بينما كان السيد تيتو، صاحب ملايين الدولارات الاميركي، يدخل مبتهجاً المركبة الفضائية الروسية قبل اقلاعها الى الفضاء الخارجي القريب، و"يسوح" في الحجرة تحت نظر عدسات التصوير وأنظار المشاهدين، كان ستة شبان وخمس شابات يدخلون جناحاً منعزلاً، بني لأحد عشر متطوعاً، في ضاحية من ضواحي باريس القريبة. وعلى حين اقتصرت رحلة السائح الفضائي الأول على أيام قليلة، عاد بعدها الى عالم الانسيين ولم ينقص الا عشرين مليون دولار سددها من ثروته، تطول رحلة المتطوعين الأحد عشر، إذا لم يستقيلوا من الاقامة المنعزلة في الجناح "اللوفت"، ومنه عنوان البرنامج: "لوفت ستوري"، على مثال "حكاية حب" - "لوف ستوري" - عمداً وإيحاءً بتشابك "الحب" و"الجناح"، تطول رحلتهم عشرة أسابيع تامة. وفي أثناء الأسابيع العشرة هذه، وهي كان ابتداؤها في 26 نيسان ابريل المنصرم، تتولى احدى شبكات التلفزة الفرنسية م 6 البث اليومي لوقائع الحياة في الجناح، ويحق لعدسات التصوير المبثوثة في كل أنحاء الجناح، ما خلا بيوت الخلاء أو المرايحض، التقاط صور الأحد عشر شاباً وشابة، طوال الأربع والعشرين ساعة اليومية. والى عدسات التصوير وعددها ست وعشرون عدسة يلتقط خمسون لاقط صوت، مبثوثة بدورها في أرجاء الجناح، الهمسات والهمهمات في حجرتي المنامة المشتركتين في حجرة خمسة أسرّة وفي الأخرى ستة أسرّة، وتلتقط المحادثات في حجرة الطعام المشتركة وفي المطبخ الأميركي الضيق. ولا تخرج الحديقة المضاءة، حول الجناح، ومساحتها 380 متراً مربعاً، وفي وسطها مسبح، عن دائرة التقاط الصوت، ولا عن "عيون" آلات التصوير الشرهة واليقظة. وعلى خلاف الأيام الثلاثة أو الأربعة التي قضاها السيد تيتو في قمرة المركبة الفضائية، وآلة التصوير المصوبة عليه تنقل نثرات تأملاته ومشاهد سباحته الطليقة من الجاذبية من غير لحمة أو عقدة تربط بين أجزاء الكلام أو المشاهد، تربط "حكاية" غرامية أو جنسية بين أبطال الجناح، الإناث والذكور العازبون ومن غير أولاد، وبين أجزاء أو أوقات الأسابيع العشر المزمعة. وهذه الحكاية هي "لعبة" متلفزة طويلة ينبغي أن تنتهي برابحيَن، هما زوجان رجل وامرأة. وقضت قواعد اللعبة في صيغتها الأولى، الى عرض وقائع الحياة المشتركة على الأنظار والأسماع، باقتراع المقيمين في الجناح والمشاهدين، في ختام آخر كل أسبوع، على اخراج واحد من "الأبطال" أو واحدة. فلا يبقى، في نهاية المطاف، غير الزوجين الرابحين، وهما يربحان ملك الجناح نفسه على شرط قضائهما ستة أشهر تامة معاً، تحت نظر آلات التصوير وتحت سمع لواقط الصورة وبقائهما معاً. وأدت المناقشة العامة والعاصفة، في شأن قواعد اللعبة، الى تبديل هذه القواعد. فصار الاقتراع يسمي أقرب اثنين الى المقترعين. وتحول من السلب الى الايجاب. الحكاية وهذه الحكاية، على خلاف سياحة السائح الاميركي الثري والمعلق في فضاء قمرته، تلم فتات الأوقات التي يقضيها الأحد عشر مقيماً في جناحهم الضيق تبلغ مساحته 225 متراً مربعاً، وتجمع نثرات الوقائع. وتقوم عقدة الحكاية، أو حبكتها، على المشاعر الأولية التي تشد الشبان والفتيات بعضهم الى بعض وتشد المشاهدين اليهم، قبل أن تسفر عن استقرار علاقات القرب والنفور على علاقة "ثابتة" بين الزوجين