الطبعة الجديدة والمزيدة من كتاب الباحث هشام شرابي "النقد الحضاري للمجتمع الأبوي العربي" يعيد الى الذاكرة طروحات ما زالت تعني المجتمع العربي وتصيب منه بعض القضايا. ماذا عن الكتاب وقراءته النقدية للمجتمع العربي؟ سلسلة تراجعات وانكسارات نتجت من فشل مشروع النهضة، فبدا مجتمعنا العربي المعاصر وكأنه يلازم حلقة مفرغة تعيد انتاج النظام الأبوي وتدعمه بالعصبيات والأصوليات، وتهدر ما توافر من امكانات مادية جرى التعامل معها على غرار التبديد الاسباني لذهب الاينكا. يتوقف هشام شرابي على عتبة التاريخ، ويطرح السؤال، في مقدمة الطبعة الجديدة لكتابه في "النقد الحضاري لواقع المجتمع العربي المعاصر": هل يمكن مشروع النهضة الذي لم يتحقق في القرن الماضي ان نحققه في القرن الواحد والعشرين، وإن في أشكال ومضامين مختلفة؟ نجد أنفسنا امام علامة استفهام مربكة، تجسّد في حد ذاتها بدايات الجواب، ذلك ان السبيل الى كسر الحلقة المفرغة يبدأ من وعي النهضة كإمكان، ومن انجاز شرطها الأول، المتمثل بقيام النقد الحضاري، بما هو نقد للواقع المعاش، ونقض للنظام الأبوي المهيمن. ينطلق هذا النقد من رسم الخريطة الفكرية، وفصل المحسوس عن المجرد، مسهماً في قيام خطاب معرفي عقلاني، ومدركاً ان مهمته "سياسية" ترمي الى الفعل بالواقع من خلال تغيير وعي الواقع، وفي ضوء التركيز على القاعدة المادية للنظام الأبوي. تستكمل الطبعة الجديدة دار نلسن، 2001 النقد الحضاري في فصل رابع، هو كناية عن محاضرات ومقالات كتب معظمها في التسعينات، وتعنى بنقد الواقع العربي، وقضايا المرأة والمثقفين والديموقراطية والعلاقة بالغرب، وإنتاج المعرفة العلمية واستهلاكها. وجاء الفصل الجديد ليدعم الربط بين دعوة الكتاب الى نبذ التعاطي التوفيقي مع المجتمع البطركي العربي المعاصر، وبين تأكيده لراهنية تذويب البطركية من الداخل، اي من داخل مجتمعها، وليس من داخل المنطق السائد في هذا المجتمع. البنية الاجتماعية العربية هي بنية بطركية، والسلطة الأبوية فيها ظاهرة وخفية في آن، وهي تخضعنا من الأعماق، وفي شتى جوانب المعاش، فتفضي الى مجتمع مضطرب، يمارس عكس ما يحلم به، ويخضع لسلطة فردية تلغي الفرد وتعمم العلاقات العمودية والسلوكيات الخطابية، وتغيب المجتمع المدني، وتفقر النتاج الفكري والإبداعي، وتزيد التخلف العلمي. المسار الحضاري للمجتمع الأبوي المعاصر محكوم بالتقطع التاريخي، فهذا المجتمع ليس تقليدياً، بل هو يجتزء التحديث ويحوّله الى آلية تحافظ على الوضع القائم، بكل ما يعنيه ذلك من اخفاق في توفير المستلزمات الأولية للحداثة الديموقراطية والقانون وحقوق الانسان، ومن افساد اعمق القيم في تراثنا. يخلص المؤلف الى "ان نجاح البطركية الباهر على صعيد السلطة السياسية انما هو الذي ادى الى فشلها الحضاري الشامل" ص175، ويستعين بعالم النفس السويسري بيار بياجيه، ليميّز بين اخلاقية التسلط، المبنية على علاقة الاحترام احادية الجانب، وبين اخلاقية الحرية، حيث الاحترام علاقة متبادلة. ان الانتقال من الاخلاقية الاولى الى الثانية يظل ناقصاً في المجتمع الأبوي، كما في العائلة الأبوية، وهذا الانتقال يتوقف انجازه على استبدال العلاقة العمودية بأخرى أفقية، يرمز إليها بنظام الأخوة. لا حظوظ لمجابهة النظام الأبوي من ضمن منطقه، ولغته التقليدية، فتلك مشاركة في عملية