فهم ما يجري في اسرائىل هو المقدمة الضرورية لفهم المرحلة التي تمر بها عملية السلام وما يمكن ان تنتهي اليه. فالاسرائيليون لم يختاروا آرييل شارون رئيساً لحكومتهم فقط بل اختاروه ايضاً زعيماً وملكاً مؤهلاً لقيادتهم والخروج بهم من متاهة عملية السلام بعد ان امضوا فيها سنوات عشراً هي كامل عمرها حتى الآن، وباختيارهم له منقذاً بغالبية ساحقة انما اختاروه بوصفه الممثل والمعبر الشخصي والوحيد عن ظاهرة اسرائىلية عامة يمكن تسميتها "الظاهرة الشارونية"، بوصفها احدث وربما آخر تجسيد وتعبير عن اعماق المكنونات الصهيونية والاسرائيلية في شأن قوة اسرائىل وتوسعيتها وفي شأن الموقف من الفلسطينيين والعرب وفي شأن الحرب والسلام ومستقبل اسرائىل. فشارون من وجهة النظر الاسرائيلية هو اقوى وأفضل وربما آخر طلقة في الجعبة الصهيونية، وهو من وجهة النظر العربية اسوأ وأبشع ما في هذه الجعبة. يمكن تعريف الشارونية بأنها الصهيونية وقد تجاوزت المئة عام من عمرها وبأنها القوة موضع الرهان على اعادة بث روح الشباب فيها واستعادة بعض امجادها، او على الاقل الحفاظ على بعضها والحيلولة دون وقوعها في الشراك والفخاخ التي سبق أن أوجدتها وراهنت على ديمومتها كقوة منتصرة دوماً، فالصهيونية معبراً عنها بكيانها الاسرائىلي وبآخر تجلياتها معبراً عنها بالشارونية، تقف اليوم امام مأزق لم تعهده من قبل، هو مأزق ضرورة الخروج للحرب او للسلم بعد ان شن العرب هجوماً سلمياً ناجحاً مضى عليه عقد من الزمن اذا قيس بدءاً من مؤتمر مدريد عام 1991، ومضى عليه نحو عقدين وأكثر اذا ما قيس بدءاً من قرار مبادرة السلام العربية من قمة فاس عام 1982 او بدءاً من زيارة الرئىس السادات الى القدس عام 1977. ونتيجة لهذا الهجوم فقد تمكنت مصر من استعادة سيناء بالكامل بعد ان وقعت معاهدة سلام مع اسرائىل، وتمكن الاردن من استعادة الاراضي الاردنية ووقع معاهدة سلام مع اسرائىل، ووصل الفلسطينيون الى نصف سلام او اقل مع اسرائىل بعد توقيع اتفاق اوسلو، وكادت سورية ان تصل الى اتفاق سلام لولا تلكؤ اسحق رابين ومن بعده ايهود باراك، وخلال ذلك اضطرت اسرائىل تحت ضربات المقاومة اللبنانية الى الانسحاب من الاراضي اللبنانية من دون قيد او شرط تنفيذاً للقرار 425. وبفعل هذا الهجوم وجدت اسرائىل باراك ان الاستمرار في التعاطي الايجابي مع هذا الهجوم سيدفع بها الى الانسحاب الكامل من الجولان والضفة والقطاع الى حدود الرابع من جزيران يونيو 1967، وسيدفع بها ايضاً الى اعادة فتح ملف عودة اللاجئين الفلسطينيين بكل ما يعني ذلك من اعادة فتح لملف اسرائىل بالكامل بدءاً من عام 1947. حاولت اسرائىل على امتداد السنوات العشر الماضية حرف هذا الهجوم عن اهدافه، وكان رهانها الأكبر على المسار الفلسطيني للاستفراد به وحرفه نحو الاتجاه الذي تريده له، وكان أبرز تلك المحاولات نجاح كل من شامير ونتانياهو في فرملة وصد هجوم السلام العربي، وتراجع كل من رابين وباراك خطوة الى الوراء امامه على امل احتوائه واستيعابه وبالتالي التحكم بايقاعه بما يخدم الاهداف الاستراتيجية الاسرائىلية، واليوم تستعيذ اسرائىل بالشارونية ليس فقط لفرملة هذا الهجوم وصده وانما لفتح ثغرة فيه تمكنها من تطويقه وايقافه وبالتالي العمل من اجل دحره، او على الاقل السيطرة عليها وجعله السلام موضوعاً تحت سيطرتها. وبمقتضى ذلك فالشارونية هي بمثابة تعبير اسرائىلي عن الحاجة الى اختراق الهجوم السلمي العربي، تماماً كما كانت الحاجة الاسرائىلية الى شارون من اجل فتح ثغرة في الهجوم العسكري العربي واحداث اختراق في الجبهة المصرية إبان حرب تشرين الأول اكتوبر 1973. واستناداً للبرنامج الشاروني الذي اكتسح الشارع الاسرائىلي إبان الانتخابات، فالشارونية لا ترى ان للآخرين العرب حقاً لدى اسرائىل وترفض الاعتراف لهم خصوصاً الفلسطينيين بأي حق، وهي تعتقد ان ما يمكن ان تعطيه للآخرين ليس حقاً لهم عليها بل منحة منها اليهم، وهي لن تعطيهم هكذا منحة إلا متى أثبتوا انهم اهل لها، وان