العتيدين. وعلى حين تركت مغامرة السائح الفضائي الاميركي الأول المشاهدين على ما يعرَّف الناس اليوم والمعلقين لامبالين ب"مغامراته" المفترضة، ثارت عاصفة من التعليقات على "لوفت ستوري" الفرنسية في الاذاعات وعلى صفحات الصحف وشاشات التلفزة ومواقع الشبكة نشأ أحد عشر موقعاً، غداة ابتداء بث المسلسل، انصرفت الى مناقشته مناقشة ساخرة، شأن موقع يزعم بث وقائع ست دجاجات وستة ديوك في حظيرة منعزلة، أو جادة. ويترجح عدد المشاهدين اليوميين، الساعة السادسة والدقيقة العشرين عشية كل يوم، بين أربعة ملايين مشاهد مداوم وسبعة ملايين وسبعمئة ألف عشية الأربعاء في 10 أيار/ مايو، بينهم ثلاثة أرباع من سنهم بين 15 سنة و24. ولعل دور الحكاية في صيغة اللعبة في الاقبال والصدود، وفي المناقشة والتنديد، راجح وكبير. فما يؤخذ على الحكاية الشابكة بين الجناح وبين العلاقة الجنسية، وهو عرضها على ملايين الأنظار والأسماع دقائق الحياة اليومية وتفاصيلها لم يبق فرنسي ربما لم يعلم بمجامعة لُوانا 23 عاماً وراقصة تعرٍ من مدينة نيس، وجان - إدوار 20 عاماً وطالب تجارة في جامعة إكس - أون - بروفانس، مساء اليوم الأول من دخول الجناح. ما يؤخذ عليها ينبغي أن يصح مثله في صور السيد تيتو. فهو كذلك يكاد لا يخفى شيء من حركاته وسكناته على المشاهدين. ولا ريب أن الفارق قليل أو طفيف بين صور قيء صاحب الملايين، وهو تقيأ في كيس وأشهدت العدسات من شاء على التقيؤ، وبين "مناقشة" طويلة في جناح الضاحية الباريسية دارت على أحوال معوية شكا منها بعض ضيوف "البيت" خلسة، أو هم حسبوا الاختلاس. وقد يكون مرد الفارق بين الأمرين والحكايتين، إذا صح ان سياحة السيد تيتو الفضائية حكاية، الى "البطلين" في الحالين، وليس الى تعمد "حكاية الجناح" الفضيحة الجنسية، على معنى الفضيحة الأول أي الكشف والاذاعة، وحسب. فالحياة الخاصة ليست بمنأى من فضول الأعين، ولا من استباحتها، في صور السيد تيتو التي لم تعثر على معلق مندِّد. وليست تجارة السياحة الفضائية أقل وقوعاً تحت قانون السوق والسلعة من انتاج "لوفت ستوري" وإعداده. ف"الحكاية" ظاهرة شبابية، على ما يدل عليه احصاء المشاهدين. ويترجح احصاء المشاهدين بين أربعة ملايين مشاهد ومشاهدة وبين سبعة ملايين وسبعمئة ألف، على ما مر. ويذهب الإحصاء، من وجه آخر، الى أن نصف الفرنسيين شاهدوا، على التوالي وفي وقت من الأوقات، البرنامج التلفزيوني هذا. وقد تدل أوقات الذروة، ذروة المشاهدة، على طريقة تناول المشاهدين والمتفرجين لفصول "الحكاية". فهم لا يتناولونها على وجه واحد، ولا على سوية واحدة، على ما يوحي أو يصرح بعض نقاد "السلعة الثقافية" والمنددون بسلطان الصورة والشاشة الصغيرة، ورأس المال من وراء هذه وتلك. وفارق الثلاثة ملايين ونصف المليون مشاهد بين حدَّي عدد المشاهدين الأدنى والأعلى قرينة على الاختيار، وعلى إعمال بعض المعايير في المشاهدة. فالذروة التي بلغت نحو ثمانية ملايين مشاهد انما حمل المشاهدين عليها الاقتراع على اخراج "البطل" الأول. ومرَّ أن الاقتراع هذا يشارك فيه من يؤدون الحكاية، والمشاهدون وهو تغير من الاخراج الى ترتيب القرب. وهؤلاء أقبلوا على الاقتراع بواسطة الهاتف اقبالاً قوياً فبلغوا أربعة ملايين مقترع