كل ما يعد من خطط لاعادة انماء الجنوب واعماره، ومشاريع اقتصادية تنتشل الجنوبي من وضعه الاقتصادي المتردي، يبقى حبراً على ورق وافكاراً للطرح داخل غرف الاجتماعات في الوزارات والمؤسسات. وعلى رغم وجود اموال جاهزة لدى الحكومة اللبنانية لتصرفها على المشاريع الاقتصادية والاجتماعية تحرك بها الجمود القائم وتوفر فرص عمل جديدة سريعة، فان الدولة كانت تنتظر مؤتمر الدول المانحة الذي عقد جولته الاولى في 27 تموز يوليو الجاري قبل ان تُقدم على اي عمل اساسي واضح الاهداف والاسباب. وهنا حلقة تستكمل ثنائية عن الجنوب موضوعها: انقاذ الجنوب من محنته الاقتصادية والاجتماعية والانسانية. في تحقيق سابق الحياة، 27/7/2000. عرضنا خريطة ومعلومات لجغرافية المنطقة واحتياجاتها وملخصاً للمخطط الاقليمي الاجتماعي الاقتصادي لجنوب لبنان ومقابلات مع خبراء في التنمية المدنية والبشرية ومع رئيس مكتب بيروت "لبرنامج الاممالمتحدة للانماء" UNDP السيد ايف دو سان ورئيس مكتب بيروت للبنك الدولي السيد هاري براساد، وفيها دعوة الى الحكومة للعمل فوراً. وفي اليوم التالي 28/7/2000 عرضنا عمل المؤسسات والهيئات المحلية المعنية بمشاريع انماء الجنوب واعماره ومقابلات مع مدير البرامج في مجلس الانماء والاعمار الدكتور علي سرحال، ورئيس مجلس الجنوب المحامي قبلان قبلان، والامين العام للهيئة العليا للاغاثة اللواء يحيى رعد، ورئيس "المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان" ايدال المهندس كمال حايك. ونتناول هنا العالم المعني مباشرة بالمشاريع التي تحضر والاموال التي يُنتظر صرفها. انهم سكان الجنوب، وخصوصاً ابناء الشريط الحدودي الذين يعيشون في فراغ امني واقتصادي واجتماعي وبطالة عامة. المنطقة المحررة اليوم، التي عاشت على مداخيل مالية بمعدل خمسة ملايين دولار شهرياً في زمن الاحتلال، توقفت فيها عجلة العمل وعادت عقارب الساعة اكثر من 30 سنة الى الوراء... الى يوم تخلت الدولة عن مسؤوليتها في الجنوب، وتركت الارض والشعب للميليشيات المختلفة والمنظمات الفلسطينية والاعتداءات الاسرائيلية. واذا كان للحرب اقتصادها، وللميليشيات والاحزاب موازناتها لحاجات الناس، فان اقتصاد السلم لم تظهر صورته بعد، ولم يلمح معالمه ابن المنطقة، المحررة، من يوم الاحتفال بالتحرير في 25 ايار مايو الماضي الى اليوم. من الشريط الساحلي في الناقورة الى ينابيع الحاصباني في الداخل مروراً بغابات الصنوبر في جزين والطبيعة الخلابة على ضفاف الليطاني وسهل مرجعيون، ثمة عناصر طبيعية للعمل الفوري في قطاع السياحة والزراعة والصناعة الغذائية لم تجد طريقها بعد الى التنفيذ. فالحروب التقليدية في منطقتنا والعالم انتهت الى غير رجعة على ما يقول الخبراء في الجغرافيا السياسية، ويؤكدون ان الحروب المقبلة ستتحول حروب سياحة واعلام ومياه. وفي لبنان سياحة واعلام ومياه، واذا لم يعرف حكام هذا البلد الصغير ان يوجهوا حروبه الثلاث لمصلحة الوطن ومن دون تأخير، فانهم سيخسرون موقعاً في صناعة المستقبل سينعكس مزيداً من الاحباط على عامة الناس. والفرصة لا تعوض، وهي سانحة اليوم مع الانسحاب الاسرائيلي ومؤتمر