لا مفاجأة إن اكتشف الأميركيون جاسوساً أو بضعة جواسيس لروسيا في قلب مؤسسات أميركية رفيعة، أو حدث العكس. فزوال بعض مظاهر التنافس الاستراتيجي بين الدولتين، وأفول الحرب الباردة، بل وتحول العلاقة بينهما افتراضاً الى مستوى التحالف في شهر عسل ممتد، لا ينفي احتمال التلصص المتبادل بينهما. إن حرب التجسس لا تستثني احداً من الأطراف التي تتبادل العلاقة في ما بين بعضها البعض على الصعيد الدولي، وذلك بغض النظر عن درجة الصداقة والخصومة. ولعل المسؤولين الأميركيين يدركون صدقية هذه القاعدة في دنيا العلاقات الدولية، لا سيما وهم يعرفون ان إسرائيل ربيبة نعمتهم من أكثر الحلفاء دأباً على الأخذ بها معهم. فكيف الحال عندما يتعلق الأمر بعدو سابق ومرشح مستمر للخصومة مستقبلاً كروسيا؟ أيضاً لا مفاجأة في مزاعم واشنطن بأن الديبلوماسيين الروس منخرطون في الأعمال التجسسية. فكل الجهات ذات الصلة بتأمين بلادها تعمل وفقاً لقناعة مفادها أن معظم - حتى لا نقول كل - الديبلوماسيين الاجانب جواسيس حتى يثبت العكس. وكانت واشنطن تحدثت عن الظاهرة ذاتها في عهد الادارة الديموقراطية السابقة. ومع ذلك، فإن واشنطنوموسكو تعاملتا مع أزمة التجسس الأخيرة وكأنهما ليستا بصدد حادث روتيني. واشنطن قامت بعملية طرد جماعي للديبلوماسيين الروس، وشفعت ذلك بحملة تشهير ضد استخدام النشاط الديبلوماسي كغطاء لأنشطة التجسس. وأوحت بأنها لن تكون بكرم إدارة كلينتون في رد فعلها المائع تجاه هذا السلوك. وبدورها، أظهرت موسكو صلابة لم نعهدها في آخر أزمة مماثلة. فهي هذه المرة عاملت واشنطن بالمثل. مقارنة بردها المخفف العام 1986، حين اكتفت بطرد عشرة أميركيين في مقابل 80 ديبلوماسياً سوفياتياً طردتهم الولاياتالمتحدة. هذا التصعيد المتبادل لقضية تبدو تقليدية ومتوقعة ولها سوابق كثيرة، يمثل من وجهة نظر معقولة ويمكن تفهمها، تجلياً لمناخ أكثر تعقيداً أو أزمة أبعد غوراً على مسار العلاقات الأميركية - الروسية. والواقع ان التحولات التي طرأت على هذا المسار، منذ وصول فلاديمير بوتين الى الرئاسة في موسكو تستحق وقفة تحليلية معمقة. يعنينا من هذه التحولات في هذا المقام، ما يلاحظ من وعي القيادة الروسية بحجم الخسارة التي ترتبت على السياسة الانسحابية أو التراجعية بهدف إرضاء الولاياتالمتحدة وحلفائها، غداة الانهيار العمودي للاتحاد السوفياتي. فبوتين والذين معه يقدرون أن هذه السياسة اوقعت دولتهم في إسار أوضاع مأسوية مهينة لا تليق بها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتأكدت هذه النخبة الحاكمة الجديدة من أن التحالف الغربي يقوم بإدارة هذه الأوضاع، وأنه لا فائدة ترجى من الاعتماد على خصوم الأمس القريب في التخلص منها جذرياً. وبناء على هذا التقدير، الذي ندعي صحته، مضى بوتين بهدوء يحسد عليه، في حملة ترميم واسعة النطاق، هدفها إصلاح ما أفسدته عمليات الانقلاب العشوائي غير المنضبط في مسيرة الدولة الروسية خلال العشرية الاخيرة، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وسياسياً، داخلياً وخارجياً. وساعد على ذلك معرفة الرئيس الشاب بمواطن الخلل وأسبابها، بحكم موقعه في أجهزة الاستخبارات والأمن. والظاهر أن بعض انجازات صنيعه وتوجهاته الإصلاحية بدأت تتجلى. ففي الداخل تجري مطاردة المافيات التجارية والمالية وعصابات الجريمة المنظمة. وكان من اللافت أنه في الوقت الذي جرى فيه إسقاط محطة "مير" من الفضاء، تم عرض تكنولوجيا فائقة التطور في منظومة الصواريخ متعددة الاغراض على الارض، بما يعني أن العائق المالي لن يقف طويلاً أمام القدرة الروسية، وهذا عموماً من العوائق الموقتة. وليس بلا مغزى بالنسبة الى تحسين مكانة روسيا دولياً، ما تبديه موسكو من سياسات مغايرة، لا تنم عن التبعية لواشنطن ازاء بكين وطهران وهافانا وطرابلس الغرب وبغداد، فضلاً عن ديبلوماسيتها النشطة اوروبياً، في البلقان بخاصة، ورفضها لمبادرة الدفاع الصاروخي الأميركية. لنا أن نتوقع امتعاضاً أميركياً متزايداً من هذه الاتجاهات الروسية، التي تنذر بخروج موسكو من نفق سنوات ما بعد الاتحاد السوفياتي العجاف. وفي ذلك تفسير معقول للتصعيد الأميركي الأخير ولكن مع الحرص على عدم الإنفلات الى طور أعلى من التأزم. وفي تقديرنا أن للعرب مصلحة استراتيجية في تفهم المساعي الروسية للخروج من القمقم ودعم المكانة في النظام الدولي. وإذا كان من الصحيح أن تعزيز القوة الذاتية، هو أحد مداخل متابعة الحقوق العربية، فإن تعددية الأقطاب على قمة هذا النظام، تمثل بيئة دولية مناسبة لتحسين شروط المساومة في هذا الإطار. زال الحاجز الايديولوجي الذي ساهم في النفور العربي النسبي من روسيا الشيوعية. وصارت روسيا في عداد الدول الليبرالية الآخذة بحرية السوق ومجالات الاستثمار، وهي جار أقرب ميولاً وتاريخاً ولها أيادٍ أكثر بياضاً مقارنة بسجل الحلفاء الغربيين الحاليين، وهذه وغيرها من عناصر الدفع لتدفئة العلاقات العربية معها. ندرك أن روسيا لن تنافس مجدداً على رأس النظام الدولي بين يوم وليلة، لكن الحكمة والمصلحة يقتضيان مساعدتها على الخلاص من إسار مرحلة التحول الحالية. وأقصر الطرق العربية الى ذلك، هو الكف عن الجأر بالشكوى من سلبيات القطبية الأحادية وويلاتها، والمبادرة الى المشاركة في التعجيل بنهايتها من المدخل الروسي، ولا نعتقد أن محاولة محسوبة في هذا الاتجاه سوف يترتب عليها خسارة للعرب. * كاتب فلسطيني.