وبلغت عائدات م 6 من الاتصال الهاتفي وحده 6،8 مليون فرنك فرنسي. وسبق الاقتراع خروج ثلاثة من الممثلين طوعاً، واحد منهم هو دافيد 25 عاماً، من مرسيليا تخلى عن أداء دور في "الحكاية" بعد ساعات من دخوله الجناح. وكانت الحلقات التي تلي الخروج تشهد زيادة عدد المشاهدين، وإن لم تبلغ الزيادة هذه نظيرها عند الاقتراع. فينبغي أن يُخلص من هذا الى أن الحبكة القصصية، وليس الانبهار والافتتان وحدهما، عامل قوي في المشاهدة. ولا يتستر مُشاهدون شبان وشابات على استدراج المشَاهد والصور الى التلذذ بضعف "الأبطال" وترددهم وحيرتهم، والى التمتع بانهيار بعضهم. فتقول صبية في السابعة عشرة انها وأصحابها وصواحبها لا ينفكون "يسخرون" من "سخف" ما يرونه على شاشة قنال م 6. ف"الشراسة"، على حد قولها، تنفع أصحابها وتريحهم. ويذهب فتى آخر الى أن رؤيا الناس وهم "يحطون من أنفسهم"، ويبلغون بها مرتبة "الوضاعة"، أمر "فظيع" ولكنه "ممتع". أما اللحظة التي تقول فتاة ثالثة انها تنتظرها بصبر فارغ فهي لحظة "تصدع" هذا أو تلك. وعندما أخرج عزيز 28 عاماً، حارس أمن، وكان أول الخارجين بواسطة الاقتراع في العاشر من أيار يوم الذروة، على ما مر، أبرزت تعليقات الصحف وشبكات التلفزة التباس مواقف المشاهدين وآرائهم. فكثرة من المشاهدين حكمت في عزيز هذا بالإخراج. ودعاها الى رأيها فيه استعراضُه عضلاته، وحدة احساسه بفرادة منبته "القومي" فهو وكِنزة، 24 عاماً، وحدهما من غير منبت "فرنسي". ولكن المشاهدين نفسهم لم يغفلوا عن أن باعثهم الآخر على اطراح عزيز هو "عنصرية" قد تخفى على بعضهم وتسفر عن وجهها الصريح في أحوال أخرى. وما ينكره بعض النقاد على المسلسل المتلفز "الواقعي" من اطلاقه العنان لرغبة المشاهدين "الوضيعة" في الفرجة والبصبصة يحمله آخرون على محمل مختلف. فيرون ان الظاهرة لا تقتصر على اقتحام حَرَم الحياة الخاصة والعادية، أو على مزج الحياة الخاصة بالحياة العامة، والوقائع بالتخيل. فالحياة الخاصة و"الحميمة" انفكت منذ وقت غير قليل ولا قريب من صفة الخصوصية هذه، ودخلت دائرة العلانية العامة أو العمومية طوعاً. ولا تحصى الحركات أو التظاهرات التي دعت، وتدعو الى الاقرار بحقوق هذه الجماعة أو تلك في الظهور والعلن، وتندد بقسرها على التخفي والتستر. وتعدّ هذه الحركات المساواة في العلن والظهور بين من يحسبون "شاذين" ومن يحسبون "أسوياء"، من المكاسب الحقوقية والقانونية البارزة في العقود الثلاثة الأخيرة. أما عرض النفس وجسد هذه النفس و"إنائها" على النظر والانتباه والرغبة فهو في الأعمال الفنية، السينمائية والأدبية، أوضح منه وأوقح من الحال في البرامج المتلفزة الواقعية التي يمثل برنامج أو مسلسل "حكاية جناح" ذروة من ذراها. فلا تكاد المقارنة تصح بين ما يسمى مشاهد جنسية في أشرطة سينمائية فنية أو في روايات أدبية كثرت في العقد الأخير، وبين طرف المؤخرة النسائية الذي تتناوله العين من وراء ستارة الحمام في البرنامج "الواقعي" الفرنسي. سوابق وكانت مثل هذه المناقشة ثارت في مطلع الستينات من القرن العشرين، وتناولت ثقافة الشباب الغنائية والموسيقية الجديدة يومها البيتلز في انكلترا، و"اليى يى" في فرنسا، وقبلهما إلفيس بريسلي و"الروك أند رول" في