المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة الاسلامية في إيران ... على مفترق طرق : الاصلاح أم عنف يتولى فتحه المحافظون ؟
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2001

أجواء القلق والتوجس - إضافة الى التلوث المعهود - تخيم على طهران بسكانها ال12 مليوناً. ولا يعرف أحد فيها، ايرانياً كان ام اجنبياً - ما ستأتي به الشهور المقبلة، أي هل سيستمر التيار الاصلاحي الذي اجتاح البلاد منذ 1997، أم ينهار أمام حملة المحافظين الحازمة، التي قد تتحول الى عنف مفتوح؟ وكانت انتخابات الرئاسة في 1997، التي انتصر فيها مرشح التيار الاصلاحي محمد خاتمي، ثم انتخابات المجلس البرلمان في شباط فبراير 2000، أكدت وجود غالبية كبيرة مؤيدة للاصلاح. لكن هذه الرسالة القوية من القاعدة وجدت نفسها أمام نخبة حاكمة منقسمة على نفسها، يشعر قطاع مهم منها بقلق عميق من الدعوة الى التغيير. الاختبار المقبل هو انتخابات الرئاسة في حزيران يونيو المقبل التي يلفها الغموض، حتى في ما يخص عزم الرئيس خاتمي على العودة الى الترشيح. الثورة التي اجتاحت ايران في 1979 تجد نفسها الآن أمام خيارات صعبة، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
تترافق الضغوط من أجل التغيير السياسي والاجتماعي مع نقاش واسع على وجهة تحرك البلد وتطوير الثورة والعلاقة بين الاسلام والعالم الحديث. وليس أبعد من الحقيقة في خصوص النقاش في ايران وعلاقتها بالعالم الخارجي من تصور قيامه على تغاير بسيط ما بين الأفكار والقيم "الايرانية" أو "الاسلامية" من جهة والغربية من جهة ثانية. فهناك من التنوع في ايران، وضمن النقاش الاسلامي، وحتى ما بين الأوساط الدينية، ما يعادل الفروق على النطاق الدولي ما بين الغرب والشرق. وفي دوائر العلمانيين تراجعت الماركسية، التي كانت سائدة قبل عقدين، لمصلحة الاهتمام بالفكر الليبرالي، وحل مفكرون مثل كارل بوبر وجون ستيوارت ميل، ومفاهيم مثل "المجتمع المدني" و"الطريق الثالث"، محل لينين وماو. في المقابل، هناك في ايران من يريد الحفاظ على النظام الذي اقامه آية الله الخميني خلال الثورة وحرب الثماني سنوات مع العراق، فيما يؤمن الكثيرون بوجوب تغييره. ويتمنى آخرون بقاء ذلك النظام لكنهم في الوقت نفسه يدركون ويخشون أن عدم التغيير سيؤدي الى اطاحته. وتؤدي هذه المدركات والمخاوف الى ابقاء مصائر الشاه وغورباتشوف ماثلة في أذهان النخبة السياسية.
لكن الانتخابات الرئاسية والاشتراعية الأخيرة غيرت الجو السياسي في ايران. وهناك حركة قوية تطالب بالتغيير تحمل اسم "2 خورداد"، أي 17 أيار مايو 1997، يوم انتخاب الرئيس محمد خاتمي. واذ يأتي هذا التحرك الاحتجاجي، في جزء منه، من القمة، فالأهم من ذلك منبعه من القاعدة.
هذا هو السياق الذي يجعل حرية التعبير، خصوصاً في الصحافة، موضع الخلاف الأكبر خلال السنين الأخيرة. ففي ما يخص الكتب تقوم وزارة الارشاد الاسلامي بمهمة الرقابة، لكن اصدار الكتب حرّ نسبياً في ايران، ما لم تتعرض لعدد من القضايا الأساسية المتعلقة بالدين والدولة. عدا ذلك يمكنك شراء كتب تتعامل مع الكثير من مواضيع التاريخ الايراني. وكان من بين الكتب الأكثر مبيعاً "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" لجون غراي، وأيضاً "رماد أنجيلا" المترجم عن الانكليزية، الذي قيل ان نجاحه يعود الى حد ما الى تصويره لرجال الدين الكاثوليك في ايرلندا. أما الصحافة فهي قضية أخرى. فقد شهدت ايران بعد 1997 نمواً انفجارياً للصحف والمجلات الانتقادية دارت فيها نقاشات حول العديد من القضايا السياسية والاجتماعية، مثل حقوق المرأة، والديموقراطية والليبرالية، والتفسيرات المختلفة لتاريخ الاسلام وحضارته، وأيضاً مسائل أكثر حساسية ومباشرة تتعلق بحسابات بعض كبار رجال الدين في المصارف الأجنبية وسلوك أجهزة الاستخبارات.