الاخضاع، وكما يتطلب التغيير الاجتماعي تغييراً في الفكر، يستدعي التغيير الفكري تغييراً في اللغة، بحيث يجرى انتشال الأخيرة من المسلك الطقوسي الخطابي الذي جعل منها اداة تجويد وانفصام، تحصر التعامل بالمطلقات، وتخشى التفاعل كما الابداع، وتعجز عن التعبير العلمي معتصمة بالموروث. يرى المؤلف في الفصحى السائدة لغة تحجّر وتخدير، تركّز على الدال وتهمل المدلول، وتحكم اغلاق نافذة القراءة، فتستبدلها بالمطالعة وتجعل من القارئ مجرد مستمع لا شأن له بصناعة المعنى. فتح النافذة يتصدّر سلّم الأولويات، ويقرن بوجوب التفاعل مع لغة اجنبية وإتقانها، واستيعاب ما يترجم منها من مقولات ومفاهيم، بحيث يفضي التوتر الداخلي التفكير بالأجنبية والكتابة بالفصحى الى نص نقدي تعددي متجانس، مغاير للغة الوعي الأبوي ولغة الترجمات، ومتجاوز للاتجاهين الغربوي والأصولي من دون الوقوع في شرك التوفيق، فليس ثمة توفيق بين الأبوية والحداثة، لأن الفارق نوعي بين النظرتين الدينية والعقلية للوجود. يستعيد الكتاب المضامين العقلانية والعلمانية للحداثة. يميّز بين الحركات الدينية والتراث الديني، فالأولى سياسية، ولا يمكن التعاطي معها بالأسلوب الفولتيري، او من خلال الجدل اللاهوتي. يساجل شرابي ضد الموقف الأصولي المعادي للغرب، وضد الاغتراب الباستورالي في معشر المثقفين العرب. تقترن عنده الحرية الفكرية بالالتزام. وبخلاف مجتمعات ما بعد الحادثة، حيث تغلب على المثقف صفة الباحث او المنقّب، ليس في اماكن المثقف في المجتمع الأبوي المعاصر، التنصّل من مسؤوليته المعرفية والأخلاقية بإزاء السلطة والأصوليات. ان خطر التمسك بما انتهت صلاحيته من ممارسات ايديولوجية وحزبية لا يداوى باندفاع المثقف العربي الى النمط النخبوي التجريدي ليكون في مأمن من البطش، ويجب ان يكون انطونيو غرامشي حاضراً في الذهن، كمثال لما يمكن للمفكر ان يحققه في اصعب الظروف وأحلكها، اما الاستفادة مما يقدمه فكر ما بعد الحداثة من اسلحة فكرية ولغوية، فتبقى رهن التعامل النقدي مع هذا الفكر، وعدم توسله من قبيل التغليف "الجمالي" للموقف السياسي المحافظ. فإن كان الغرب تجاوز حداثته، فنحن لم ننجزها بعد، وإشكالية فهم الغرب تستدعي بالضرورة فهم الذات. في مقابل ما يفرزه النموذج البطركي من موقف كلي مطلق يرفض العلاقة الجدلية بالآخر، او من موقف منقاد وراء الآخر، يحتكم المؤلف الى الثنائية التقليدية نفسها، ثنائية الذات والآخر، ويطرح إشكالية ارادة القوة، بالمعنى النيتشوي، اي اشكالية تحقيق القوى الكامنة في الانسان والمجتمع. فالإقامة الأميركية علّمته قيمة الفرد، وارتباط التحرر الفكري بالجنسي، وديموقراطية المجتمع بديموقراطية العائلة، من دون ان يكون النموذج الأميركي نموذجاً أعلى للاقتداء. تحقيق القوى الكامنة يكون بثورة الممارسات اليومية، والدائمة لإنجاز الجزئي، والممكن، والقريب، لا ثورة التوق المستحيل وراء الكلي، والشامل، والبعيد. يفهم شرابي التغيير الاجتماعي كسيرورة تنطلق من الحلقات الاولية من تحرير المرأة في القانون والممارسة، وتعزيز الأسرة النووية، بوصفها السلاح السري الأول لتغيير المجتمع البطركي من الداخل، وقيام المجتمع المدني، وتسييس مختلف قضايا المعاش. يولي المؤلف أهمية قصوى لدور الحركات الاجتماعية، كقوة فاعلة في جدلية تحديث الدولة وتحرير المرأة والمجتمع، ويربط