يمتد الجنوباللبناني من نهر الأولي شمالاً الى الناقورة جنوباً مروراً بالخط الساحلي غرباً وجبل الشيخ شرقاً. مساحته حوالى 2045 كيلومتراً مربعاً، أي خمس مساحة لبنان. وتبلغ مساحة المناطق الجنوبية المحررة حوالى 850 كيلومتراً مربعاً، أي نحو 9 في المئة من اجمالي مساحة لبنان. ويمتد شريط القرى المحررة من بلدة الناقورة الساحلية مروراً بالقطاع الغربي حتى العديسة وكفركلا ومرجعيون، وصولاً الى حاصبيا في القطاع الشرقي، صعوداً الى سفوح جبل الشيخ. ويراوح عمق المنطقة بين 5 كيلومترات في منطقة شقرا وحولا و23 كيلومتراً في منطقة الريحان عرمتى. وتشمل، كلياً أو جزئياً، أقضية حاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل وصور والنبطية وجزين. ويبلغ عدد المقيمين في هذه المناطق نحو 125 ألف نسمة، وعدد المسجلين نحو 400 ألف، وعدد تجمعاتها السكنية نحو 87 بلدة وقرية، أهمها بنت جبيل وجديدة مرجعيون والخيام وحاصبيا. وتواجه المناطق المحررة في الجنوب والبقاع الغربي مشاكل بيئية جمة. فقد أحرقت الصواريخ والقذائف والقنابل الفوسفورية مساحات واسعة من الاحراج. وقطعت أشجار الغابات وبيعت حطباً وفحماً، وأتلفت وأحرقت بساتين الحمضيات والزيتون والتين والعنب والتفاح وغيرها من الأشجار المثمرة. ويقول الحاج عبدالحسين ناجي، 79 عاماً، من بيت ياحون، وعلى وجهه ملامح القهر والغضب: "لم يسمح لنا المحتلون بالذهاب الى كرومنا على أطراف البلدة، فبارت ويبست. وكنا معرضين للتعذيب الجسدي والمعنوي في كل لحظة. واذا أردنا أن نرعى مواشينا في الحقول المجاورة، كانوا يقفون لنا بالمرصاد. وخشية تسلل عناصر المقاومة، عمدوا الى حرق الأحراج وجرف الأشجار المثمرة لتصبح الأراضي مكشوفة". وأضاف علي نسيم مخزوم، وهو من الجيل الجديد العائد الى البلدة: "بيت ياحون محرومة حتى منذ قبل الاحتلال. وجاء الاحتلال فأكمل دائرة البؤس. لقد أحرق العدو مساحات واسعة من بساتين الزيتون وكروم العنب المحاذية للطرق وحولها الى ممرات لآلياته العسكرية". وما زالت حقول الألغام قائمة في أماكن كثيرة. ويوماً بعد يوم ينفجر لغم أو أكثر فتزهق روح أو تبتر ساق، كما حصل في بلدة برعشيت في الاسبوع الماضي. وأحدثت القوات الاسرائيلية شبكة من الطرق الواسعة في أراض مملوكة، من دون ارادة أصحابها، وجرفت التربة على مسافة أمتار من جوانبها، فأزالت الأشجار والنباتات والصخور للتقليل من فرص حدوث هجمات المقاومة، ما أحدث انزلاقات للتربة في كثير من الأماكن. وتقدر مساحة هذه الطرق بمئات الكيلومترات المربعة. كذلك شقت شبكة من الطرق العسكرية كانت تربط بين مواقع الاحتلال، فضلاً عن عدد من الطرق الترابية الفرعية. واستفاد البعض من هذه الطرق لأنها رفعت أسعار أراضيهم، لكن كثيرين آخرين خسروا أملاكهم بسببها وهم يطالبون بتعويضات. السرقات لم يغفل المحتل عن تربةالجنوباللبناني الخصبة، فنهشت جرافاته مساحات منها، كما في الطرف الجنوبي لسهل مرجعيون مقابل المطلة، وتولت شاحنات اسرائيلية نقلها عبر الحدود. واستحالت هذه الأراضي حفريات عميقة تتجمع فيها المياه الآسنة فتغدو مرتعاً للذباب والبعوض. وأفاد مواطنون من بلدة