أميركا. وتناولت المناقشة كذلك السينما الاميركية "التقليدية"، مثل أفلام رعاة البقر والأفلام والأعمال البوليسية. وتوسل نقاد هذه التظاهرات الثقافية وأعمالها بالحجج التي تتكرر اليوم ويحتج بها المنددون ب"التلفزة القمامة" وب"التلفزة من فتحة الباب". فأنكروا على الأغاني والموسيقى والأفلام قوة العبارة عن معان عامة واختبارات جديدة، وأخذوا عليها تكرارها المعاني المتداولة والأنماط المألوفة. والحق ان ما يردده اليوم أصحاب النقد "الراديكالي" للسيطرة الرأسمالية وللعولمة، وكان ذهب الى مثله نقاد الثقافة الجماهيرية قبل أربعة عقود، لا يجدد كثيراً في نقد فلسفي وثوري سياسي سابق يعود الى العقد الثالث العشرينات والى العقد الخامس. ويترجح هذا النقد، مذ ذاك، بين التلويح بمعيار اسطوري للحقيقة الانسانية الصافية، يوجب العودة اليه، وبين مسايرة التاريخ الأوروبي الحديث وإنجازه تمييز الانتاج والادارة من العمل أو المعاملات بين الناس والتعبير الجمالي والفني والشخصي مسايرة مستسلمة و"ذليلة". أي ان اصحاب نقد التشييء والسيطرة "الفولاذية" لقانون السلعة يخيِّرون معاصريهم بين حمل "لوفت ستوري" على القمامة والنفاية البذيئة، وذلك باسم الفن الكبير ومتحفه الثابت، وبين ازدرائها ومساواتها إما بالمحرمة الورقية أو بمعسكر الإبادة كناية عن عزلة الجناح، وارتفاع أسوار الحديقة، والإضاءة الدائمة والباهرة، وإيجاب الاختلاط والحؤول دون العزلة. وبعض من لا يرون رأي النقاد الصارمين، ولا يرون رأي خصومهم من مداحي كل ما تتفتق عنه "الحداثة" من طرائف، ينبهون الى الفارق بين البرامج المتلفزة "الواقعية" هذه وبين الأعمال السينمائية والأدبية "الإباحية". فهو، على حسبهم، ليس فارقاً في الكم، ولا يختصر في عدد المشاهد، ولا في ما تظهر وتبدي ونسبته مما تخفي وتستر، بل هو فارق في التناول والمعالجة والعبارة. فعلى حين تتوجه الأعمال الفنية الإباحية الى المخيلة، وتنبه الى الفاصل بين المتخيِّل وبين ما يتخيل وتدعو المشاهد أو القارئ الى ألا يغفل عن فعل الإنشاء والدلالة التمثيلية والمجازية، تدعو المسلسلات "الواقعية" المشاهد الى ترك كل تحفظ عما يرى ، والولوغ فيه ولوغاً سادياً ومتلذذاً بمكانة المشاهد والناظر المزعومة. ولكن افتراض النقاد الصارمين و"الراديكاليين" استلاب المشاهد أمام شاشته، وتسليمه التام للمشهد، اشتطاط في "التأويل ومبالغة فيه، على ما ظهر من تغير الإقبال على المشاهدة علواً وهبوطاً. وعلى ما ظهر من حمل المشاهدين والمجلس الأعلى للمرئي والمسموع معدّي البرنامج ومنتجيه على تغيير قواعد اللعبة من الاخراج والاطراح الى ترتيب "الأبطال" قرباً وبعداً، ومن تدخل المحامين وأهل القانون في شروط العقد بين الشركة المنتجة والمتطوعين. وفي سياق المشاهدة والمناقشة والاقتراع، وتؤدي هذه مجتمعة الى التدخل في الحبكة الداخلية والخارجية، يوجب اللاعبون والمشاهدون معايير بناء هوياتهم الفردية. فالهويات الفردية تخلصت، على مقادير وأنحاء مختلفة، من الاملاء والفرض الجمعيين. وضعفت المثالات والنماذج العملية والخلقية والجمالية الجامعة والعامة. فالأفراد نفسهم موكلون برسم هوياتهم و"نحت ذواتهم"، على قول بعض المراقبين والدارسين. وهم يتوسلون