الدول المانحة واهتمام الهيئات والمنظمات الدولية. فسكان المنطقة الحدودية، الذين افاقوا يوم التحرير وفي الايام التالية على "زمامير" النصر وتهانئ الوفود الشعبية والرسمية الزائرة، توقعوا ان ينعكس النصر مشاريع فورية على الارض. لكن الوقت يمر في سرعة وقد بدأ موسم الانتخابات النيابية، ولا شيء يتحقق حتى الآن غير ارتفاع اللافتات الجديدة وصور المرشحين الى النيابة التي تختلط مع الاعلام وصور الشهداء. ويذكرون انعقاد مجلس النواب في بنت جبيل في الايام الاولى من التحرير، وتوالي زيارات الوزراء والسياسين للمنطقة، لكن الواقع لا يزال على حاله والحاجات كبيرة تملأها تحركات جمعيات خيرية وهيئات دينية. آلاف العائلات تحتاج الى مساعدات فورية من غذائية وصحية ورعاية اجتماعية، والاعمال الزراعية المجدية شبه مهملة، والشباب عاطل من العمل، والفراغ كبير. دخول الشريط الحدودي من قلب الجنوب من النبطية، يظهر الفوارق الكبيرة التي قامت بين المنطقتين بعد سنوات طويلة من الابتعاد القسري. كأن النبطية باتت عاصمة الجنوب كله لتوسعها وازدياد العمران والحركة التجارية واستيعابها كل الخدمات الاساسية التي يحتاج اليها ابناء الجنوب. يرتفع مبنى ضخم جديد لقوى الامن الداخلي على الطريق بين حبوش والنبطية لم يدشن بعد، كأنه يستعد للمرحلة الامنية الجديدة، ويعمل بعض العمال فيه على وضع اللمسات الاخيرة استعداداً لحفلة التدشين التي قالوا انها ستتم بعد شهر تقريباً ويرعاها رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وفي النبطية حركة في اتجاه مستشفاها الحكومي الذي افتتح قبل سنة تقريباً، وكانت تبرعت ببنائه دولة الكويت وشيده مجلس الانماء والاعمار. يستوعب المستشفى مختلف الامراض والجراحات والطوارئ باستثناء جراحات العيون والقلب. وقريباً يفتتح قسم لغسيل الكلي. ويحوي 76 سريراً ويعالج مرضى من مختلف انحاء الجنوب خصوصاً منطقة مرجعيون بعدما تراجعت الخدمات في مستشفى مرجعيون الحكومي الذي كانت تديره الادارة المدنية للاحتلال الاسرائيلي، واستعادته وزارة الصحة اللبنانية اخيراً من "حركة امل"، لتسلم ادارته الى الصليب الاحمر الدولي. اما مستشفى بنت جبيل الحكومي الذي كانت تديره الادارة المدنية للاحتلال ايضاً، فتسلمته الهيئة الاسلامية الصحية ل"حزب الله" وتسيّر شؤونه الطبية في شكل عادي... الى ان تحضر الدولة. في الطريق بين النبطية وكفرتبنيت وتل نحاس، اشغال تعبيد طرق تتوقف في امكنة لا يمكن تفسير اسبابها. والاراضي الواسعة على الجانبين تبدو مهملة زراعياً لوجودها في المنطقة الفاصلة على خط النار سابقاً. وتجد بساتين زيتون محروقة وبعض اراضٍ مزروعة بالقمح. ويواصل نهر الليطاني مجراه تحت جبل الشقيف، صامتاً وشاهداً على كل ما حدث. وتبلغ الشريط الحدودي وتعرف انك وصلت الى "بوابة فاطمة" في كفر كلا من تجمعات الناس والمحال التجارية الصغيرة التي قامت هناك تستقبل الزوار. وهؤلاء لا يزالون يتوافدون الى المنطقة لرؤية المعبر الاسرائيلي عن كثب ومواجهة جنود اسرائيليين في الجانب الآخر. واعمال التجارة الصغيرة القائمة في المطاعم هي الحركة السياحية الوحيدة التي تشهدها