وتعكس هذه الصحف تذمراً واسعاً في المجتمع الايراني. ونقلت صحيفة "انترناشنال هيرالد تربيون" في 5 - 6 آب أغسطس 2000 تقريراً عن اجتماع في جامعة طهران الشهر نفسه احتفالاً باطلاق رجل الدين محسن كاديفار بعد الحكم عليه بالسجن 18 شهراً بتهمة "إقلاق الرأي العام". وحضر الاجتماع نحو ألف طالب، قابلوا بحماسة كبيرة خطاب البروفسور هاشم أغاجايري الذي قال فيه ان "تأثير الدين يكون سلبياً عندما يتماشى مع السلطة... على الذين يؤمنون بأن الشريعة بمثابة اله على الأرض، بحيث لا يمكن انتقادها أو الحكم عليها من خلال القانون، أن يناظروا المفكرين المسلمين ثم يتركوا الخيار للناخبين. الحكومة التي تقمع الفكر باسم الدين ليست لا دينية فحسب بل أيضاً لا انسانية. لقد حان الوقت للفصل بين مؤسستي الدين والحكم".
الا ان معارضي التغيير قاوموا هذه التوجهات. وواجه عدد من الكتاب المستقلين تهماً أمام المحاكم الدينية بمعارضة الاسلام أو الثورة. وشهدت سنة 1998 سلسلة من الاغتيالات للكتاب، ألقيت المسؤولية عنها على عناصر منفلتة من قوى الأمن احيلت لاحقاً الى المحاكمة. وكانت هناك في 1999 صدامات بين الطلاب وقوات الأمن. وتفاقمت الضغوط على المنتقدين في العام 2000، واعتقلت السلطات وقدمت الى المحاكمة عدداً من المشاركين في مؤتمر في برلين نظمته ربيع تلك السنة مؤسسة هاينريش بول. من بين المعتقلين الناشطتان النسويتان ميرانغيز كار وشهلا لاهجي، زعيمة تنظيم "مكتب تقوية الوحدة" الطالبي، ورجل الدين الاصلاحي حجة الاسلام حسن اشكيفاري، وثلاثة رؤساء تحرير أوقفت صحفهم لاحقاً، هم رضا جالايبور "عصر الأحرار" وعزة الله شهابي "ايران الغد" وعلي رضا الافيتابار "هذا الصباح". وكان الأبرز من بين المعتقلين أكبر غنجي، الصحافي الذي لاحق قضية اغتيال المثقفين. وحكم عليه بالسجن عشر سنوات ثم الابعاد خمس سنوات الى قرية نائية.
ومثلما في النظم السلطوية الأخرى استعمل المحافظون الخطر الخارجي لتبرير القمع الداخلي - لكن، هنا ايضاً نجد ما يدل الى قدر من الانفراج. ذلك ان التغييرات على الصعيد الخارجي تبدو من نواح عدة أكثر رسوخاً. وفي احتفالات أيلول سبتمبر 2000 بالذكرى العشرين لبداية الحرب مع العراق ركزت الملصقات واللافتات في انحاء طهران على "الدفاع المقدس" عن الوطن وقتلى حرب الثماني سنوات، إضافة الى الديبلوماسيين الايرانيين الذي قتلتهم حركة طالبان في أفغانستان في 1998، ولم يشر الا القليل منها الى الثورة الاسلامية نفسها. لكن طبيعة الاحتفال بالذكرى لم تكن لمجرد ابقاء الماضي حياً والتعبئة لدعم السلطة، بل شكّلت مؤشراً الى الخط المستقبلي الممكن لسياسة ايران الخارجية. اذ نجد في الوسط السياسي شعوراً وطنياً ملموساً يجد ترجمته في الدعوة الى تحديد "المصالح الوطنية" ومراعاتها. ولهذا التوجه انعكاساته الواضحة على دعم ايران للقضايا "الاسلامية" العامة وأيضاً على طبيعة الجدل الداخلي.