الخيام أن سرقة التراب كانت تحدث عادة بعد الغروب. وواصلت قوات الاحتلال سرقة كميات من تربةالجنوب حتى بعد أيام من التحرير، فضلاً عن سرقة كميات من التربة الخصبة من مزارع شبعا المحتلة. ولعل في سرقة التراب الجنوبي، الذي أحيل بساتين غناء في الجهة المقابلة من الحدود، ما يستنهض الهمم ويحفز على استغلال أراضي الجنوب المعطاء بطريقة تؤمن للاهالي أسباب العيش والبقاء. ولم يكتف المحتل بسرقة التراب، بل عمد أيضاً الى سرقة رمول الشاطئ. ويقال ان "شفاطات" بأحجام مختلفة سحبت رمول معظم المنطقة الساحلية التي كانت خاضعة للاحتلال. ومعروف أن الرمول تؤوي أعداداً هائلة من الكائنات الدقيقة التي تعمل على تنقية مياه البحر من الملوثات. كما أن الامتدادات الرملية بين صخور الشاطئ تشكل ملاذات لكثير من الكائنات البرية والبحرية. وخسارة هذه الرمول تفقد الشواطئ قيمتها الجمالية والسياحية والبيئية والاقتصادية. ووضع المحتل يده على مياه الحاصباني ورافده الوزاني. ويقول المحامي طارق شهاب من حاصبيا ان اسرائيل أقدمت عام 1989 على مد أنابيب بقطر ست بوصات من نبع العين المتفرع من نهر الجوز في شبعا، وهو أحد روافد نهر الحاصباني، بحجة تزويد منطقة حاصبيا بالمياه. وكانت سيطرت في أواخر السبعينات على خزان مياه جوفي كبير تحت سفح جبل الشيخ قرب مدينة المجيدية، ومنعت المزارعين من فتح آبار جديدة بلا اذن. كما تحكمت بمجموعة من الآبار الارتوازية في مرج الخوخ قرب ابل السقي في القطاع الشرقي. وما زالت تضخ المياه من نهر الوزاني داخل الحدود اللبنانية وتسحبها بواسطة أنابيب الى داخل حدودها، علماً ان قرية الوزاني المجاورة للنهر بقيت محرومة من تمديدات مياه الشفة والصرف الصحي. وكما في مناطق لبنانية أخرى، تطالع زائر الأراضي المحررة بصمات التخريب والتشويه التي تركتها المرامل والكسارات. فمن بعيد، وأنت على منعطفات نهر الليطاني متجه الى القطاع الشرقي، تلوح المرامل التي عرت رؤوس الهضاب فأحالتها الأمطار انهيالات اجتاحت السفوح. أما الكسارات فقد تولت نهش الجبال مشوهة معالمها ونافثة الغبار في الأجواء، ملحقة الضرر بالانسان والحيوان والنبات. وتبدو بساتين الزيتون والأراضي الزراعية القريبة وقد غطتها طبقة من الغبار الأبيض الذي يقضي على أي أمل بمحصول. ويتراوح المشهد بين مواقع أخلتها الكسارات بعد أن أمعنت فيها تخريباً وتشويهاً، كما هي الحال عند مفترق طريق مرجعيون الخيام، ومواقع توقفت عن العمل بعد زوال الاحتلال كما في الناقورة، ومواقع ما زالت تعمل كما في الهضاب الواقعة شمال غرب بلدة ابل السقي حيث فتحت ثغرة سحيقة، وكسارات جزين التي ما زالت تلحق الاضرار بالغابات وقنوات الري والينابيع والمياه الجوفية والمزروعات. وكانت الشاحنات التابعة لأصحاب بعض الكسارات دأبت على جمع الحجار من المشاعات والأراضي الزراعية المملوكة، وحتى الحجار التي بنى بها المزارعون أسواراً لممتلكاتهم، فاختفت حدود تلك الأراضي وأزيلت معالمها وباتت عرضة للتعديات والعوامل الطبيعية. وبعد نفاد الحجار هناك، اتجه المنتفعون الى الجبال والهضاب فقطعوا أوصالها وشوهوا مناظرها وقضوا على أخضرها. الطرق