الى ذلك بما كانت تتوسل به خاصة الناس ونخبهم من مرآة لذواتهم، يعرضون فيها ذواتهم على مرأى أمثالهم ونظرهم وسمعهم. ويبلورون هذه الذوات، أي هوياتهم، في صور وأحوال وأوضاع وأقوال وكنايات ومجازات يكسبون منها "امتداداً لذواتهم"، ويُشهدون عليها أمثالهم، على معنى الشهادة والإشهاد الحرفي والمرئي. أما المتفرجون فيستعملون العرض والمشهد، ومراقبتهما والتدخل في سياقهما، علامات استدلال على ما بينهم وبين من يتفرجون عليهم من شبه أو فارق واختلاف. متخلل البصبصة والفضول مواقف وآراء لا تقتصر عليهما وعلى "وضاعتهما". ف"الأبطال" يلعبون ويحاكون ويمثلون، وليسوا ضحايا مختبر ولا "فئرانه". وهم تدريجاً "يباعدون"، على قول مسرحي معروف، بين أنفسهم وأدوارهم، شأن المتفرجين. والمواقف والآراء هذه المقارنةُ المفضية الى قياس القرب والبعد، والى رسم الحدود وإنشاء الوحدات الذوات المتماسكة والسائرة "المسافرة"، على قول أحدهم والحبكة القصصية التي يفترض فيها أن تتوج ب"انتصار" زوجين كناية قاسية عن بناء "الأنا" في سياق رواية أو خبر مركب لا يكتمل، ولا يرسو على معنى جامع إلا غداة قضاء الأمر المقضي أو حمى القدر. وإذا احتسبت أمور متفرقة وكثيرة أخرى مثل أثر الجدة في الإقبال وتوقع انحسار هذا الأثر تدريجاً، ومثل فعل الرتابة واستطالة العرض سبعين يوماً تليها مئة وثمانون يوماً، والرجوع في الرأي الأول جراء مناقشة عامة وعريضة تنبه على وجود الخلل في العرض ومنها أن مثال "حكاية جناح" وهو "بيغ براذَر" الدانماركي نجم عن انتحار أحد المشاركين في الأداء - إذا احتسبت هذه الأمور وغيرها تقلصت المسألة وتضاءل شأنها. وقَدِر المشاهدون، من طريق انكفائهم ولامبالاتهم وسخريتهم، على أخذ شركة الانتاج على غرة منها، ومن حيث غرت هي المشاهدين واستدرجتهم. طريقة اختيار المشاركين في البرنامج تقدم الى اختبار المشاركة في أداء مسلسل "لوفت ستوري" الذي تنتجه شركة ASP وتبثه شاشة القنال M6 الفرنسية، ثمانية وثلاثون ألف مرشح. واقتصرت شروط الترشح على بلوغ العشرين والوقوف عند الثلاثين أو قبلها بسنة، وعلى العزوبية. واختبرت لجنة من المختصين النفسيين ومن "المحللين المجازين" في التحليل النفسي الفرويدي المرشحين بواسطة روائز واختبارات عامة في المرحلة الأولى، ثم من طريق المقابلة المباشرة. واختارت اللجنة من العدد الكبير هذا اثنين وعشرين مرشحاً، ألفت منهم فريقين من أحد عشر الفريق الواحد. والفريق بدوره يتألف من ستة شبان وخمس شابات. وبينما يؤدي الفريق الأول "أدواره" ينتظر أفراد الفريق الثاني الطلب اليهم دخول الجناح اذا تخلى أحد المشاركين عن دوره، على ما يحق له، وعلى ما فعل أحد المشاركين بعد ستة أيام على ابتداء بث البرنامج، في 26 نيسان ابريل المنصرم. والجناح السكني الذي دخله المرشحون الناجحون بُني في ضاحية غير بعيدة من باريس، هي لابلين سان ديني س. ويتألف الجناح من حجرة استقبال، وأخرى للأكل، ومن حجرتين مشتركتين للمنامة، مدت فيهما ستة أسرّة وخمسة أسرّة، الى مطبخ أميركي وحمام واحد للاغتسال. ويدعو الأمران المقيمين الى المنازعة على المكان الضيق وعلى الوقت الأضيق. ويقتصر توزيع الماء الساخن على ساعة واحدة. ويقدر منظمو البرنامج أن خلو الجناح