المنطقة، خصوصاً ان فرقاً عربية واجنبية تحضر بين وقت وآخر لدراسة المنطقة والبحث في ما يمكن ان تفعله منظمات غير حكومية وهيئات اهلية لمساعدة الاهالي على تجاوز محنتهم الاقتصادية والاجتماعية. وعلى طول الطريق الحدودية زراعات من التبغ الجاهز للقطاف. وقد جمع عدد من الاهالي المحصول ونشروه تحت الشمس للتجفيف. مدرسة الزراعة في الخيام الجنوبيون الذين يعيشون على الزراعة ينقصهم الكثير من المعرفة الزراعية الحديثة خصوصاً الزراعات المنتجة بدلاً من زراعة التبغ غير المفيدة على الصعيد الوطني والخاسرة اقتصادياً. من اجل مواجهة هذا النقص، ولتنشيط الزراعة المنتجة وايجاد فرص عمل للشباب في مجال الزراعة المتطورة، تأسست المدرسة الزراعية الفنية في بلدة الخيام في قضاء مرجعيون عام 1993 ويترأسها المهندس الزراعي مكرم سلامة الذي قال انها "تقدم البكالوريا الفنية الزراعية وعدد سنواتها الدراسية ثلاث، وطلابها يلتحقون بها بعد صف الشهادة المتوسطة". واضاف "كانت مدرستنا الاولى في المنطقة، واول تخرج لطلابنا كان عام 1996. وتبعتها قبل ثلاثة اعوام مدرسة زراعية في جزين كان اول تخرج لطلابها هذه السنة". وتابع ان عدد المتخرجين عام 1996 بلغ 38، وتراجع عام 1997 الى 29، والدفعة الثالثة عام 1998 بلغ عددها 27. وهذه السنة تخرج خمسة طلاب فقط. ولماذا هذا التراجع؟ اجاب مدير المدرسة "ان الطلاب التحقوا بصفوفنا على امل ايجاد مجالات عمل افضل. علمناهم ان يكونوا مزارعين مثقفين ومنتجين، وهذا افضل طبعاً من العمل الزراعي العادي. انهم ابناء مزارعين، ويستطيعون اذا استأجروا اراضي زراعية وكثفوا الانتاج بواسطة خيم زراعية ان يحققوا دخلاً مالياً جيداً ضمان الارض 10 دولارات للدونم، وقرض خيمة بلاستيك بين 1500 دولار والفين، يمكن ان يحصلوا عليه ويردون اضعافه. لكن المشكلة كانت في عدم التصريف. ولم يحصل، ويا للأسف، اي تصريف زراعي لانتاج المنطقة كاملاً، للمقاطعة الحاصلة بحجة انه قد يكون من اسرائيل. تراجع العمل وصرنا نخرج طلاباً للبطالة بدلاً من سوق العمل. احد طلابنا من حاصبيا عندما لم يعثر على عمل دخل مدرسة المعلوماتية وحصل ايضاً على شهادة بكالوريا فنية على امل العثور على عمل... ولكن سدىً". وتابع سلامة "ان منطقتنا تعيش عجزاً اقتصادياً بسبب مقاطعة انتاجنا. خوابي الزيت والزيتون مكدسة لغياب التصريف. واقعنا الزراعي متردٍ على رغم ان اراضينا غنية بالتربة والماء. واكثر دول العالم وخصوصاً النامية تهتم بالقطاع الزراعي فيها وموازنتها للزراعة تبلغ 20 في المئة، لكننا في لبنان كانت قبل سنتين 4،0 في المئة وهذه السنة 2.0 في المئة. واذا نظرنا الى سورية لوجدنا موازنتها للقطاع الزراعي تبلغ 22 في المئة. بلادنا مؤهلة بالمناخ والتربة ويمكن انتاج افضل المواسم. اين تفاح لبنان الاحمر وكان يسمى خدود لبنان؟ لا احد يزرعه لان المزارع يقول: لماذا اصرف على زراعته وابيعه بأقل من سعر الكلفة؟ وتابع "ان صندوق البندورة زنة 22 كيلو غراماً يباع باربعة آلاف ليرة. وكلفة قطافه الفا ليرة. عدا كلفة البذار ورش المبيدات والحراثة والري. اليس هذا ظلماً؟ هل هذه سياسة ضد الزراعة؟ هل يمكن الاستمرار في هذا المنطق؟". واوضح "ان ما بين 40 و50 في المئة من الناس هنا يعيشون من الزراعة. فكيف يستمرون في العيش اذا توقفوا عن الزراعة؟ واما زراعة التبغ فغير مجدية للدولة وربحها ضئيل للمزارعين. و40 في المئة من المزارعين في المنطقة يعيشون على مردود التبغ ويبلغ مليوناً ونصف مليون ليرة في السنة نحو الف دولار هل يكفي هذا المبلغ لاعاشة عائلة"؟ وتحدث عن انواع التخصص التي تقدمها مدرسته: "السنة الاولى مواد عامة. السنة الثانية كانت لدينا خمسة تخصصات: زراعة ونبات، تربية حيوان وبيطرة، مختلط بين زراعة وحيوان، تربية اسماك، اقتصاد زراعي. والآن يقتصر عملنا على الفروع الثلاثة الاولى. واوقفنا برنامج تربية الاسماك وبرنامج الاقتصاد الزراعي لان عدد طلابنا هذه السنة خمسة فقط. عملنا كثيراً، وكان طموحنا ان تكبر المدرسة لكننا تراجعنا الى الوراء، لان كل الظروف الماضية والحاضرة ضدنا". وكيف الخروج من هذه الازمة؟ اجاب "المطلوب قبل كل شيء ان يتغير دعم الدولة لوزارة الزراعة، بأن ترفعه وتعززه، وان تضمن تصريف الانتاج الزراعي للمنطقة وتحميه، وان تساعد على انشاء مصانع زراعية - غذائية مثل رب البندورة، ومصنع تعبئة للزيت والزيتون، وان تساعد في مكافحة الامراض الزراعية مثل رش الادوية من الجو على بساتين الزيتون ضد مرض عين الطاووس، فتساعد المزارع وتخفف من مصاريفه وتحسن نوعية الزيت والزيتون. وعليها ان تحميه وتشتريه. والمطلوب ايضاً من الدولة تشجيع قيام مصنع للمربيات، مثل الكرز، وتوقيف الاستيراد، ومصنع تعبئة لانتاج الحليب. فالحليب الطازج يباع بخمسة آلاف ليرة للكيلو غرامات الخمسة. ويسقط سعره في الشتاء الى الفي ليرة للكمية. فالتعبئة تحميه وتعزز سعره". وقال "ان الخسائر ايضاً تطاول مزارع الدواجن. لدي مزرعة للفراريج، وتبلغ كلفة كيلو غرام واحد من الفروج "الواقف" اي الحي دولاراً و30 سنتاً. ويباع بدولار و95 سنتاً! كيف يمكن ان يستمر ابن الجنوب في العمل في ظل هذه الاوضاع، اذا لم تقم مشاريع زراعية وصناعة غذائية على الارض تنشله من حال القهر واليأس والظلم؟" مركز الخدمات الانمائية في بنت جبيل يقوم بين احياء بنت جبيل القديمة مركز الخدمات الانمائية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية وتترأسه السيدة ندى بزي. ويعمل منذ اكثر من 20 عاماً في مبنى مستأجر من الاهالي. وقد تطور عمله من مركز اجتماعي عادي الى مركز مهم يقدم خدمات انمائية عدة الى سكان المنطقة. وقالت المرشدة الاجتماعية فاطمة عباس ان المركز ثلاثة اقسام: تربوي وصحي واجتماعي، إضافة الى قسم رابع للابحاث والدراسات يقوم باعمال المسح المختلفة لدراسة اوضاع الاهالي والبحث في حاجاتهم الاجتماعية المختلفة. وقد عمل تحت الاحتلال الاسرائيلي وعانى ضغوطاً كثيرة لكنه تمكن من الاستمرار وتحقيق التواصل بين مختلف افراد المجتمع. يتألف القسم التربوي من حضانة للاطفال من عمر سنتين ونصف السنة الى العمر الذي يتأهلون فيه للمدرسة اي اربعة اعوام. وثمة خمسة صفوف حضانة تضم 110 اطفال ترعاهم ثماني مربيات ومرشدة اجتماعية. وفي القسم الصحي عيادات للصحة العامة والاطفال وامراض القلب