والبنى التحتية ألحق الاحتلال الاسرائيلي أضراراً بالغة بشبكات الطرق ومياه الشفة والصرف الصحي والكهرباء والهاتف. ويقول المهندس جان مخايل، نائب رئيس مجلس الجنوب، ان عملية العودة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بعملية اعادة بناء ما تهدم واصلاح ما تضرر من مساكن وبنى تحتية ومرافق عامة وتأمين جميع مستلزمات هذه العودة بصورة سريعة وفورية يستدعي جهوزية تامة واستثنائية لتلبية المتطلبات. ويبلغ طول طرق الجنوب المحرر نحو 650 كيلومتراً من 1600 كيلومتر لكامل الجنوب. وهي مقسمة الى طرق دولية ورئيسية وثانوية اضافة الى طرق الأمر الواقع. وأفاد مدير عام الطرق والمباني المهندس فادي النمار، ان شبكة الطرق العامة هذه لم تلقَ من الصيانة والاهتمام خلال سنوات الاحتلال الطويلة الا بقدر ما سمحت به الظروف. وتعرضت للتخريب، الناتج ليس فقط عن العوامل الطبيعية والسير العادي، بل أيضاً عن مرور الآليات العسكرية والشاحنات الثقيلة. وطرق الأمر الواقع هي تلك التي شقتها قوات الاحتلال خلافاً للأصول والقوانين الدولية واستخدمتها لربط المواقع العسكرية أو لاختصار المسافات بين القرى. وأضاف النمار: "أن المديرية العامة للطرق والمباني أعدت خطة للتحرك السريع فور جلاء الاحتلال تتضمن ثلاث مراحل: الأولى، صيانة طارئة وسريعة لجميع الطرق الرئيسية المؤدية الى المناطق المحررة. والثانية، إصلاح وتعبيد وتوسيع ما كان يسمى المعابر الرئيسية وهي الحمرا وبيت ياحون وكفرتبنيت وكفرحونة وزمريا، وكذلك مداخل القرى والطرق التي تربط بين القرى والاقضية وطرق الأمر الواقع. والثالثة، ربط هذه الطرق بعضها ببعض وببقية أجزاء البلاد مساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد". وتم تأمين التيار الكهربائي بعد زوال الاحتلال الى أكثر من 40 قرية محررة. وبقي من دون شبكات بعض المزارع والقرى المهدمة وغير الآهلة، ومنها المجيدية والدمشقية والمحمودية وجانين ومليخ وسجد. وأدى الاحتلال الى تدمير شبه كامل لشبكة الاتصالات. وأنشئت سنترالات خاصة متصلة في ما بينها بشبكة كانت تدخل على الهاتف الثابت عبر بعض الخطوط السلكية والخليوية. ويقول المهندس ناجي اندراوس، مدير عام الهاتف، ان بعض هذه السنترالات كان موصولاً بشبكة الهاتف الاسرائيلية، وقد تم تفكيكها بالتنسيق مع الأجهزة الامنية. وكانت الخدمة الهاتفية الرسمية ما زالت تصل الى بعض المواطنين عبر شبكة نحاسية عشوائية ممدودة على الجدران والأعمدة. أما مشكلة جمع النفايات الصلبة والتخلص منها فهي واحدة في المناطق المحررة كما في بقية الجنوب، بل كما في معظم القرى والبلدات اللبنانية. ومن يتجول في المناطق التي جلا عنها المحتل يلاحظ النفايات مرمية بصورة عشوائية على جوانب الطرق وفي الوديان وعلى ضفاف الانهار وقرب الشواطئ. ويقول مدير الهيئة الصحية الاسلامية في النبطية مالك حمزة، ان هذا نتيجة عدم وجود مكبات أو معامل فرز، كما أن صعوبة تحرك السكان منعتهم من رمي النفايات بعيداً عن الطرق، علماً أن ليست هناك بلديات في كثير من القرى المحررة. وأشار مختار ابل السقي يوسف سعادة، الى أن نفايات البلدة يجمعها