جمعية أسر التوحد تطلق أعمال الملتقى الأول للخدمات المقدمة لذوي التوحد على مستوى الحدود الشمالية    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو التغيير الاجتماعي : نهاية البطركية بداية الديموقراطية
نشر في الحياة يوم 04 - 06 - 1999

هناك جملة مأثورة لأرسطو قوله في كتاب السياسة: "إن الإنسان حيوان اجتماعي". وهناك أيضاً كلمة مماثلة لكارل ماركس وردت في مقدمة كتابه "نقد الاقتصاد السياسي": ليس الوعي الذهني هو الذي يصنع الواقع بل أن الواقع الاجتماعي هو الذي يصنع الوعي.
ان ما يقصده أرسطو وماركس في قولهما هو الشيء ذاته: إن الإنسان هو إنسان بفضل اجتماعيته، بفضل انتمائه الى المجتمع، أي أنه نتاج بنية اجتماعية لا بنية طبيعية وحسب. من هنا فإن صعود الإنسان من مستوى الطبيعة الى مستوى الحضارة، من مستوى الحيوانية الى مستوى الإنسانية، إنما هو بفضل تطور يحدث في المجتمع فينقله من حالة البداءة الى حالة الحضارة.
لذلك فإن الإنسان بفرديته لا يمكن أن يتغير إلا بتغيير البنية الاجتماعية التي ينتمي اليها. وبهذا المفهوم فإن الإنسان هو متغير اجتماعي تاريخي، تتكون انسانيته بدرجة تغيير المجتمع الذي يصنعه هو والذي يصنع فيه.
طبيعة المجتمع ودرجة رقيه انما تقاس بنسبة انسانية هذا المجتمع، أي بنسبة ما يكون فيه الإنسان إنساناً حقاً. فإذا كان الإنسان في هذا المجتمع مقهوراً أو مذلولاً أو مستغلاً الخ، فالمجتمع مهما بلغ من الرقي المادي والحضاري يبقى مجتمعاً متخلفاً انسانياً. وبضوء هذه المقولة فمقياس التخلف والتقدم الاجتماعيين هو الإنسان ومكانته في المجتمع.
ان الإنسان - وأعني هنا الإنسان الفرد، الأنا، الذات - هو كائن اجتماعي محدد بسبب تنشئته الاجتماعية طفلاً، أي تنشئته في العائلة. لكن العائلة ليست سوى المجتمع الكبير مصغراً، فمن خلالها يصنع المجتمع أفراده، وبالتالي ذاته الجماعية collective self. بهذا ركزت في البدء على دراسة العائلة، إذ أن القيم والعلاقات السائدة في العائلة هي انعكاس للقيم والعلاقات السائدة في المجتمع ككل. ولكن العائلة ليست في الوقت ذاته حرة في ما تنتجه، فهي لا تنتج سوى الذات التي يتطلبها المجتمع. فالمجتمع الزراعي أو القبلي، مثلاً ينتج الذات الزراعية أو القبلية، والمجتمع الطبقي أو الصناعي ينتج الذات الطبقية أو الصناعية.
والسؤال: ما هو نوع الذات التي يتطلبها مجتمعنا؟
انه يتطلب انتاج الذات البطركية أو الأبوية، وإعادة انتاجها لتأمين استمراره مجتمعاً بطركياً أبوياً ولتأمين استمرار بقاء سلطته أبوية.
في دراستي لمجتمعنا العربي المعاصر، توصلت الى نتيجة أن مجتمعنا العربي ليس مجتمعاً تقليدياً، بالمعنى المعهود للكلمة، كما أنه بالمعنى ذاته ليس مجتمعاً حديثاً. بالإضافة الى ذلك فإنه ليس مجتمعاً مخضرماً، فهو يجمع بين القديم والحديث ليربط بينهما ويصنع بنية اجتماعية جديدة منسجمة.
انه مجتمع بطركي، أو ما أدعوه على حد التدقيق مجتمعاً نيو بطركي، يتألف من خليط متضارب من علاقات وقيم وبنى اجتماعية تقليدية من ناحية، تعود في تركيبها ومصدرها الى أقدم مراحل المجتمع البطركي بعلاقاته وقيمه القبلية والعشائرية والعائلية والطائفية والدينية المستمدة من روابط الدم والمعتقد، وفي الوقت ذاته علاقات وبنى اجتماعية مستحدثة. وهو مجتمع تابع، أي ينقصه الاستقلال الذاتي والتوجه الذاتي ويعيش أزمة التحول في ظل الهيمنة الخارجية سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وحضارياً ثقافياً.
