم لتأمين مشاركة هذه الهيئات والمنظمات في مختلف مراحل التخطيط والتنفيذ، والإفادة من خبراتها في مجال التعاطي المباشر مع المجتمعات المحلية". إلا أن آلية العمل الجديدة لم تقر بعد، لأن مجلس الإنماء والإعمار، على ما تقول شرف الدين، "يعمل لتحضير الآلية على المستوى الوطني لا على مستوى الجنوب فقط في إطار مشروع الصندوق الاجتماعي الاقتصادي الذي تموله المجموعة الأوروبية والذي سيشكل إطاراً مهماً ودعماً كبيراً للعمل مع الهيئات غير الحكومية المحلية". وينفذ مجلس الإنماء والإعمار مشروعاً مشتركاً مع برنامج الأممالمتحدة الإنمائي كجزء من مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، محوره: دعم التعاونيات الزراعية والتنمية المحلية ودعم النشاطات الشبابية في المناطق المحررة ودعم مشاريع اقتصادية لإدماج المحررين، وهي يمول الآن بنحو مليوني دولار مناصفة من برنامج الأممالمتحدة والمجلس، ويعطي الأولوية للمشاريع الصغيرة لدعم بقاء السكان في أراضيهم. كان على السيدة شرف الدين ان ترد على انتقادات يوجهها ممثلو الجمعيات الأهلية العاملة في المناطق المحررة التقوا للبحث في التنمية في جنوبلبنان وتبادلوا هواجسهم في شأن ربط الدول المانحة للمساعدات الأمر بالمشكلتين الأمنية والسياسية في المنطقة، وكانت ملاحظتها ان المشاريع المقترحة من الجمعيات الأهلية تفترض إعداداً لأن هناك أسلوباً في التعامل مع الهيئات الدولية". فالدولة لا تنظم عمل القطاع الخاص ولا يمكنها العمل مباشرة مع المنظمات الأهلية التي هي جمعيات صغيرة لا هيكليات واضحة لها كالمؤسسات والشركات، ما يجعلها تتحرك في اتجاه برنامج الأممالمتحدة الإنمائي الذي يحصر اهتمامه بتنمية البشر، وليس بالبنى التحتية التي هي مسؤولية الدولة. ويقول محمد مقلد: "عملنا يحتاج الى معرفة القرى والناس وأولوياتهم، وحرصنا على التركيز على مشاريع جماعية لكل بلدة ونحاول التأكد من صدقية الناس لدى التنفيذ، لئلا تتحول المشاريع، مشاريع خاصة بأفراد، لا بمجموعة. ومن حسنات المنطقة التي نعمل فيها وتشمل 73 قرية محررة وعلى التخوم، أنها لم تخضع للتجاذبات السياسية والحزبية بل هناك تعاون، مع نظرة الى برنامج الأممالمتحدة على أنه طرف حيادي". ويعمل البرنامج على إشراك القرى في تمويل المشاريع في شكل جزئي، على ألا تتكرر المشاريع في القرية الواحدة. ويقول مقلد: "مشاريعنا ترتكز على التنمية وتحتاج الى وقت كي تثمر، في حين يريد الناس في القرى رؤية المال ودفاتر الشيكات. هكذا يفهمون المساعدات ونحن نريدهم ان يتعلموا كيف يتدبرون امورهم بأنفسهم". في شحور والخيام وبنت جبيل ثمة مشاريع لدعم النحالين والمزارعين لإنتاج الكيوي، ونادٍ شبابي لتعريف الناشئة الى الكومبيوتر وشبكة "انترنت" ولو من طريق خطوط هاتفية بموجة "ميكروويف"، إذ ان لا خطوط هاتفية ثابتة في المنطقة حتى الآن.