متعهد وينقلها في شاحنة صغيرة الى مكان بعيد. ولم يخف قلقه مما قد تلحقه هذه النفايات بمجاري المياه ومصادر المياه الجوفية. وأكد أن الحال كذلك في معظم البلدات والقرى، مطالباً بأن تقام في جميع المناطق مراكز لجمع النفايات واعادة فرزها والتخلص منها بطرق سليمة، كمركز معالجة النفايات في بلدة كفرصير الجنوبية حيث تجمع نفايات البلدة وتفرز وترسل لاعادة التصنيع، ويحول العضوي منها سماداً. وفضلاً عن النفايات البلدية، هناك كميات كبيرة من الخردة والمخلفات العسكرية التي تركتها قوات الاحتلال في المواقع التي انسحبت منها. وهي تشكل خطر تلوث على المزروعات والمياه الجوفية. ومن أبرز المشاكل التي تعاني منها المناطق المحررة، ومعظم القرى اللبنانية، غياب شبكات الصرف الصحي، ما دفع الأهالي الى اقامة حفر "صحية" مخالفة للقوانين وغير مستوفية للشروط البيئية والصحية. وكثير منها تتسرب مياهه عميقاً في الأرض فتلوث مصادر المياه الجوفية والينابيع المجاورة. وهناك شبكة للصرف الصحي تشمل عدداً من البلدات والقرى وتنتهي عند مدينة النبطية. لكنها تصرف مياهها في البرية من دون تكرير، ما يشكل مصدر تلوث وبؤرة أمراض. وأفاد مواطنون من حاصبيا أن شبكة مياه الصرف الموجودة في البلدة عمرها أكثر من 40 سنة، وهي تصرف نفاياتها في وادٍ مجاور من دون معالجة. والنفايات الصلبة تجمع وتلقى مكشوفة في غابة لأشجار السنديان تدهورت حالتها بسبب الحرائق وارتشاح سوائل النفايات داخل التربة. ويتحدث مسؤولون في مجلس الانماء والاعمار عن تحديث المخطط التوجيهي للصرف الصحي الذي أعد عام 1994 وحددت فيه الحاجة الى انشاء محطات وأحواض لمعالجة المياه المبتذلة. وقد وضعت وزارة الشؤون البلدية والقروية خططاً لشبكات الصرف الصحي لتغطية جميع الأراضي اللبنانية، على أن يتم التمويل من الصندوق البلدي المستقل. ويحتضن الجنوب والبقاع الغربي عدداً كبيراً من المواقع الأثرية والطبيعية القابلة للاستثمار السياحي، ومنها قلعة الشقيف المميزة بموقعها الطبيعي على قمة جبل شقيف ارنون الذي يمتد على سفحه الشرقي نهر الليطاني بمحيطه الطبيعي الجذاب. وهناك أيضاً قلعة دوبيّة في وادي السلوقي بين بلدتي حولا وشقرا، وقلعة شمع في بلدة شمع المشرفة على سهل صور الزراعي وشاطئ البحر، وموقع أم العمد في بلدة الناقورة ، وقلعة تبنين، وقلعة دير كيفا. وقد أصابت قلعتي الشقيف وشمع أضرار جسيمة بفعل الاعمال الحربية خلال فترة الاحتلال. ويقول المهندس فريدريك الحسيني مدير عام الآثار: "بعد معالجة الأمور الطارئة في هذه القلاع، يجب وضع خطة شاملة تراعي السياحة الثقافية والتراثية وتتكامل مع الطاقات الزراعية والمهنية، بحيث توفر للمنطقة تنمية مستدامة وازدهاراً اقتصادياً صحيحاً. مياه الشفة يتغذى الجنوب بالمياه من أربعة مشاريع كانت تغطيه بكامله تقريباً، وهي مشروع نبع الطاسة وتوابعه الذي يؤمن مياه الشرب للنبطية وقضاءي الزهراني وجزين، ومشروع مياه صيدا الذي يغذي مدينة صيدا وبعض القرى في محيطها، ومشروع مياه جبل عامل الذي يغطي قضاءي مرجعيون وحاصبيا وجزءاً من قضاءي بنت جبيل وصور، ومشروع مياه صور وملحقاتها وهو يغطي