هذا النظام البطركي الجديد المستحدث يسود كافة المجتمعات العربية، المحافظ منها والعلماني، وهو تاريخياً حصيلة ما أسماه أدونيس ب"صدمة الحداثة". انه يتميز بتركيب اجتماعي نفسي متناقض في كافة أوجهه، ينعكس في حالة العجز والشلل التي هو فيها: عجزه الوظيفي في ممارساته الروتينية، عجزه السياسي في نظامه الداخلي وفي تحقيق أهدافه الوطنية والقومية، شلله العسكري والتنظيمي في حماية مصالحه العليا، وتقصيره في التخلص من التبعية وفي التوصل الى الاستقلال الحقيقي والحداثة الصحيحة.
على الرغم من كل هذا فإن النظام البطركي أو الأبوي على جانب كبير من الدهاء ومن المقدرة على البقاء. فهو قادر على حجب ماهيته البدائية المختلفة بمظاهر الحداثة والرقي فيبدو كأنه مجتمع متطور على وشك الانتقال الى مرحلة اجتماعية اقتصادية أعلى. وهو قادر على إشباع نهم طبقاته الاجتماعية المسيطرة وفي الوقت نفسه على تخدير جماهيره الواسعة وكبتها.
نحن بحاجة الى أسلوب تحليل علمي يمكننا من نقد الحضارة البطركية الجديدة أو المستحدثة نقداً علمياً شاملاً ومن الكشف عن حقيقتها الداخلية. والسؤال هو كيف يمكننا تمييز النظام البطركي النظام الأبوي عن النظام الحديث؟ ما هي المقولات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تحدد هذا التمييز وتبينه مباشرة؟ خذ، مثلاً، المقارنة الواردة في الجدول ادناه بين مقولات الحداثة ومقولات البطركية التي أشرنا الى بعضها أعلاه.
المجتمع البطركي محافظ بطبيعته، يرفض التعبير، ولا يقبل به إلا في حالتين، عندما يفرض عليه من الخارج، كما حدث في مجتمعنا منذ بداية الغزو الأوروبي، وعندما يكون التحديث ضرورة حيوية للحفاظ على الذات. لكنه في كلتا الحالتين لا يأخذ بالتغيير إلا جزئياً وبعد أن يكيفه لمقاصده، فيتحول التحديث الى آلية تحافظ على الوضع القائم بدلاً من تغييره.
لهذا نسمي حداثة المجتمع البطركي بالحداثة البطركية، فهي حداثة مزيفة لا تسير بالمجتمع الى الحداثة الحقيقية بل الى المجتمع البطركي المستحدث. انها حداثة، مهما أدخلت من تغييرات، لا تغير البنية الاجتماعية القائمة، ولا تمس منها إلا مظاهرها الخارجية. قد تغير الصورة لكنها لا تغير الواقع وراء الصورة.
لا أريد الإطالة في تعريف ما ندركه جميعاً إذا ما أتيح لنا أن ننظر الى ما حولنا من خلال المفاهيم التحليلية الأولية كما نفعل الآن، وأود الانتقال الى السؤال التالي:
ما الذي يجلب الحداثة في البنية الاجتماعية وبالتالي في تركيب الفرد النفسي، وما الذي يمنع قيامها أو يشوهها؟ أو، بعبارة أخرى، كيف يمكن تجاوز المجتمع البطركي الحديث وإقامة المجتمع الحديث فعلاً؟
العقبة الكبرى التي تمنع التغير الجذري - وتحول دون قيام الحداثة الحقيقية - هي الحضارة البطركية نفسها. فهي قادرة بكونها في مركز السلطة، أن تحافظ على نفسها وعلى علاقاتها وقيمها، وذلك ليس فقط بالقوة أو الإكراه فقط بل أيضاً من خلال العائلة والمدرسة والجامعة ومركز العمل ومؤسسات الدولة. وهي قادرة، من خلال هذه البنى والمؤسسات، على الحؤول دون تطور وقيام علاقات المساواة والتعاون والحرية والاستقلال الذاتي التي تمكن المجتمع وأفراده من تجاوز هذه الحضارة وتغيير بنيانها الاجتماعي من الداخل.
