جولة يوحنا بولس الثاني الأخيرة، الى اليونان وسورية ومالطا، والتي كانت في بعدها الديني بمثابة شعيرة الحج يؤديها رأس الكنيسة الكاثوليكية على خطى القديس بولس، كانت التنقل الثالث والتسعين يقوم به البابا خارج ايطاليا منذ توليه "عرش" الفاتيكان قبل ما يزيد على العشرين سنة. وهو يزمع أسفاراً أربعة اخرى في مستقبل الأيام، اثنان منها بُرمجا الى اوكرانيا، في مجال توطيد الانفتاح على أوروبا الأخرى، الشرقية، والى ارمينيا، سعياً الى استعادة بعض الجذور التاريخية للمسيحية، ناهيك عن حضور اليوم العالمي للشبيبة، ذلك الذي سيعقد في سنة 2002 في مدينة تورنتو الكندية. لم يوجد في التاريخ الحديث للكنيسة بابا رحّالة مثل الحالي، جعل من الترحال عنصراً اساسياً من عناصر ديبلوماسيته وحضور المؤسسة التي يرأس عبر أرجاء العالم، يوسع من خلاله مجال تواصله بالشعوب وثقافاتها ودياناتها المتباينة. ويلج بواسطتها فضاءات رمزية أو جغرافية، كانت محرمة أو متعذرة لهذا السبب التاريخي أو الديني أو ذاك، خصوصاً في السنوات الأخيرة. وهذا على رغم وطأة الشيخوخة إذ سيُتم البابا في الأيام القليلة المقبلة سنته الواحدة والثمانين وشدة المرض، وما يخلفانه من إعياء ومن عناء في تجشم أعباء السفر، وبطء الحركة وعسر النطق بل امتناعه في بعض الاحيان. ما الدافع الى كل تلك الحركة؟ هل هو الولع بملاقاة الجموع، على ما يزعم البعض، من قبل بابا على قدر من كاريزما بالغ، ويعلم ذلك علم اليقين؟ ام ان السفر بالنسبة الى يوحنا بولس الثاني وجه من أوجه مشروع ورؤية لديه أوسع وأبعد مدى؟ وفي ما يتمثلان إن وجدا؟ ما تمكن ملاحظته، بادئ ذي بدء، انه اذا كان لا يسع أي حاكم على وجه الأرض، مهما كانت مدة ولايته، ان يحلم، في أفضل الحالات، بأكثر من زيارة واحدة تنطبق عليها صفة "التاريخية"، فإن رأس حاضرة الفاتيكان هذه التي تشكل في الآن نفسه كياناً هزيلاً ضئيلاً في عداد الدول وقلب ضرب من امبراطورية روحية مترامية الاطراف، قد سجل من مثل تلك الزيارات التاريخية الكثير، بعضها لم يكلفه سوى الانتقال من حي الى حي في روما، كما لدى اقدامه في 1986، على زيارة كنيس يهودي، فكان بذلك أول قائد ديني مسيحي من مصافه يأتي خطوة كتلك. في حين ان بعضها الآخر اخذه الى عديد من بقاع الأرض بل الى بعض أقاصيها... فكان يوحنا بولس الثاني مثلاً لا حصراً، البابا الذي زار كوبا. واستنكر الحصار الاقتصادي المسلط عليها، غاضاً الطرف عن نظامها الشيوعي، ذي العقيدة الإلحادية. كما كان البابا قد توجه الى المغرب، مخاطباً عاهله الراحل الحسن الثاني بصفته "أمير المؤمنين" وواضعاً زيارته تلك على صعيد التحاور بين الاديان. والى تنقلاته الأخيرة، خلال الأيام القليلة الفائتة، الى اليونان، كان بذلك أول بابا كاثوليكي غربي تطأ أقدامه معقل الارثوذكسية الشرقية، منذ الانشقاق الذي طرأ على جناحي المسيحية التاريخية قبل نحو الألف سنة. فاعتذر عن الدمار الذي ألحقه الصليبيون بالقسطنطينية، ومد يده مطمئناً وداعياً للحوار. على رغم ان أقطاب الكنيسة الارثوذكسية المحلية استقبلوه ببعض برود أو بخطب شاكية متذكرة متشجنة. اما زيارة يوحنا بولس الثاني الى سورية، فتخللتها بدورها محطات فارقة غير مسبوقة، ان على الصعيد المسيحي - المسيحي، حيث أجريت لقاءات اتسمت بالحرارة، مع ممثلي كل كنائس الشرق الأوسط تقريباً، وان على الصعيد الاسلامي - المسيحي، حيث كان لدخول البابا الى مسجد اسلامي، أي المسجد الأموي في دمشق، فعل الخرق، من الجانبين، لمحرم ظل سارياً حتى تلك اللحظة على العلاقة بين الديانتين السمويتين منذ أن وجدت تلك العلاقة: نزاعاً في الغالب، أو وئاماً أحياناً. ولا شك في ان ذلك المسعى البابوي، ونوعية الاستقبال الذي حظي به من الجانب الاسلامي، قد مثلا بعداً جوهرياً في رحلة يوحنا بولس الثاني، وان عتمت عليه الملابسات السياسية الدراماتيكية لمنطقة الشرق الأوسط بعض الشيء. ذلك ان رأس الكنيسة الكاثوليكية لم يقم بزيارة سياسية، وذلك ما يبدو ان بعضنا لم يفهمه على نحو جيد، ليس لأن الفاتيكان براء من السياسة، فالأمر ليس كذلك، ولا لأنه متعفف عن شؤون الدنيا زاهد في هزات التاريخ، لا