والشرايين وطب الاسنان. وتعمل فيه ممرضتان ومرشدة اجتماعية، ويحضر طبيبان للمعاينة الاسبوعية في كل عيادة. وثمة عيادة نسائية مجهزة بكل معدات الولادة وفيها قابلة قانونية ويحضر طبيب نسائي اسبوعياً للمعاينة. وتقدم العيادة برامج توعية واستشارة للحمل او للوقاية في الحمل وتنظيم الاسرة وتوزع حبوب منع الحمل مجاناً وخدمات طبية اخرى. والقسم الاجتماعي يقدم دروساً الى نساء في الخياطة والتطريز والاشغال اليدوية. وفيه ايضاً مرشدة اجتماعية إضافة الى ثلاث مدربات على العمل. واضافت المرشدة عباس ان المركز يجري دائماً مسحاً للمنطقة بحثاً عن النساء اللواتي بلا عمل ولا خبرة مهنية، فيجلبهن الى صفوفه لاكتساب مهارة يدوية ويعرض اشغالهن ويعمل على تسويق انتاجهن باسعار تشجيعية. واظهر المسح الذي اجراه المركز ايضاً عام 1998 بحثاً عن المعوقين نسبة عالية منهم من ذوي الاعاقة الجسدية والعقلية. وساعدهم في الحصول على خدمات عينية من كراسٍ وعكازات وفرش مياه واسرّة وغير ذلك. وزودهم بطاقات الاعاقة وقدم عنهم طلبات الرعاية الاجتماعية. وقام المركز بنشاطات اجتماعية وترفيهية للاطفال تخرجهم من الظروف الاليمة التي مروا بها. وتحقق الدمج الاجتماعي في المنطقة عموماً. ويستعد العاملون في المركز للمشاركة في المخيم الصيفي الذي تنظمه وزارة الشؤون الاجتماعية على مستوى الوطن، وهذه المرة في بنت جبيل للاطلاع على الانظمة الجديدة في العمل الاجتماعي وسيكون لنساء المنطقة وشبابها دور في المساعدة في اعمال المخيم. ويبدو المركز طموحاًً في تحقيق مشاريع كبيرة. لكن قدراته المادية ضعيفة جداً، ومطالبه كثيرة. ويشترك ثلاثة عاملين في المركز وبينهم القابلة القانونية كاملة ابرهيم، في القول ان المركز يضيق بالخدمات التي يقدمها. فالمبنى مستأجر من سنوات طويلة والحاجة كبيرة الى الاستقلال في مبنى جديد واسع يتسع لنشاطات مختلف الاقسام. وطالبوا للعيادة النسائية بجهاز تصوير صوتي ايكو غرافي وسيارة اسعاف، ولقسم الخياطة والاشغال اليدوية بماكنات خياطة جديدة. لان الماكنات الثلاث الموجودة قديمة جداً وعددها لا يفي بالحاجة. ويحتاج هذا القسم ايضاً الى ادوات اساسية للاشغال المختلفة مثل إبر وخيطان والواح بلاستيك، وتتذكر القديمات من العاملات ايام الخير في الماضي، عندما كان المركز ممتلئاً بالاقمشة وكان يوزع على النساء والفتيات الملتحقات به، ما يحتجن اليه من ادوات للعمل. احد العاملين الشباب في المركز بلال سيد احمد قال انه وحده يعمل في عائلته، اخوته خمسة شبان في البيت عاطلون من العمل. "الظروف التي مرت على بنت جبيل كانت قاسية جداً واضطر كثيرون من الشباب الى العمل في اسرائيل. الآن هؤلاء بلا عمل ويلتزمون بيوتهم خوفاً من سماع كلام جارح يتهمهم بالعمالة. وانا راتبي 300 الف ليرة. فكيف يكفي حاجات الاسرة؟". والموظفات في المركز يحضرن من قرى مختلفة، من يارون وعيناتا وعين إبل، ورواتبهن ضئيلة ويطلبن خدمة نقل مجانية. المطلوب كثير وحاجات المنطقة كبيرة والامل لا يزال قائماً بظروف افضل لا بد من ان تأتي. مرجعيون... اين الناس؟ في قضاء مرجعيون معاناة اجتماعية مماثلة لتلك التي يعانيها اهل بنت جبيل. وفي حين تهتم احزاب سياسية في بنت جبيل، مثل "حزب الله" بالشؤون الحياتية للناس، تهتم مؤسسات انسانية مسيحية محلية ودولية للعمل في مرجعيون. منها "كاريتاس" و World Vision وجمعية الشابات المسيحيات وغيرها، وتجري الآن مسحاً للحاجات الاساسية للمنطقة. احدى الجمعيات التي تهتم بالمعوقين والمهمشين مثل المسنين، جمعية CRC التي تترأسها الدكتورة انياس واكيم داغر. وهذه الجمعية تعمل في بيروت منذ السبعينات وتطور عملها في الحرب اللبنانية في برامج اعادة تأهيل المعوقين. وتنظم عادة مخيماً صيفياً في احدى مناطق لبنان بحثاً عن معوقين في انحاء البلاد لمساعدتهم وتقديم برامج تأهيل لهم وتزويدهم تدريباً مهنياً. وهذه السنة سيكون مخيمها عملاً ميدانياً في منطقة مرجعيون والخيام والقرى المجاورة. وقالت الدكتورة داغر إنها تبحث عن مبنى في مرجعيون لشرائه وتأسيس مركز للجمعية يستقبل الصبايا والشبان المعوقين من مختلف انحاء المنطقة واعطائهم دروساً مختلفة في التأهيل الاجتماعي والتدريب المهني. وتتلقى الجمعية مساعدات خارجية طارئة عند الحاجة. وتسعى الى ان تدفع المساعدات من الخارج وتغذي صندوقها من مساعدات محلية. وقالت ان المنطقة الحدودية في حاجة ماسة الى الاهتمام بالمعوقين خصوصاً اصابات الحرب وانفجار الالغام. ولا تزال المنطقة ملأى بالالغام، ومخاطر اصابات جديدة واردة في استمرار. وتفتقر المنطقة المحررة الى التدريب المهني في مختلف انواع المهن. لكن المدارس القليلة الموجودة انتجت خريجين الى سوق البطالة بدلاً من سوق العمل. في بلدة القليعة مدرسة مهنية تابعة للرهبانية الانطونية يترأسها الاب روجيه وهبه الذي قال "ان المنطقة بعد التحرير فرغت من الايدي العاملة خصوصاً في المجتمع المسيحي. واذا قامت مشاريع في المنطقة كما يخطط لها، ثمة حاجة الى ايد عاملة، غالبها رحل في مختلف الاتجاهات، وبقي عندنا الحالات الصعبة والمعوزين. منطقتنا تحتاج الآن الى مساعدات عينية فورية ومتواصلة الى ان تتمكن من الوقوف على رجليها مجدداً. فالمشاريع تقوم في البداية على عاتق الافراد. والقادر على الزراعة يعود الى الزراعة شرط ان تؤمن له الدولة مشروعاً للري وآباراً ارتوازية ومشروع تعاونية زراعية وتعاونية آليات زراعية تساعده على استخدام الآلات الحديثة من غير كلفة، وتصريف الانتاج". واضاف الاب وهبة "ان سهل مرجعيون لم يزرع التبغ قط بل يزرع القمح في الشتاء والبندورة في الصيف إضافة الى الخضر الاخرى من خيار وباذنجان وبامياء. ويمكن ان تقوم مشاريع كثيرة صغيرة في هذا المجال. لكن المطلوب صدقية في العمل وتنفيذ للمشاريع الملحة لكي يؤمن الناس بأن المؤتمرات والمشاريع التي تعد لها هي حقيقة ملموسة لا خطابات وبيانات للاستهلاك". وتابع "ان الاوضاع الاقتصادية والانسانية صعبة جداً. وقد تراجع الطلاب في مدرستنا الى النصف قبل نهاية السنة الدراسية بسبب نزوح مئات العائلات مع الانسحاب الاسرائيلي. اوقفنا مشغل النجارة لانعدام الطلبات وكانت موجودة في السابق ضمن منطقتنا ولا تصريف الى الخارج بسبب المقاطعة. وعندنا مشغل خياطة لقمصان المدارس ومراويلها. ولولا طلبات مدارسنا الانطونية والمدارس اليسوعية في لبنان لاغلقنا هذا المشغل ايضاً. لدينا كاراج ميكانيك للطلاب كان يقدم خدمات الى المنطقة وهو متوقف الآن عن العمل". وأكد ان "المطلوب تأمين تصريف اي انتاج محلي. لدينا اجهزة ولدينا اناس يعملون ولا ينقصنا الا التصريف. فهل توضع مشاريع لتصريف الانتاج، بمختلف انواعه الزراعي والصناعي والتجاري، فتخرج المنطقة من الدوامة المآسوية التي تعيش فيها"؟ حركة في الحاصباني اسئلة محيرة كثيرة يسمعها الباحث عن حقيقة الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الجنوب. لكن المتوجه شمالاً من مرجعيون الى حاصبيا، يلاحظ تغيراً في الاقبال على العمل. محال تجارية جديدة تستعد لاستقبال الزبائن من خلال رفع لافتاتها وقيامها باعمال البويا والدهان. فالموسم صيف والمصطافون المهاجرون او الغائبون عن المنطقة بدأوا يظهرون في المنطقة وهؤلاء يغذون المؤسسات التجارية الصغيرة والمطاعم. والمكان الذي يشهد اقبالاً جيداً من الزائرين والمصطافين، المطاعم على نهر الحاصباني. كنا هنا يوم ثلثاء لا في آخر الاسبوع، وكانت المطاعم الثلاثة على نبع الحاصباني تشهد اقبالاً لافتاً. ومعظم الرواد وفود آتية في رحلات من مناطق الجبل والبقاع، وكان هؤلاء حرموا طويلاً هذه الزيارات وبعضهم اتى يتعرف الى المنطقة للمرة الاولى. صاحب مطعم "نبع السبيعة" على الحاصباني السيد مهنا وديع ابو غيدا قال ان "في منطقة حاصبيا اشياء ثابتة لا تغيرها الظروف. الله انعم عليها بطبيعة حلوة ومياه وزراعات منوعة، خصوصاً الزيتون. ونحن نشهد الآن اقبالاً من المناطق اللبنانية على زيارتنا في رحلات. ثمة حركة جيدة في المطاعم، ولكن على صعيد آخر كل الامور جامدة". وطالب ابو غيدا الدولة "بان تكون مشاريعها ثابتة على الارض، لا مجرد اقوال. لقد اعلنت الدولة انها ستشتري زيت الزيتون بثمن 65 دولاراً لل16 ليتراً. اخذت الزيت من المزارعين على ان تدفع لهم بعد بضعة اشهر. دفعت للبعض ولم تدفع للغالبية. توقفت عن الدفع منذ خمسة أشهر أو ستة. وانا اعطيتُ زيتاً ولم اقبض". واضاف "المشكلة اننا ما عدنا نصدق الكلام على المشاريع الا عندما نراها ونلمسها. كم طريقاً بدأوا بتأهيلها واهملوا نصفها؟ و"الزفت" يتضرر مع أول تساقط للامطار. مدخل حاصبيا عُبّد مرات عدة، لكنك الآن اذا وصلت الى السوق ترى كأنه لم يعبد قط". وتابع "منطقتنا غنية بالمياه، وعلى رغم ذلك لم نتمكن يوماً من تحقيق تلزيم مشروع نبع الحاصباني. قدمنا العرائض عام 1986 من اجل هذا المشروع، ولم يحصل تنفيذ للوعود وكذلك عانينا. ولا نزال، مشكلة كهرباء حاصبيا ومشكلة مشروع السنترال. لم نتمكن يوماً من تحقيق حاجات الناس الى الماء والكهرباء والطريق والهاتف باسلوب المؤسسات الحضارية". القصة هي نفسها في كل مكان في المنطقة المحررة والمعاناة هي هي. ورأي الناس بالدولة هو هو، ومطلبهم "مشاريع حقيقية تدوم". احدهم قال "منذ عام 1975 نعيش كأننا اضعنا شيئاً لا نجده، الآن نخاف ان نصدق اننا وجدنا ما اضعناه". فمن يعيد الى المواطن الجنوبي ثقته بالدولة؟ ومن يرفعه من الزمن الضائع الى العصر الحديث، عصر السلم الاهلي والبيئي وصناعة المستقبل؟