ونجاح البطركية الباهر على صعيد السلطة السياسية إنما هو الذي أدى الى فشلها الحضاري الشامل. أقول الفشل الشامل لأن المجتمع البطركي الحديث قد فشل حتى في تحقيق الإنجازات البدائية للمجتمع البورجوازي الذي يسير في ركبه، كالديموقراطية السياسية مثلاً، وهيمنة القانون، وحقوق الإنسان. ولقد اكتفى بتقليد نظامه الاقتصادي المستغل وعلاقاته الطبقية الظالمة. لكن أخطر مظاهر النظام البطركي الاجتماعية هي التي تكمن في التناقض الذي تنميه علاقاته الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، والذي هو انعكاس للتناقض في كافة المجتمعات الرأسمالية بين الإنتاج الاجتماعي الجماعي من جهة والملكية الخاصة من جهة أخرى. وهذا التناقض ينفي في مجتمعنا القائم أعمق القيم الإنسانية في تراثنا، كاحترام الوالدين ومن هم أكبر سناً، والطاعة الراضية لا الطاعة المكرهة، واللطف في التعامل حتى مع من هم أدنى منا منزلة، والوفاء بالوعد رغم كل مصلحة مادية، والضيافة الحقة، والنفس السمحاء، والإيمان النقي من كل غاية.
لهذا أقول ان مرحلة البطركية المستحدثة التي نمر فيها اليوم هي من أقصى وأصعب مراحل التحول الاجتماعي في تاريخنا وأخطرها بالنسبة لمستقبلنا البعيد. أود أن أتناول هذا بإيجاز موضوع التناقض الداخلي في الذات البطركية بين قيم التبعية heteronomy وقيم الاستقلال الذاتي autonomy.
ينعكس هذا التناقض في نظامين أساسيين للقيم المجسدة في العلاقات الاجتماعية، الأول يقوم على الطاقة والخضوع، أي على أخلاقية التسلط Ethics of authority والآخر على مبدأ العدالة والاحترام المتبادل، أي أخلاقية الحرية Ethics of freedom.
يقول العالم النفسي السويسري بيير بياجيه ان الطفل عندما يبلغ السابعة أو الثامنة من العمر يدخل بشكل طبيعي في مرحلة الخضوع والطاعة في علاقته بوالديه والكبار حوله. في هذه المرحلة يتقبل الطفل أوامر الوالدين أو من يمثلهما دون تردد طالما كانا معه جسدياً. أما في حالة غياب الوالدين فينتهي لدى الطفل نظام الأوامر أي نظام الطاعة، ولا يعود لهذا النظام سلطة على الطفل الى أن يحضر الوالدان أو من يقوم مقامهما فتعود هيمنة أخلاقية السلطة.
في مرحلة لاحقة، عندما يصبح الطفل في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، تتحول سلطة الوالدين بالنسبة للطفل من سلطة خارجية أوامر الى سلطة داخلية مندمجة في النفس internalized. في هذه المرحلة يتقبل الطفل ما يؤمر به فقط من الذين يعتبرهم أعلى منه منزلة فهو لا يتقبل أوامر أقرانه، مثلاً، أو أوامر من هم أصغر منه سناً. وينبع هذا السلوك الجديد من شعوره بالاحترام لمن هم أعلى منه منزلة، وبخاصة والديه، لسببين: لخوفه منهم ولمحبته لهم في آن. ويكون هذا الشعور بالاحترام في هذه المرحلة علاقة وحيدة الجانب، أي أنها تربط، كما يقول بياجيه، بين من هو أدنى مكانة وبين من هو أعلى مكانة، وهي بذلك ليست علاقة متبادلة تقوم على احترام متبادل. ولهذا فإنها تعزز في الطفل أخلاقية الخضوع وانصياعه لإرادة خارجة عنه، الى أن يدخل، بالتعاون مع والديه والكبار حوله، في مرحلة نفسية جديدة، تنقله من مرحلة الخضوع والتبعية heteronomy الى مرحلة الاستقلال الذاتي autonomy. ولا يحدث هذا إلا عندما تستبدل علاقة الاحترام الوحيدة الجانب بعلاقة الاحترام المتبادل، فتنشأ في نفسه أخلاقية الحرية، أخلاقية المساواة والعدالة. ويقول بياجيه انه عندما يدخل الطفل في هذه المرحلة يصبح قادراً على النقاش والتعاون، وعلى التمييز بين "العادات" و"المثال العقلاني" rational ideal، وفي هذه اللحظة يذوب نظام القهر ويحل مكانه نظام التعاون الحر.
