ان ديموقراطية تحترم نفسها لا توصل الى رئاسة الحكومة شخصا طارده القضاة، شخصاً متهماً بتنظيف الاموال والتعاطي مع المافيا و... هذه بعض مضبطة "الايكونوميست" البريطانية ضد سيلفيو بيرلسكوني. العدد أهاج بيرلسكوني ومجموعته المالية "فيننفست"، خصوصاً ان "الايكونوميست" ليست نشرة بلشفية! العدد نفسه وزّعه شبان الائتلاف اليساري - الوسطي في حملاتهم التي سبقت التوجّه الى الانتخابات. لكن ايطاليا العظيمة في الافكار والثقافة والموسيقى والعمارة، وذات مرة في السينما، والتي ربما كانت اجمل بلدان الارض، ليست "ديموقراطية تحترم نفسها". وهذا ما توجد عليه قرائن عدة في تاريخها القريب، وما توجد له مصادر كثيرة في تاريخها البعيد نسبياً. من دور المافيا في السياسة كبديل قذر عن الكثير من وظائف الدولة، الى دور القضاة كبديل نظيف عن دور السياسيين. ومن تدفيع الحزب الشيوعي الايطالي، ظلماً، كلفة الحرب الباردة وحرمانه من الدور القيادي الى تحنيط الحياة السياسية طويلاً في ظل المسيحية الديموقراطية. وهذا كي لا نعود مجدداً الى قصة الوحدة الايطالية المتأخرة زمناً، والضعيفة في زخمها التوحيدي. الا ان المعركة الاخيرة تشير الى بعد جديد لا يتناوله "موت السياسة" بحجة تناقص اعداد المقترعين ففي الانتخابات الاخيرة اقترع 80 في المئة ممن يحق لهم ذلك. وهذا البعد يتلخص في دعم الاعلام الاوروبي ومعه مستشار المانيا غيرهارد شرودر ورئيس حكومة فرنسا ليونيل جوسبان، لتحالف اليسار - الوسط. وفي مقابل هذه الأوروبية، كان من أول ما اعلنه بيرلسكوني، بعد فوزه، التشديد على العلاقة الخاصة لروما بالولاياتالمتحدة الاميركية. صحيح ان الفوارق البرنامجية لم تكن كبيرة بين التحالفين المتنافسين، فيما عجّ كل منهما بتناقضات لا تُحصى بين اطرافه، ولو تفاوتت. لكن الصحيح ايضاً اننا امام طرف اوروبي مهجوس بتضييق الفجوات التي تُحدثها العولمة، ومهجوس بالقيم الأوروبية التي تعبر عنها الاستقامة الشخصية لفرانشيسكو روتيللي، ومن ضمنها تحسين الحاكمية وتنظيفها. كما اننا، في المقابل، امام طرف يصعب ردّه الى القيم بيرلسكوني، فيما يمكن تنسيبه الى قيم مضادة لتلك الاوروبية عنصرية اومبيرتو بوسي وفاشية جيانفرنكو فيني "الجديدة". فائتلاف "بيت الحريات" هو، في هذا المعنى، تعبير عن الرغبة الصافية في الربح بعيداً عن القيم، لا بل بغض النظر عن القيم: وهذا ما يدل اليه حجم التضارب النوعي داخل الائتلاف ما بين فاشية قومية جداً ونزعة شمالية انفصالية جداً. وهؤلاء قد لا يكونون كلهم أميركيي الهوى بالمعنى الذي يصح فيه وصف الائتلاف المهزوم بالأوروبية، الا ان انعزالية الادارة الاميركية الجديدة ومواقفها ضد البيئة ولصالح التسلح والتهرب الضريبي، هي ظرفهم النموذجي. فهي تعفيهم من التزامات عدة واجهتها النمسا حين اختارت الفاشيين اعضاء في ائتلافها الحكومي. هذا الفرز لا يوضحه شيء كموقف المحافظين البريطانيين، بمن فيهم زعيمتهم السابقة وملهمتهم الدائمة مارغريت ثاتشر، مما جرى في ايطاليا. فالحزب المعادي لأوروبا، والمشدود بسبب او لا سبب الى الولاياتالمتحدة، كان اسبق الاوروبيين تصويتاً لبيرلسكوني. انها هزيمة للمعنى، للقلب والعقل في وقت واحد.