مات نزار قبّاني، إمام المحبين، وشهيد العشّاق، المتوّج بدمه، غالباً ومغلوباً، ومنتصراً على الموت بالحب، ومات فتيّاً في شيخوخته البيضاء، تلفّعه أشعاره، وتصطفّ حوله دواوينه كالأكاليل، وهي من ورود وحُمّى، وقُبَلٍ عميقة سوداء. تتداخل فيها الشهوة بالموت، والظلمة باللذة. وإذا كان أبو فراس الحمداني، قد جمع من غبار المعارك الحربيّة التي خاض غمارها، وعاد منها منتصراً أو مهزوماً، ما يشبه المخدّة، أوصى أن يوسّد فوقها رأسه في القبر، فيسمع من خلالها استمرار صليل السيوف وحمحمة الخيول، فإنّ من حقّ نزار قباني، أن يكفّن بنسيج خاص من نبض قلوب العشّاق، وخوفهم ورجائهم، ومن أخطائهم الجميلة الأولى، وطعم التفّاح الذي سرقوه من أشجارهم المحرّمة، وجذع النار الذي قضموه بأسنانهم... ومن تلك الكوى السريّة الخطرة، التي فتحوها على فردوس الجسد، ليملأوا منه عيونهم، قبل أن يحول بينهم وبينه موتٌ أو جلاد. لقد عاش نزار قباني حياته كأعلى ما يعيش مغامر وفاتح، على شفير هاوية الحريّة واللاحرية، وكان قوياً وبريئاً كطفل، وكالطفل لا يحسب حساباً إلا للشَغَف، وكالطفل يحتمي بعينيه من المخلب، وكان حسياً ومباشراً ولذيذاً ويقول الشعر كما يلعب طفل في غابة... فيؤاخي بين براءته والأهوال، وبين اندفاعاته والمنحدرات وسفينته وهبوب الرياح... وأحسب أنه سينام على مخدّة من تنهدات النساء والرجال، الذين هم مثله أطفال، في العشق والجسد واللذة والحريّة، وسيصغي في قبره، وإلى الأبد، الى حفيف هذه الأصوات، وموسيقاها الخلاّبة... وهي ليست أكثر من موسيقى حياته وكلماته. الآن، في هذه اللحظة... في تمام الساعة الرابعة من الفجر... أرى أسمع ما يشبه حصاناً يقف على العتبة. الحصان واقفٌ، منكّس وحزين، وتنبعث منه موسيقى جنائزية. الحصان ظل. الحصان وشاح أسود. امرأة عاشقة وخرساء. خلفه يتمدّد الشاعر. يموت كما لو ينام. ضبابٌ رماديٌّ يمزج بين البدايات والنهايات في المدينة. ضباب يدمج المنازل بالمقابر. إنها الرابعة من الفجر. كان الشاعر ينام ممدّداً في ثيابه الناصعة البيضاء، وتحلّق فوقه طيور الرهبة. إني أسمعه يتنفّس. يومىء، يولد، يموت، إني أراه يغوض في أكفانه البيضاء ذاهباً الى ولادته. ها هو الآن ينهض. يمشي خطوتين، يقف على العتبة. يدخل أم يخرج؟ صباح الخير يا نزار. عدت أخيراً يا ملك المنافي وسلطان العشاق؟ الأرصفة كأنها عويلٌ طويل عليك. ومن أجلك: الدمعةُ فوق الحبر. الحبر ينتشر كأنه دمٌ على الأرصفة. شعوبٌ من العشاق بدأت تقبل وهي تنتحب. بدأوا يتجمعون منذ الرابعة من الفجر، في الساحات والشوارع. أقبلوا من دمشق وبيروت وبغداد وباريس ومدنٍ أخرى لا أسماء لها، وأقبلوا من سراديب التواريخ وخطوات المستقبل، جاءوا وهم يندبون. أسهم من نار تنطلق في اتجاه الغيوم وتمزقها. رقص سامبا وحشية وملحمية تحرك كل الأجساد. أرواح في الداخل تنتحب وتبكي. وجوقة أشعار تنبعث من كل مكان، كأنها تنبعث من ميكروفونات الأبديّة، نحوك. كان على جدران المدينة، ما يشبه البقع الحمراء. رايات حزن مرفوعة فوق الأشجار وعلى الكنائس والمآذن خيط أسود من حداد. على صدور العشّاق شارات مثلها. ما رفع حجر إلاّ ووجد تحته نقاط من دم. إن للعشاق أيضاً كربلاءهم. في تمام الرابعة من هذا الفجر، يا صديقي. أهكذا...؟ أهكذا؟... أكان لا بد أن تموت يا نزار؟ يا جريح النايات وأسير ماء النجم وملاّح الجسد؟ أكان يوجد من يجرؤ عليك يا فتى يا جميلٌ يا غريبٌ يا ابن حليب الفجر وغسق المسك الدمشقي؟ لا تمُتْ يا صديقي. إني أحتاج اليك الآن. في هذه اللحظة بالذات. في هذا المكان وهذا الزمان وهذا المقهى وهذا الضيق. لا تذهب لا تتجاوز عتبة الرابعة من الفجر ولتبقَ عيناك مفتوحتين الى الأبد، كأنك فجر رودان كأنك حجر الضوء لا تمت يا صديقي وصديق أبي وأمي وصديق أبنائي وجيراني لا تمت يا جليس مراهقتي وجليس حكمتي وشريك أسراري التي كشفها الموت بل اغتالها، كاللص أو الفاتِك.