تستعيد الثورة الاسلامية الايرانية في خطابها واعمالها الكثير من التوترات التي واجهتها الثورات الأخرى - مثلاً، ما بين الدفاع عن الدولة والنشاط على الصعيد العالمي، وتثوير الشعوب المضطهدة وتمجيد شعبها. وكانت الثورة الفرنسية مجدت "الأمة العظيمة"، ونجد بعد قرنين في انحاء طهران الملصقات التي تنقل عن آية الله الخميني كلماته عن "هذه الأمة العظيمة". كما تستعيد الثورة الايرانية في ممارستها الثقافية المراحل التي مرت بها الصين. ويشير المثقفون الايرانيون بسخرية، في معرض الحديث عن اعتقال وملاحقة الكتاب الناقدين، الى أن بلدهم عكَس المراحل في الصين، لكي يجعل "حملة المئة زهرة" تتبع مرحلة "الثورة الثقافية". وكانت "الحملة" في الصين جاءت في 1957 لتشجيع حرية التعبير، وتلتها ملاحقة المثقفين، ثم انطلقت بعدها في 1965 الثورة الثقافية التي هدفت الى سحق أي فكر معارض أو مستقل. أما في ايران فقد أطلقت السلطة في 1980 ثورتها الثقافية المتمثلة بالهجوم على الجامعات. لكن ذلك لم يقتصر، كما في الصين أو روسيا قبلها، على الهجوم على الأفكار والتأثيرات الأجنبية، بل شمل محاولة تدمير عناصر عدة من الثقافة والتقاليد الداخلية. من ذلك معارضة مبدأ اللذة القوي في الشعر الفارسي، ومنع النساء من الغناء، بل حتى حظر الشطرنج فترة قصيرة.
هنا أيضاً يشعر النظام الايراني، مثل الانظمة الثورية في الماضي، بأنه دفع في المراحل الأولى من سلطته ثمناً باهظاً للقمع الذي وجهه الى الداخل وأيضاً لمحاولته تصدير الثورة الى الخارج. ويعترف المسؤولون في أحاديثهم الخاصة بخطأين كبيرين، الاستيلاء على السفارة الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر 1979 وعدم التوصل الى سلام مع العراق بشروط جيدة في تموز يوليو 1982. الحرس الثوري لا يزال يحتل مجمع السفارة الأميركية في وسط طهران، والجدران لاتزال مغطاة بالشعارات المعادية للامبريالية. لكن مضمون كلام المسؤولين أن المصلحة لا الايديولوجية ستكون من الآن فصاعداً العنصر الغالب في رسم سياسة ايران. من بين نتائج هذا التوجه الرغبة في تحسين العلاقات مع العالم العربي. وكان آية الله الخميني يرفض استعمال تعبير "العربية السعودية" ويشير اليها بتعبير "ما يسمى مملكة نجد والحجاز". أما الآن فهناك تحسن ملموس في العلاقات مع الرياض فيما عادت العلاقات مع مصر والجزائر، بعدما كانت ايران تعتبرهما دولتين علمانيتين تمارسان الاضطهاد.
هذا التحسن في العلاقات لم يشمل العراق، المستهدف سوية مع ايران في سياسة "الاحتواء المزدوج" الأميركية. لكن الدولتين، بدل التعاون، تختاران اتهام بعضهما بعضاً بتهديد الأمن الاقليمي وتساند كل منهما تجمعات معارضة لحكومة الأخرى. واذ يتمكن الحجاج والتجار الايرانيون من زيارة العتبات المقدسة وبغداد فإن الحرب الكلامية مستمرة بين الطرفين، بل ان صدام حسين صعدها في الأشهر الأخيرة معتبراً ايران عدواً للعراق، فيما تعرف ايران أن العراق على المدى البعيد، اذا استعاد قوته، قد يهاجمها مثلما فعل في 1980.
