نشهد اليوم حال انفراج سياسي في العلاقة بين الولاياتالمتحدة ودول طالما وصفتها واشنطن بالتطرف أو "الخارجة عن القانون"، وسبق وأن وضعتها في قوائم الدول "الارهابية" وغيرها من قوائم الحظر، بما يترك مصير العراق عرضة للتساؤل، هل هذه التحولات يمكن أن تنسحب لتشمل عراق صدام حسين؟ أم ان سقوط الأخير هو ثمن هذه الانفراجات؟ والانفتاح الأميركي على إيران، كما تمثل في خطاب وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت بتاريخ 17 آذار مارس الماضي، يشكل محطة متقدمة في مسيرة التقارب الأميركي - الايراني، بدءاً من انتخاب محمد خاتمي رئيساً ورسالته المشهورة الى الشعب الأميركي في مقابلة له مع محطة "سي ان ان". وما كان لهذا الانفتاح ان يتكرس لولا التحول السياسي الداخلي في ايران نحو الاصلاح والديموقراطية، وتحول ايران من دولة مصدرة للثورة الى عامل استقرار خصوصاً في الخليج والجمهوريات الاسلامية التابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً. وسبق مسار التقارب بين واشنطن وطهران، تقارب لا يقل أهمية مع سورية، تم تدشينه في مشاركة الأخيرة في قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت، وهو اليوم يأخذ بعده الأوسع في اللقاء الثالث للرئيس السوري مع الرئيس الأميركي في جنيف، والذي قد يأخذ بعده الكامل في حال التوصل الى صيغة معاهدة سلام بين اسرائيل وسورية. كما تشهد العلاقات الليبية - الأميركية بداية "انفتاح حذر" بعد قطيعة دامت 18 عاماً، إذ زار طرابلس أخيراً وفد أميركي هدفه المعلن البحث ميدانياً في رفع الحظر على السفر الذي تفرضه واشنطن على رعاياها الى ليبيا، لكنه يمهد عملياً لإعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين. وجاء تصريح مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ادوارد ووكر 21/3/00، بأن ليبيا "اتخذت اجراءات مهمة من أجل تقليص دعمها للارهاب"، على خلفية تصريحات أميركية عن طرد أبو نضال ومجموعته من ليبيا. وحتى السودان يعيش حال مخاض سياسي قد ينتهي بانفراج سياسي مع واشنطن إذا ما استتب الأمر للرئيس البشير في تكريس انفتاح سياسي يعتمد مصالحة وطنية وتعددية سياسية تنهي هيمنة "الأصولية الاسلامية"، بما يعيد وحدة السودان بمساعدة الجوار الاقليمي والدولي. وإذا ما استثنينا العراق، فإن حال الانفراج هذه، خصوصاً الانفراج الأميركي - الايراني، كانت مبعث ترحيب شامل باستثناء مخاوف دولة الامارات العربية بسبب نزاعها مع ايران حول الجزر الثلاث. ومع ذلك ذهب مساعد وزير الخارجية الأميركية ادوارد ووكر للقول "الاتحاد"، 23/3/2000، "ان المحاولات الأميركية للانفتاح على ايران قد تكون مفيدة ... للتفاوض حول النزاع على قضية الجزر". وان واشنطن ترغب في "تشجيع القيادة الايرانية المعتدلة والمجلس التشريعي الجديد الذي يتولى مسؤولياته بعد الانتخابات باتخاذ موقف أكثر استجابة للتفاوض حول النزاع على قضية الجزر". ولكن هذه التحولات، هي بدون شك، مبعث خوف بالنسبة الى الحكم في بغداد، خصوصاً انه ليس بين هذه الدول الثلاث - ايران وسورية وليبيا - والنظام العراقي أي ود أو ثقة حقيقية، بل فيهم من لدغه النظام مرات، ولكن ما كان يدفعهم الى التعامل أو التعايش مع نظام بغداد هو "العدو المشترك اميركا"، و/أو الخوف من بديل لنظام صدام حسين متحالف مع اميركا يكرس عزلتهم أو يهدد أنظمتهم. وفي أحسن الأحوال تعاملت هذه الدول الثلاث مع نظام بغداد كورقة في صراعها مع واشنطن. ولا شك ان الانفراج الاميركي على هذه الدول الثلاث، اذا ما أخذ مداه الكامل، يغير الصورة بما يجعل الحال العراقية نشازاً لا بد من تغييره. كما ان التوصل الى سلام دائم وعادل بين سورية واسرائيل ينهي أحد أهم عوامل التوتر