والنقطة التي أريد التشديد عليها هي أن مرحلة الانتقال هذه تبقى في العائلة البطركية مرحلة غير مكتملة، أي أن قيم الخضوع والطاعة والعلاقات الهرمية تستمر في هيمنتها بشكل آخر، وتبقى قيم الحرية والتعاون والمساواة قيماً لفظية فاقدة المفعول على الصعيدين الاجتماعي والنفسي. وتكون النتيجة، حسب قول العالم النفسي فلهلم رايخ، أن المجتمع يفرز "إنساناً يخاف من الحياة ويخاف من السلطة، مما يمكن حفنة من الأفراد المسيطرين على اخضاع شعب بكامله".
لنتوقف هنا قليلاً لنرى هل بإمكاننا إيضاح المغزى الاجتماعي لمرحلة الانتقال هذه وسبب عدم اكتمالها في العائلة البطركية.
إن المغزى الاجتماعي لهذه المرحلة يعود الى ما ذكرته حول العلاقة بين الذات الاجتماعية، أي الذات التي يحتاجها المجتمع لإنتاج ذاته، والنظام الذي يقوم عليه المجتمع. وحلقة الوصل بين هذه الذات وهذا النظام هو المؤسسة الاجتماعية الأولية التي تربط بها كل مؤسسة اجتماعية أخرى، وهي مؤسسة العائلة أو الأسرة. ان أدنى متطلبات المجتمع البطركي الذي يقوم على العلاقات الهرمية هو المحافظة على النظام الأبوي في العائلة، الذي يشكل ضمانة استمرار القيم الأبوية والعلاقات الهرمية في المجتمع من خلال الفرد الذي يُصنع في العائلة. ولكن العلاقة بين المجتمع والعائلة ليست وحيدة الجانب، بمعنى أنه إذا جرى تغيير في النظام العائلي أدى ذلك الى التغيير الاجتماعي. فالعلاقة جدلية، وما يجري في جانب منها يجري في الجانب الآخر، فيتفاعل الإثنان تفاعلاً مباشراً لإنتاج العلاقة ذاتها بمحتوى أعلى وأكثر تقدماً. لكن مصدر التفاعل، أي مصدر التغير في محتوى العلاقة، لا يمكن أن يحدث داخل العائلة، بل إنه يبدأ في داخل المجتمع. فالمجتمع الزراعي الساكن، مثلاً، الذي ينتج كفافه ويستهلك كامل نتاجه هو مجتمع لا متغير ولا فعالية فيه، وتكون العائلة فيه بنية جامدة تعكس علاقاتها المحافظة علاقات هذا المجتمع ونظامه. فقط عندما يحدث ما يغير من القوى الفاعلة في المجتمع، على صعيد مادي، تبدأ عملية التغير الجدلية فتظهر ملامحها الاجتماعية أول ما تظهر في العائلة والعلاقات السائدة فيها.
وسؤالنا الأخير: ما هي الطرق الى التغيير الاجتماعي، وما هو المخرج من المجتمع البطركي؟
إن التغيير الاجتماعي في مجرى التاريخ عملية من أصعب وأدق وأخطر التجارب الإنسانية، والتغيير لا يحصل بعامل الإرادة وحدها ولا يسير نحو هدف يحدده المجتمع بمحض إرادته. بل هو نتيجة عوامل وقوى مختلفة، ذاتية وموضوعية، اجتماعية وحضارية، تترابط وتتداخل بعضها ببعض.
بالنسبة الى مستقبل مجتمعنا البطركي الحديث يمكن القول ان مصير عملية التغيير الاجتماعي يرتبط الى حدٍ كبير بثلاثة عوامل داخلية:
1 - حصول تغير في الذات الاجتماعية من خلال التغير في تنشئة الطفل. دخل مجتمعنا في عملية تغيير واسعة بسبب أسلوب وكمية إنتاجه وبالتالي في علاقاته الداخلية خصوصاً داخل العائلة، وأصبحت العائلة العامل الاجتماعي الأول في عملية التغيير الاجتماعي الطويل المدى. ولا مخرج هناك من الدورة المفرغة، دورة انتاج الذات البطركية التي تنتج المجتمع البطركي الذي ينتج الذات البطركية، إلا بكسرها عن طريق تغيير العلاقات العائلية لصنع ذات اجتماعية جديدة تعتمد في علاقاتها مع الآخرين لا على السيطرة والخضوع بل على التعاون والمساواة والعدالة والحرية. من هنا يبدأ بناء مجتمع حر مستقل. وبهذا المعنى فإن الحرية والاستقلال ليسا شعارين سياسيين ينتهي دورهما بإعلان السيادة والاستقلال، بل إنهما الركيزتان الأساسيتان لتجاوز الحضارة البطركية في البنية النفسية للفرد كما في الصرح الحضاري للمجتمع.