لم يثبتوا ذلك لن تمنحهم شيئاً، بل ستلجأ الى استرداد ما سبق ان منحتهم اياه. ولعل الشاهد او البرهان الأكبر على ذلك يتمثل الآن بموقف الشارونية من السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فقد غدت السلطة ومعها الشعب مجرد ارهابيين بعد عودتهم الى الانتفاضة مجدداً ضد الاحتلال الاسرائىلي، على رغم منحة اوسلو الاسرائىلية لهم. وانسجاماً مع ذلك تهدد الشارونية باسقاط اتفاق اوسلو وكل ما ترتب عليه، وبالعودة الى ما قبل هذا الاتفاق والى ما هو اسوأ من ذلك ان لم تتوقف الانتفاضة فوراً وان لم تعد السلطة الى رشدها الاسرائىلي. تبدو الشارونية اليوم من خلال مواجهتها للانتفاضة كما الصهيونية قبل مئة عام، جريمة تمشي على قدمين، لكنها هذه المرة تمشي في بيئة وعلى طرق اختلفت جوهرياً عما كانت عليه الحال في السابق. ولعل ابرز ما اختلف في البيئة هو افتقاد الصهيونية سلطة انتداب تحميها او تظللها وتساعدها، والوعي السياسي والتنظيمي والنضالي الذي امتلكه الشعب الفلسطيني، والتضامن العربي والدولي مع حق هذا الشعب في التخلص من الاحتلال وانشاء دولته المستقلة وعاصمتها القدس. اما ابرز ما اختلف في الطرق فيكمن في تمرس الشعب الفلسطيني في الكفاح والتشبث بالأرض وابتداعه الانتفاضة الشعبية في مواجهة القوة الاسرائيلية، ويكمن ايضاً في الاستخدام المكثف لتكنولوجيا الاعلام في تصوير الجريمة عند كل خطوة تخطوها. تقف الشارونية اليوم عارية امام الحقيقة الفلسطينية الساطعة بعد ان فشلت الصهيونية على امتداد مئة عام في طمسها او شطبها او تجاهلها، فقد حققت الصهيونية وكيانها نصرين كبيرين في حربي 1948 و1967، وكان الفضل الأكبر فيهما للآخرين بريطانيا عام 1948 وأميركا عام 1967، وخسرت بعدها في حربين: الخسارة الأولى اعتبرها الصهاينة نصف خسارة وكانت في حرب تشرين الأول 1973، أما الثانية فقد اقروا بها خسارة فادحة، بل أقروا بأن محصلتها كانت هزيمة كاملة، وتمثلت باضطرارهم للانسحاب من الاراضي اللبنانية من دون قيد او شرط تحت ضربات المقاومة اللبنانية بعد مرور اكثر من عشرين عاماً على احتلالهم. والآن تخوض اسرائىل بقيادتها الشارونية حرباً من نوع جديد بعد ان اغلقت امامها السيل لتكرار حرب كحرب 1967 او كغزو 1982. فقد وقعت معاهدتي سلام مع كل من مصر والأردن تم من خلالهما اغلاق بوابة الحرب معها، ووقعت مع سورية اتفاق فصل قوات جعل من الصعب او المستبعد حدوث الحرب مجدداً، وخاضت تجربة حرب مريرة جداً مع لبنان لم تتعاف من آثارها بعد، اما الحرب التي تخوضها اسرائىل او تستعد لخوضها الآن فهي على الجبهة الفلسطينية. وهذه الحرب من نوع جديد للأسباب الآتية: 1- انها حرب طويلة وليست قصيرة. 2- انها حرب لا تواجه فيها جيشاً بل شعباً أعزل يقاتلها بالايمان بحق، وبالارادة والتصميم على استعادته. 3- ان العالم كله يتابع هذه الحرب بأسى بالغ متعاطفاً ومؤيداً وربماً داعماً في وقت لاحق الشعب الفلسطيني. 4- صعوبة ان لم يكن استحالة تحقيق نصر اسرائىلي حاسم فيها. 5- ان الحرب تجري على ارض تزعم اسرائىل انها جزء منها الأمر الذي يعني انها حرب داخل اسرائيل وليس خارجها كالحروب السابقة. 6- ان الحرب ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع قد تعيد فتح ملف حرب 1948 وما حل بالشعب الفلسطيني وأرضه نتيجة اقامة اسرائىل. 7- ان لفلسطينيي الضفة والقطاع أشقاء في اسرائىل ذاتها يزيد عددهم على المليون نسمة لن يقفوا مكتوفي الايدي امام ابادة اشقائهم، ولهؤلاء اشقاء اكثر عدداً في الدول المجاورة يتطلعون للعودة الى ارضهم ووطنهم. ان عدم قدرة اسرائىل على حسم هذه الحرب بسرعة، واحتمال ان تنتهي حربها الى الفشل وربما الهزيمة ايضاً سيقود الى فشل الشارونية وارتدادها كطلقة اخيرة على اسرائيل ذاتها، لتتخلص من الصهيونية وأوهامها وادعاءاتها ولتعترف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ذات سيادة في الضفة والقطاع وبحقهم في العودة الى ارضهم. * كاتب فلسطيني، مقيم في دمشق.