كنت أحدث الصديق محمد دحلان، رئيس الأمن الوقائي في قطاع غزة، على الهاتف من لندن عندما دخل عليه أبو عمار، فأخذ منه الهاتف ليشكر "الحياة" على مواقفها من الانتفاضة ويشكرني. وهو كان قبل ذلك طلب مني أن أشكر الزميل داود الشريان على مقالاته الفلسطينية. كلنا مع الانتفاضة، غير انني أعترف بأنني ضد الحرب، وبالتالي ضد أي عنف، وعندما يجرح طفل إسرائيلي في مستوطنة، ويرد جيش نظامي بقلع عين طفلة فلسطينية في الرابعة، تزداد قناعتي بأن المواجهة لن تثمر حلاً، وإنما الطريق هو مفاوضات سياسية، بمشاركة مصر والأردن والولاياتالمتحدة. أبو عمار قال لي إن الشعب الفلسطيني صامد ومعنوياته عالية، وهو لم يسمع شكوى واحدة من استمرار المواجهة، على رغم الحصار والتجويع وضرب البنية التحتية ومؤسسات السلطة الوطنية. وعزا أبو عمار صمود الفلسطينيين الى قناعتهم المطلقة بحقهم وشعورهم بعد القمة العربية بأنهم ليسوا وحدهم، وإنما الأمة العربية كلها معهم، ما يجعلهم يواصلون الجهد على رغم تردي الوضع الاقتصادي والأمني والصحي والتعليمي. وبدا أبو عمار وقد شجعته بعض التطورات الأخيرة، فاجتماع شمعون بيريز والدكتور نبيل شعث والدكتور صائب عريقات في اليونان، برعاية أوروبية، جاء على رغم إصرار رئيس الوزراء آرييل شارون على وقف "العنف" الفلسطيني قبل بدء اي مفاوضات، والأميركيون قرروا حضور اجتماع أمني بين قادة الأمن الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد ان كانت الإدارة الجديدة أنهت دور وكالة الاستخبارات المركزية سي آي ايه في التنسيق بين الجانبين، وأحياناً التحكيم بينهما. والوجود الأميركي مطلب فلسطيني معروف، فهم بحاجة الى "شاهد" على المخالفات الإسرائيلية والعنف والحرب غير المعلنة على المدنيين. غير أن مثل هذه التطورات لا يلغي ان العدوان الإسرائيلي مستمر ومتصاعد، وأن رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال شاؤول موفاز يدلي بتصريحات متطرفة تؤكد يوماً بعد يوم إصرار الجيش الإسرائيلي على فرض حل بالقوة على الفلسطينيين. أبو عمار اعترف بأن اجتماع اثينا والاجتماعات الأمنية لم تسفر عن نتائج محددة، غير انها تبقى خطوة في الاتجاه الصحيح، والمهم ان ينتهي العدوان الإسرائيلي. أبو فادي قال إن الاجتماعات الأمنية لا تهدف الى إعادة التنسيق الأمني بين الجانبين، فهذا لن يستأنف إلا بعد وقف العدوان ورفع الحصار وإعادة الأموال المسروقة من السلطة الوطنية دخل الجمارك والضرائب. وفي جميع الأحوال فالتنسيق الأمني سيكون مرتبطاً دائماً بسيْر العملية السلمية، فالأمن إما للطرفين، أو ليس لأحد. قلت للأخ محمد دحلان انه أصبح "نجماً". فقد قرأت مقابلة طويلة له في "نيويورك تايمز" مع صورة ملونة، وهو قال لمراسلة الجريدة ديبرا سونتاغ: "إذا كان أبو عمار إرهابياً فهل آرييل شارون هو الأم تريزا؟" في المناسبة ديبرا سونتاغ صحافية ممتازة، وهي عادلة ومعتدلة في نقل أخبار الفلسطينيين ونشطة أيضاً، ولا يمكن ان يطلب منها أكثر من ذلك، غير أنني أبقى مع محمد دحلان. كان أبو فادي على الهاتف متشائماً من سير الأحداث، فالاجتماع الأمني لم يسفر عن نتائج سوى أن تتبعه اجتماعات كما انتهى بإطلاق النار على موكب سيارات المسؤولين الفلسطينيين في طريق عودتهم الى غزة فجر الخميس. إلا أنه بدا في الوقت نفسه مصراً على مواجهة العدوان مهما كانت التضحيات، وهو كرر القول إن الحياة تساوت مع الموت في ظل الانتفاضة. حياة القادة الفلسطينيين، خصوصاً إذا كانوا مسؤولين عن الأمن صعبة، وهناك قرار إسرائيلي معلن بالنية على اغتيالهم. وأصبح بعضهم لا يداوم في مكتبه خشية هجوم إسرائيلي، وإذا اتصلنا من الخارج فالاتصال من طريق طرف ثالث، من مساعد الى سكرتيرة أو زوجة، ثم يرد المسؤول المطلوب من حيث هو، بعد مضي بعض الوقت. المسؤول يقول "تعودنا"، والفلسطيني صامد وأمته وراءه، وأبو عمار يقول: "نحن جاهزون"، ولكن الشرط هو وقف العدوان الإسرائيلي، وهو شرط يقابله شرط إسرائيل وقف "العنف" الفلسطيني. أبو عمار يتوقع نتائج إيجابية لزيارتي الرئيس مبارك والملك عبدالله واشنطن واجتماعيهما، كل على حدة، مع الرئيس بوش، فقد سمع الرئيس الأميركي منهما رسالة واحدة هي ضرورة لعب الولاياتالمتحدة دوراً نشطاً مباشراً في عملية السلام، لأن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لن يستطيعا تحقيق السلام من دون مساعدة خارجية. والرئيس الفلسطيني متفائل أىضاً بزيارته المقبلة لدمشق، فالتنسيق بين الفلسطينيين والحكم في دمشق، والتعاون والتعاضد يجب ان تكون هي القاعدة، والقطيعة الشذوذ عليها، وأبو عمار حافظ دائماً على خط الرجعة مع دمشق، فلم يدل على مدى سنوات بتصريح واحد أو مجرد كلمة انتقاد، وإنما قدّر دائماً وعلناً قيادة الرئيس حافظ الأسد مسيرة الصمود العربي. ولا أكشف سراً أن أقول إنني من خلال تجربتي المحدودة وجدت الرئيس بشار الأسد بعيداً من الحدة في الحديث عن السلطة الوطنية ورئيسها، مع ان الحدة صفة ملازمة لمسؤولين سوريين كثيرين. والفلسطينيون في النهاية، لا يصمدون إلا بقدر صمود الأمة معهم.