2 - تحقيق تحرير المرأة ليس فقط على صعيد النية الحسنة والإصلاحات الصورية بل على مستوى القانون والممارسة الاجتماعية. وأول ما يتطلبه هذا المشروع المساواة في التنشئة في مرحلة الطفولة بين الذكر والأنثى، وفي المعاملة ضمن العائلة وفي المدرسة وفي الجامعة ومكان العمل. وهو يعني إتاحة فرص التكافؤ والاستقلال الاقتصادي، فتصبح المرأة قادرة على إعالة نفسها والتخلص من عبوديتها المادية للرجل، الذي هو مصدر عبوديتها الاجتماعية. وهذا بدوره يعني التشريع الذي يحميها من سطوة المجتمع البطركي الذي هو من أقسى وأعنف أنواع المجتمعات الذكورية، بتأمين حقها في العمل والوراثة والطلاق ورعاية الأطفال والتأمين الاجتماعي الكامل.
3 - تعزيز النووية الأسرة الصغيرة التي تشكل السلاح السري الأول الذي أصبح موجوداً داخل المجتمع البطركي والقادر على تغييره من الداخل. فكما ذكرنا، فالسلطة البطركية، وجميع القيم والعلاقات التي تتحصن وراءها، إنما ترتكز على العائلة البطركية الممتدة. لا يمكن للطفل أن ينشأ حراً، أو للمرأة أن تربح انسانيتها أو للرجل أن يسترجع كرامته طالما بقي المجتمع على حاله. لهذا أقول ان الأسرة النووية تشكل اليوم بذرة التحول نحو الأسرة الديموقراطية، وتشكل حجر الزاوية لبناء المجتمع الديموقراطي السليم.
ان الانتقال من مجتمع العلاقات التقليدية الى مجتمع العلاقات الحديثة، أي الانتقال من نظام الهيمنة الأبوية الى نظام المساواة والتحرر، يعني التحول على الصعيد الإيديولوجي الاجتماعي القيم، القانون وعلى الصعيد المادي الاقتصادي الانتاج، التوزيع الذي يتم عن طريق عقلنة أو ترشيد المجتمع ومؤسساته. أي، في المكان الأول، عن طريق استبدال الإرادة الفردية بالقرار الديموقراطي وتوزيع السلطة ومراكز الإدارة العامة لا على الأقرباء والمقربين بل على ذوي التخصص والكفاءة. انتاج ذاتها بشكل مستمر ومتغيّر. ان الانتقال الى الحداثة يعني أيضاً الدخول في معاناة الحداثة وتناقضاتها، كما نشاهد في المجتمعات الحديثة لكن هذه قضية لا نستطيع تناولها في هذا السياق. ما باستطاعتنا قوله ان الحداثة تبقى هدفاً اجتماعياً لا يمكن التنازل عنه، فالتنازل عن الحداثة يعني التنازل عن القدرة لإيقاف التفتت العربي وانهيار مجتمعاته القطرية.
وختاماً، أعيد القول، ان التحولات الاجتماعية على أنواعها لا تتحقق بواسطة العامل الذاتي وحسب. فهناك أيضاً العوامل والقوى الموضوعية التي تفعل في كل مجتمع من خلال ديناميكية البنيوية ومن خلال تناقضاته الداخلية. لكن التذكير بالعامل الموضوعي لا يلغي دور الإرادة الذاتية، دور الأفراد والجماعات العاملة في المجتمع. ما أقصده هو التنبيه الى دهاء النظام البطركي وحيله وضرورة استنباط الوسائل والأساليب الفعالة لمحاربته لا المجابهة المباشرة، كما يُفضّل، بل بالوسائل التي يوفرها القانون وتتيحها لغة النقد والتفكيك ويؤمنها الذكاء المضاد.
إذاً، التغيير الاجتماعي ليس ممكناً وحسب، بل إنه محتم ولا مهرب منه في أي مجتمع. لقد أصبح الانفتاح الثقافي في نهاية القرن يعمّ العالم بكامله، ووسائل التواصل امتدت ولن توقفها رقابة. والمعرفة أصبحت في متناول الجميع. ان عهد البطركية قد انتهى أو أوشك على النهاية. والموضوع هو، على أي شكل ستكون نهاية هذا النظام الغاشم وفي أية ملامح ستبرز بدايات النظام الديموقراطي الجديد؟
* أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون ورئيس "المركز الفلسطيني للدراسات السياسية" في واشنطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.