الاقليمي التي خدمت الحكم في العراق. فسورية تخشى تطويقها بنظام عراقي متحالف مع واشنطن يهدد استقرارها أو يستخدم أداة ضغط لتقديم تنازلات سورية لمصلحة اسرائيل، ولكن السلام السوري - الاسرائيلي، اذا تحقق، سيكرس مرة أخرى حال النشاز العراقية. ولكن هناك بعداً آخر، اضافة الى الانفراج الاميركي - الايراني والسلام السوري - الاسرائيلي، يتعلق بالعلاقة البينية بين دول الجوار الاقليمية ايران وسورية والسعودية وتركيا. لقد استثمر نظام بغداد تنافس هذه الدول وتناقضاتها من أجل الاستمرار في الحكم. فالمخاوف السعودية من هيمنة ايرانية على نظام ما بعد صدام، خدم الأخير كما خدمه خوف ايران من بديل اميركي يحكم بغداد. ان تفسير اجهاض انتفاضة آذار 1991 يجد جوابه في تلك التناقضات الاقليمية. هنا تكمن اهمية التقارب السعودي - الايراني الذي تحقق على يد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. فالدور الذي لعبه الأخير في تحقيق هذا التقارب ومساهمته في دفع مسيرة الانفراج الاميركي مع كل من سورية وليبيا والسودان، يذكرنا بدور الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز في الانفتاح على مصر عبدالناصر بما مهد الطريق لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن وفتح الطريق أمام حال من التضامن العربي والاسلامي. ان تحول التعاون الايراني - السعودي الى حجر زاوية لنظام اقليمي خليجي جديد يجعل، مرة اخرى، من الحال العراقية نشازاً لا بد من تغييره. ومع ذلك يبقى هناك عامل الخشية من انفلات الوضع في العراق نحو الفوضى أو التقسيم في حالة سقوط النظام الحالي في بغداد. إن السبيل لتجاوز هذا المحذور يكمن في وفاق اقليمي جديد. فالولاياتالمتحدة لم تشرع في حرب "عاصفة الصحراء"، إلا بعدما حققت وفاقاً اقليمياً ودولياً، واليوم مطلوب وفاق ورؤية اقليمية مشتركة تجاه عراق ما بعد صدام، تنطلق من السعودية وإيران وتركيا. وكلها لا مصلحة لها في تقسيم العراق. إن مثل هذا التفاهم الثلاثي سيحول دون استخدام الورقة الطائفية أو العرقية ذريعة لحماية النظام أو سبباً لحرب أهلية، بل ستكون دول التفاهم الاقليمي أداة وضمانة لأي مصالحة وطنية عراقية في المستقبل. شهد عام 1992 محاولة للتنسيق السوري - الإيراني - السعودي، انعكست في قيام "لجنة العمل المشترك" للمعارضة العراقية. ولكن رغبة الولاياتالمتحدة بالانفراد، والشكوك المتبادلة بين إيران والسعودية، أجهضت التجربة لمصلحة مشروع يعتمد الدعم الأميركي - البريطاني عرف باسم "المؤتمر الوطني العراقي". وكلا التجربتين انتهتا بالفشل، بما يؤكد ضرورة التعاون الاقليمي والدولي إذا ما أردنا ضمان تغيير في العراق لصالح استقرار وأمن وازدهار المنطقة. إن أحد أهم عوامل ضعف المعارضة العراقية وانقسامها، في داخل العراق أو خارجه، هو حالة التنافس والضغوط الاقليمية والدولية التي دفعت أطراف الصراع الاقليمي والدولي لاستخدام المعارضة العراقية لاغراضها الضيقة، وبقدر ما ابتعد احتمال التغيير في العراق أخذت بعض الأنظمة العربية الاقليمية تجامل نظام بغداد على حساب القوى العراقية المناهضة للديكتاتورية، كما انعكس بوضوح في وسائل إعلام بعض تلك الدول. وعليه فللقوى العراقية المناهضة للديكتاتورية كل المصلحة في قيام انفراج ووفاق اقليمي، وأي خطوة في هذا الاتجاه سيكون لها مردود ايجابي وسريع على وحدة المعارضة العراقية وفاعليتها بما يمكنها من تحمل مسؤولية التغيير في العراق. وبمقدار ما يخشى النظام العراقي من الانفراج الأميركي - الإيراني، ومن نجاح مسيرة السلام السورية - الإسرائيلية، تجد فصائل المعارضة العراقية كافة، في داخل العراق وخارجه، مصلحتها في مثل هذين الانفراج والسلام الاقليميين. * كاتب عراقي