مدينة صور وقضاءي صور وبنت جبيل وجزءاً من قضاء مرجعيون. وألحقت قوات الاحتلال أضراراً كبيرة بهذه المشاريع ومصادر مياهها. فنبع الطاسة، ومعدل تصريفه 30 ألف متر مكعب يومياً، تعرض لقصف مستمر لوجوده في الوادي الذي يفصل عربصاليم عن جبل صافي ومنطقة جزين، وتزعزعت منشأة الحصر ولم يعد النبع يصرف أكثر من 10 آلاف متر مكعب يومياً. أما آبار وادي النبطية فخرالدين التي بوشر حفرها عام 1992 فقد أكملها مجلس الجنوب لتعويض المياه الضائعة في نبع الطاسة، وتتراوح كمياتها بين 10 آلاف متر مكعب و15 ألفاً يومياً تضخ الى النبطية والكفور وكفرجوز والى الخزان الاقليمي في شوكين الذي تصب فيه مياه نبع الطاسة أيضاً. وهناك مصادر أخرى تغذي هذه المشاريع، منها نبع غريبة الفوقا الذي يغذي جزين وبعض القرى المجاورة، ونبع الزرقا الذي كان يبشر بكميات وافرة من المياه، انما غارت أكثرية مياهه اثر زلزال 1956 ولم يعد بالامكان الاعتماد الا على نحو 500 متر مكعب في فصل الشحائح. وهنالك عدد من الآبار التي حفرت في القرى أيام الأحداث والاحتلال، كما في كسيناي والزرارية والشرقية وجبشيت وجزين. ويقول المهندس بسام جابر، مدير عام الاستثمار سابقاً في وزارة الموارد الكهربائية: "ان هذه المصادر اذا ما أخذت واحدة واحدة فانها لا تذكر مقارنة مع نبع الطاسة وآبار وادي فخرالدين، ولكن لا يستهان بها اذا ما جمعت". الواقع أن كثيراً من قرى المناطق المحررة محروم من شبكات توصيل المياه الى المنازل. واستعاض عنها الاهالي بخزانات وآبار غير صحية تجمع فيها مياه الأمطار. ويقول مدير الهيئة الصحية الاسلامية في مدينة النبطية مالك حمزة، ان هذه القرى ينتشر فيها ما يعرف بالبئر الجَمْعية التي يستخدمها الاهالي للشرب والخدمة. وهي تبطن من الداخل بطبقة من الاسمنت، وتقام الى جانبها حفرة للصرف الصحي. ولكن نتيجة القصف ومرور الآليات العسكرية الثقيلة قرب البيوت، تشققت الآبار وتسربت اليها مخلفات حفر الصرف، فتفشت أمراض جلدية وأمراض الجهاز الهضمي الناتجة عن تلوث المياه. والمياه مقطوعة عن 13 قرية في القطاع الاوسط كانت تغذيها إمدادات اسرائيلية انقطعت بعد الانسحاب. ويلاحظ الزائر حركة غير اعتيادية لصهاريج المياه. ويلجأ كثيرون الى شراء المياه المعبأة على رغم الضائقة المعيشية. وقد تم أخيراً ضخ المياه من آبار صديقين عبر محطة كفرا الى الخزان الرئيسي في بنت جبيل، لتسحب منه الى قرى بنت جبيل وعين ابل ورميش ويارون ومارون الراس وعيناتا وكونين وبيت ياحون والطيري وصربين. ويشك الأهالي في سلامة مياه الآبار والينابيع بعد كل الانتهاكات البيئية التي حصلت، ويطالبون بالكشف على مصادر المياه وبحفر آبار ارتوازية آمنة ومد شبكات منها تؤمن المياه للبيوت اسوة بمناطق أثبتت فيها هذه الآبار جدواها. الزراعة ومياه الري ويتمتع جنوبلبنان بعدد من الأنهر التي يرى كثيرون أنها من أهم أسباب الأطماع الاسرائيلية في أرضه. الأنهار الرئيسية هي الحاصباني الذي يعتبر من روافد نهر الأردن، والوزاني الذي يصب في فلسطين، والليطاني الذي يصب بالقرب من صور. ويقول استاذ البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية الأميركية جان شاتيلا ان "مياه الليطاني عالية الجودة بمعدل ملوحة أقل من 20 جزءاً في المليون، لكن كمية التلوث التي أصابته عالية جداً، خصوصاً في السنوات الأخيرة حيث صبت مياه المجارير في مجراه". ويتسم الاقتصاد الجنوبي باعتماده الكبير على القطاع الزراعي. وكان هذا القطاع الخاسر الأكبر خلال فترة الاحتلال الاسرائيلي، خصوصاً لما أصاب المنطقة من تبوير وجرف الأراضي الزراعية وتدمير البنى التحتية ونزوح الأيدي العاملة الزراعية وهروب رؤوس الأموال، بحسب قول الباحثة الاقتصادية كوثر داره. وعلى رغم ذلك، شكلت الزراعة مورداً اقتصادياً مهماً للمناطق التي رزحت تحت الاحتلال، وكانت تساهم بنصيب وفير من دخل الأسر التي صمدت. فقد شكلت العمالة الزراعية نحو 17 في المئة من اجمالي القوى العاملة في منطقة النبطية التي كان معظمها تحت الاحتلال، في مقابل 9 في المئة على الصعيد الوطني. ويتميز القطاع الزراعي في الجنوب بوفرة المياه وبوجود مساحات واسعة عالية الخصوبة، من أهمها السهل الجنوبي وسهل مرجعيون ووادي الحاصباني. ومن ناحية أخرى، تقول داره ان الزراعة في الجنوب تتسم بالعديد من نقاط الضعف، أبرزها الكلفة الاستثمارية العالية لانشاء البنى التحتية، ولا سيما مشاريع الري، ومحدودية الانتاجية من حيث استخدام المكننة الزراعية الحديثة، واعتماد المعايير والمواصفات المطلوبة للتصدير، وانعدام سياسات التسويق، وصعوبة الحصول على مواد أولية بنوعية وأسعار تنافسية، وتجزئة الأراضي بصورة مفرطة ما يؤدي الى تراجع ملحوظ في جدوى الاستثمار الزراعي، والانتشار الواسع لزراعة التبغ التي تتميز بمردود مادي متدن، والمنافسة مع الدول ذات الأيدي العاملة الرخيصة وتلك التي تملك زراعة أكثر انتاجية. وتدعو داره الى استراتيجية شاملة لتنمية الزراعة في الجنوباللبناني، تقوم على استكمال مشاريع الري، وتحديث وسائل الانتاج الزراعي، ومواجهة مخاطر السوق بتنويع الزراعات، وتنمية القطاع الحيواني وتطويره، واعادة النظر في جدوى الاستمرار بتشجيع زراعة التبغ غير المجدية اقتصادياً، وتأهيل الأيدي العاملة الزراعية، وتحسين أداء القطاع الزراعي عن طريق ضم الأراضي، وتنمية الصناعات الزراعية الغذائية، وتحديث وسائل التسويق، واعتماد المعايير، وترويج العلامات التجارية. الخراب والبوار اللذان ألحقتهما قوات الاحتلال بالاراضي الزراعية ماثل للعيان في كل مكان. وأشار راعي أبرشية الروم الكاثوليك في جديدة مرجعيون المطران انطوان الحايك الى "أن القوات الاسرائيلية جرفت، لأسباب أمنية، 300 شجرة زيتون من أيام الأمير فخرالدين من عقار تابع للوقف وسحقت آلياتها 100 دونم من الأراضي الزراعية. كما جرفت وأحرقت مساحات أخرى واسعة من الاراضي الزراعية وبساتين الزيتون، وكسرت أنابيب المياه، وشوهت الأرض ومحت معالمها في مواقع عدة، ما رتب خسائر مادية كبيرة". وقال راعي أبرشية الروم الأرثوذكس المطران الياس الكفوري ان "اعادة تأهيل الأراضي التي خربها الاحتلال تحتاج الى أموال طائلة، وقد ألحق هذا الخراب خسائر اقتصادية كبيرة بالسكان. ويعاني الانتاج الزراعي عموماً من قلة التصريف. ومثال على ذلك كساد