ذلك بتحرير هذه الحركات من سطوة العقائد الشمولية والأهداف الطوباوية، وباعتمادها لإيديولوجية التعدد. ان مصدر الخلل ينبع من بنية المجتمع البطركي، لذا يتعذر تحقيق التغيير إرادوياً، او من الخارج، ولا يمكن تحقيقه إلا ذاتياً، ومن خلال عمل دؤوب وواثق في امكان بناء أرضية ديموقراطية، وحركة معارضة قانونية داخل النظام الأبوي حتى لو كان الأخير محافظاً، وقمعياً. يعيب هشام شرابي على الحركة النقدية العربية اكتفاءها بقول "المعهود" في صدد المرأة، في مقابل اتساع الاهتمام الأصولي بالموضوع، نتيجة مركزية الاشكالية النسائية في الوعي الأبوي، والقلق الدائم بإزائها. يسجل في المقابل، مقدرة الخطاب النسائي العربي على كشف العلاقة بين المعرفة والسلطة، وربط هذا الخطاب عند نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وخالدة سعيد بين تحرر المرأة وتحرر المجتمع، وبين الوعي الذاتي للمرأة ووعيها الاجتماعي، وإنكار امكان معالجة مشكلة المرأة من دون تحولها من مشكلة "نسائية" الى مشكلة "سياسية". يقارن شرابي بين الاستشراق المتعالي بإزاء الشرق، وبين التعالي الذكوري بإزاء المرأة، ويجد أوجه شبه بين الخطابين، النسائي الغربي والنقدي اللاغربي، في توجه كل منهما للخروج من النزعة الثنائية في رؤية الأشياء، وعنايتهما بالجانب الذاتي من المعرفة، إلا أنه يرى ان الناقدات الغربيات يجابهن الواقع بثقة ذاتية لا تقارن بروح التقبل الفكري الرائجة عند النقاد العرب. الناقدات يقمن بالتمييز بين مفهوم المساواة ومفهوم الاستقلال الذاتي، فالمساواة علاقة بين طرفين بحسب مقاييس يقررها الرجال، والاستقلال الذاتي حق لكل طرف في تقرير المقاييس او النماذج المناسبة. هذا التمييز لا يعيره النقاد اللاغربيون الاهتمام المطلوب لاستيلاد مثيله في العلاقة بالغرب. ان قضية المرأة هي قضية جوهرية في النقد الحضاري، اذ تمكننا من رؤية النظام الأبوي بضوء جديد، وبفهمه كبنية مترابطة الأبعاد. يسجل شرابي في هذا الصدد، ابتعاده، بفعل قراءاته في النقد النسائي، من المنطلق المثالي الخطابي المقاربة الطبقية الساذجة حيث تؤجل قضية المرأة لما بعد تحقيق الحل الاجتماعي العام الى منطلق حيوي، يلقي على المرأة مسؤولية طليعية في تذويب الأبوية من الداخل، كونها تجابه الأبوية حيثما حلّت، وتجد مصلحة خاصة في الانتقال من العملية الأبوية العمودية لاتخاذ القرار، الى العملية الجماعية الأفقية في صنع القرار. تكمن اهمية الكتاب في اثارته لما يطمسه سواه وربطه بين استحالة التوفيق وراهنية التذويب من الداخل. يتجاوز الكتاب ثنائية التقليدي والحديث، وثنائية رفض الغرب او التمثل به، إلا أنه ينزع في المقابل الى جوهرة ثنائيات اخرى، فتبدو العلاقة مع الغرب، في ضوء ثنائية الذات والآخر، وكأنها علاقة بين جوهرين، وتجرى ملازمة الموقف الأركوني السكوني الذي يقصر التاريخ الاسلامي على ابستيمية واحدة فقط لا غير، وتختزل الحركة الأصولية الى عملية ملء للفراغ، كما يغيب تحديد مستويات البنية الاجتماعية موضع النقد الحضاري، وخصوصاً تحديد المستوى السياسي، اي المستوى الذي يميز البطركية كسلطة سياسية عنها كنموذج عائلي، إذ أن جعل السياسة كل شيء يهدد بتحويلها الى لا شيء، وكما لا يمكن عزل الأبوية عن اي من مشكلاتنا، لا يمكن تحويل الأبوية الى مشجب تعلّق عليه كل المشكلات.