السكني من آلة الغسيل وآلة الجلي يحمل على اقتسام الأعمال المنزلية، ويؤدي الى تأزم العلاقات بين المقيمين. وتبلغ المساحة المبنية 225 م2. وتحوط الجناح حديقة تبلغ مساحتها 380 م2، يتوسطها مسبح مكيَّف يُسلط التصوير عليه اذا ارتأى المشرفون على البرنامج ألا ينقلوا الى المشاهدين ما يجري في "البيت"، وفيها خضار ومَغْسل وحظيرة طيور. وتعزل الحديقة أسوار عالية، وتضيء الجناح والحديقة مصابيح كهربائية كانت مضاءة طوال اليوم، قبل أن تطلب هيئة الرقابة على "المرئي والمسموع" من المنتجين ترك المقيمين ساعتين في اليوم من غير تصوير. وسلط المنتجون على الجناح والحديقة 26 آلة تصوير، وضع بعضها وراء مرايا شفافة، وثلاث منها تصور ليلاً بواسطة أشعة ما دون الحمراء. ووضعوا خمسين لاقط صوت، ركبت في كل المواضع، وتلتقط الهمس بين النائمين على الأسرّة القريبة، ولم يخل منها ومن آلات التصوير غير المرحاض. وثمة معزل يسمّى كرسي الاعتراف، يسع من شاء اعتزال الباقين فيه، تحت "نظر" العدسة، ومكالمة الأخصائي النفسي منه. وقد يعمد المنتجون الى الطلب الى المقيمين أداء مشهد راقص. فإذا أخفقوا كان عقابهم الاجتزاء من موازنة الطعام أو النظافة. ويسهم هذا في تصوير اللاعبين بصورة "موضوعات" يجرى عليها اختبار، وتوجه بحسب ارادة المختبرين. وتبث الشبكة، عشية كل يوم، ملخصاً لمشاهد النهار والليلة السابقين مولفة توليفاً. ويقتصر البث "الحي" أو المباشر على ثوان قليلة. وتبث الشبكة، الخميس من كل اسبوع، برنامجاً ثانياً في الثامنة مساء والدقيقة الخمسين. ومن شاء مشاهدة "الحبساء" من غير انقطاع، أو سماعهم، في وسعه الاشتراك ببرنامجين مرمزين لقاء مقابل. العقد الذي وقعه اللاعبون ينص العقد الذي وقع عليه المشاركون في البرنامج، من الفريقين، على شروط قاسية حملت وزيرة العمل والتضامن، السيدة اليزابيت غيغو، في 14 أيار مايو الجاري، على السؤال عن القانون الذي يحتكم اليه العقد: أهو قانون العمل الذي ينص على الأجر أم القانون المدني إذا قالت الشركة المنتجة ان الأمر يدخل في باب اللعب؟ فمن مواد العقد وجوب دخول المشاركين "كرسي الاعتراف" مرة في اليوم، وكتابة يوميات.وتخلى "الحبساء" الى الشركة عن كل حقوق المؤلف، من غير رجعة ولا قيد. ويسع الشركة استغلال صور "أبطال" البرنامج تجارياً ودعاوياً، في أثناء تصوير البرنامج وبعده. ولا يحق لهم الافادة من صورتهم إلا بمعرفة الشركة، وبمشاركتها، وبحسب شروطها هي. وبعد مغادرتهم الجناح يتعهدون التفرغ لعمل الشركة الاعلاني طوال اسبوعين، الى 31 كانون الثاني يناير 2002، من غير مقابل. وينص العقد على تبرئة الانتاج من أي ضرر قد يلحق المشاركين جراء أدائهم دوراً في المسلسل، من أي صنف كان هذا الضرر، نفسياً أو عينياً مادياً أو جسدياً. ولا يحق للاعبين، في أثناء الوقت الذي يقضونه في الجناح، لا قراءة الصحف، ولا مشاهدة التلفاز، ولا سماع الاذاعة. ولقاء مشاركتهم في البرنامج يتقاضون 2260 فرنكاً فرنسياً في الاسبوع، أي زهاء ثلاثمئة دولار اميركي، ما عدا أول الخارجين الذي يتقاضى ضعفي المبلغ هذا. ويعول المشاركون، على مثال زملائهم الدانمركيين، على "قيمتهم" الاعلانية اللاحقة، أقاموا في الجناح وقتاً طويلاً أو قصيراً.