موسم الزيت في منطقة مرجعيون وحاصبيا. ولو لم يهرع الجيش اللبناني الى نجدة المزارعين مشترياً انتاج الموسم الماضي لفسد الزيت في الخوابي". وتشاهد في سهل ابل السقي منشآت عسكرية خلفتها قوات الاحتلال داخل الأراضي الزراعية المملوكة. وأفاد رئيس البلدية رياض أبو سمرا "أن الاسرائيليين جرفوا مساحات كبيرة من هذه الأراضي، وفرشوها بطبقة من حصى التيفينول محت معالمها وجعلتها غير صالحة للزراعة. واعادة تأهيل هذه الاراضي تحتاج الى أموال كبيرة لازالة التيفينول وتعويض التربة الفوقية، فضلاً عن الخسائر التي ترتبت على اتلاف المزروعات ومنع تطويرها واستثمارها مدة طويلة". وشكا ملحم فرحات من أن الناس في يأس بسبب تردي الأوضاع المعيشية. وكان السهل يزرع قبل الاحتلال بأنواع الخضار التي تروى من آبار ارتوازية حفرت فيه. لكن القوات الاسرائيلية قصفت الآبار وعطلتها، فتوقف المزارعون عن العمل وهاجر معظمهم. وما زالت الأراضي بائرة الا من بعض المزروعات الشتوية. وحتى بعد الانسحاب، سجل الاسرائيليون خرقاً جديداً للحدود، اذ فرشوا التيفينول بعرض 30 متراً وطول أربعة كيلومترات في أراض زراعية لبنانية غرب المطلة. وروت جولي صباغ فرحات، أرملة مختار البلدة السابق، أن شخصاً أبلغها أن الجنود الاسرائيليين يجرفون بستاناً للزيتون تملكه في السهل. فهرعت الى المكان وشاهدت جندياً اسرائيلياً يقود جرافة تقتلع أشجار الزيتون الواحدة تلو الأخرى. فصاحت في وجهه: "هذا البستان لنا، لماذا تجرفه؟" فأجابها بوقاحة: "لا تسأليني أنا، اسألي المخربين". وتابع عمله حتى قضى على كل الأشجار. هذا مثل على ما عاناه أهالي الجنوب يومياً تحت الاحتلال. وقال الياس عطالله، وهو مزارع يملك مزرعة عضوية في كفرمشكي في البقاع الغربي، ان القرية كانت خارج الحزام الأمني الذي اقامه المحتل، لكن عملياته العسكرية شلت الحركة على الطرق ما أدى الى صعوبات في تصريف الانتاج الزراعي. مطالب عاجلة لسان حال الأهالي، أينما اتجهت في المناطق المحررة، مطالب عاجلة: ازالة الألغام من جميع المناطق لتأمين التواصل بين البلدات والقرى والوصول الى الحقول الزراعية، اعادة بناء القرى المهدمة والمتضررة، اعادة تأهيل الطرق الموجودة وتعبيد طرق جديدة وشق طرق زراعية، تأمين الاستشفاء ومياه الشفة والكهرباء والهاتف والصرف الصحي واقامة محطات لمعالجة المياه المبتذلة، تأمين جمع النفايات الصلبة ومعالجتها، اصلاح الاضرار البيئية الناتجة عن الاعمال الحربية، منع حصول تدهور اضافي للموارد الطبيعية والتراثية، والتحكم بالتطور العمراني درءاً لاخطار التمدد العشوائي. ويعاني معظم أهالي الجنوباللبناني المحرر من البطالة وضيق العيش. فقد فقدت عائلات كثيرة مداخيلها، والتأم شمل عائلات، وتشتتت عائلات أخرى. وهذا يتطلب من الدولة رعاية عاجلة وتنفيذ مشاريع تنموية مدروسة تعيد الى الجنوب أبناءه الذين جلوا عنه وتثبّت الباقين في ديارهم. * كتب التحقيق عماد فرحات بالاشتراك مع بوغوص غوكاسيان وعبير مكي ونسرين ناصر الدين. وتنشره "الحياة" في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" الصادرة في بيروت، عدد ايلول سبتمبر 2000.