ينشغل الا بما تسامى روحياً. بل لأن هواجس البابا، في هذا الضرب من الزيارات التي أداها الى اليونان والى سورية، من طبيعة اخرى ومن مرتبة مغايرة. لذلك نراه لم يعر للاعتبارات السياسية ومجرياتها الآنية، كبير أهمية. فلا هو توقف عند ما يبديه بطريرك الموارنة اللبنانيين من مآخذ على دمشق. ولا هو خاض في النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي من غير جوانبه الانسانية، أو من غير باب التذكير بالمبادئ العامة لموقف الفاتيكان من التسوية، على أساس احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها استناداً الى "قرارات الشرعية الدولية" ومتطلباتها. ولا هو استجاب الى الاسرائيليين وقبل الخوض في السجال الذي أثارته التصريحات التي أدلى بها الرئيس السوري بشار الأسد حول اليهود. فالبابا يضع، على ما يبدو، جولته الأخيرة على مستوى آخر، أي بوصفها حلقة في جهد كان قد انخرط فيه منذ سنوات، لمراجعة الحدود التاريخية للكاثوليكية أو لاعادة فتح ما انغلق منها. وهو ما يبدو انه ينضوي بدوره ضمن رؤية أشمل قد تكون تلك المتمثلة في اجراء مراجعة شاملة للكنيسة، موقعاً من العالم ومن الآخرين واسلوبَ عمل وفكر ووظيفة ومحتوى قيمياً. فالبابا الحالي مسكون بالتاريخ مهجوس به. ذلك ما قد لا يكون بالأمر الاستثنائي بالنسبة الى رجل يستوي على رأس مؤسسة مثل الكنيسة الكاثوليكية، عريقة متصلة الذاكرة، كانت على الدوام في قلب المسار التاريخي ضحية أو جلاداً، اتسع نفوذها في بعض المراحل حتى كان البابا هو من يتوج الأباطرة. وتقلص في بعض المراحل الأخرى حتى كانت دولة بين الدول احتراباً وتقلبَ تحالفات ومناورات دنيوية جداً. غير ان ذلك الانشغال بالتاريخي ربما صح على البابا الحالي على نحو خاص، وهو الآتي من خلف ما كان يعرف ب"الستار الحديدي" والذي عاش جل مآسي الحداثة، خصوصاً في القرن العشرين. والظاهر ان يوحنا بولس استخلص من كل ذلك أمراً اساسياً، هو ان الكنيسة اخطأت منعطف الحداثة في الطور الكلاسيكي الصناعي لهذه الأخيرة وما واكبه من تحولات فكرية وسياسية واجتماعية وقيمية عميقة. فكان ان جرى كل ذلك من دونها أو ضدها. اذ قابلته بالعداء أو بالانكفاء وبالإسراف في المحافظة، وان الكنيسة دفعت ثمن سلوكها ذاك باهظاً، وذلك ما لا يجب ان يتكرر على يديه في طور الانتقال الى العولمة هذا الجاري. يبدو البابا يوحنا بولس الثاني اذن ضالعاً في عملية ملاءمة الكنيسة مع متطلبات عصر العولمة، آخذاً ببعض قيمه، من حوار مع الديانات والثقافات الاخرى أو سوى ذلك، منتقداً أو نابذاً بعضها الآخر، ساعياً الى تذليل ما كان من العداء عتيقاً ذوت مبرراته، أو الكثير منها، أوما لم يبق له من وظيفة راهنة أو ذات بال، مازجاً في ذلك بين مظاهر محافظة في بعض المجالات، تخص ما يعتبره جوهر التعاليم الكاثوليكية، ومظاهر انفتاح تتعلق بعديد المجالات الاخرى كالاعتراض الحاسم على عقوبة الاعدام مثلاً لا حصراً. بل ربما كان للبابا طموح أكبر، قد يكون المتمثل في السعي الى جعل الكاثوليكية الديانة الوحيدة القادرة على مواكبة العولمة من خلال تقديم محتوى روحي يجاري كونية هذه الأخيرة، نقداً وقبولاً دون ان يواجهها في ذلك منافس جدي. فبعض الديانات صبغته القومية طاغية، كما هو شأن الارثوذكسية أو الهندوسية أو الكونفوشية. أما البروتستانتية فتتوزع نحلاً ليس بينها من يقوى على اجتراح نظرة كونية شاملة. وأما الاسلام، في حالته الراهنة، فشاءت الظروف التاريخية اقصاءه عن بعد كوني هو في الأساس من سماته الأكيدة. واذا ما صح كل ذلك، فإن وحده من لا يفهم ذلك يمكنه ان يتوهم أن في وسعه ان يجند الكنيسة الى جانبه في حال نزاعية عينية، حتى وان كانت في أهمية قضية الشرق الأوسط خصوصاً، اذا ما تم ذلك من خلال التفوه بكلام تطلّب التبرؤ منه من الكنيسة جهداً مضنياً، وجهداً أكبر لاقناع الناس بصدق النية في ذلك. لكنهم "جماعتنا"، يلقون الكلام على عواهنه، فيمكّنون حتى مجرماً مثل ارييل شارون من ان يلوح بمعاداة السامية، وأن يجد آذانا صاغية من لدن رأي عام ليس بالضرورة واقعاً تحت تأثير "وسائل الاعلام الصهيونية وتلك الدائرة في فلكها". صالح بشير