إعادة النظر في السياسة الخارجية اذاً جزء من نقاش أوسع داخل ايران عن مستقبل الجمهورية الاسلامية نفسها. ويدور الكثير من الكلام على "المجتمع المدني" والديموقراطية. وكان المجتمع الايراني شهد في تاريخه الحديث ثلاث موجات كبرى من الاحتجاج والتحرك المدني: الثورة الدستورية في 1906 عندما التجأ 15 ألف متظاهر الى حدائق السفارة البريطانية الواسعة، ثم حركة رئيس الوزراء الوطني محمد مصدق ما بين 1951 و1953، ثم في الشهور ما بين 1978 و1979 عشية وغداة سقوط الشاه. وانتهت هذه المحاولات لاقامة المجتمع المدني الى الفشل، بمساعدة قوى خارجية في الحالين الأولى والثانية. والسؤال الآن ما اذا كان هذا سيتكرر؟ من هنا يشمل النقاش الدائر في ايران الكثير من التفكير في الشروط اللازمة للديموقراطية، والعوائق امام اقامتها التي تأتي في قائمة مألوفة بدءاً من "الامبريالية" مروراً ب"الاستبداد الشرقي"، ووصولاً الى الاعتبار المفضل الآن، وهو "المجتمع الريعي"، في اشارة الى اعتماد ايران على النفط. فيما ترى الأطراف الأكثر علمانية ان المشكلة هي الطبيعة اللاديموقراطية لرجال الدين أنفسهم.
ما يساوي هذا اهمية في النقاش الحالي الارث الذي خلفه تاريخ ايران المبكر في حقلي الأدب والنقد الاجتماعي. فقد كان لايران طيلة تاريخها الحديث ثقافة أدبية مزدهرة تستمد حيويتها من الماضي الفارسي لكن، مترابطاً مع عناصر كثيرة من الأدب الغربي. وشهدت الخمسينات والستينات حركة ترجمة نشيطة للكتابات الغربية، لم يحد منها سوى حظر تلك الأعمال التي تصور قتل الملوك، مثل مسرحيتي هاملت ومكبث لشكسبير. وكان للكتابات الماركسية، خصوصاً الشيوعي التقليدي منها، تأثير كبير، لكنه لم يكن الوحيد، على الكتاب. ومن بين المؤلفين المفضلين وقتها ماكسيم غوركي وجان بول سارتر وجاك لندن. وانتقد كثيرون من الكتاب القوتين المحافظتين المسيطرتين، أي حكومة الشاه من جهة والمؤسسة الدينية من الجهة الثانية. وتزامن هذا التأثير من الخارج مع فوران كبير في المؤسسة الدينية وجد تعبيره في النهاية في ثورة 1979.
يتهم المعارضون للتغيير الكتاب الاصلاحيين ب"معاداة الاسلام". وقال المرشد الروحي الأعلى للجمهورية آية الله خامنئي في رسالة وجهها الى البرلمان في آب الماضي وطالب فيها بالسيطرة على وسائل الاعلام: "اذا تمكن الاعداء من التسلل الى الصحافة فإن هذا سيكون خطراً عظيماً على أمن البلاد ومعتقدات الشعب الدينية". فيما يتكلم آخرون عن "العدوان الصامت"، أو "العدوان الثقافي" المقبل من الخارج بالتعاون مع حلفائه في الداخل. لكن المسلم به بين اطراف النقاش هو الطبيعة الدينية للدولة، بمعنى الاحترام العام لقيم الاسلام وتاريخه، وللشعور القومي الذي عبرت عنه الثورة. ويستمر في جنوب طهران العمل على مجمع ضخم حول ضريح آية الله الخميني الذي توفي في 1989، يراد له أن يكون من بين محجات الاسلام الكبرى مثل مكة أو القدس أو العتبات الشيعية في العراق. ويرفرف على المبنى العلم الأحمر للأمام الحسين المتوفى في 680 للميلاد. عندما زرت المكان وجدته يغص بالقاصدين، خصوصاً من آسيا الوسطى. وكان من بين الذين كلمتهم رجل عمره 28 سنة يعمل سائقاً في واحدة من الوزارات، انتقد النخبة الحالية من خلال امتداح الخميني: "الامام كان رجلاً مستقيماً لا يكذب. انه لم يكن مثل الآخرين".
أدى العقدان الأخيران من سوء ادارة الاقتصاد والقمع السياسي، والاستنكار المتزايد للفساد المرتبط بعدد كبير من رجال الدين، الى تحولات في الرأي العام. لكن، لا يعرف احد المدى الذي سيصله ذلك. وكان هناك بعض التخفيف على القيود المفروضة على ملابس النساء، لكن البلد لا يزال بعيداً من ذلك الخليط من الزي الاسلامي والغربي الذي نراه في دول مسلمة مثل مصر. وتتأثر حركة الاحتجاج الى حد كبير بالطموحات الاقتصادية، وأيضاً بالعالم الغربي كما تراه في أشرطة الفيديو والمجلات، وأيضاً من خلال الشتات الايراني الكبير بعد الثورة.
لكن تطلعات الشعب تبقى غامضة الى حد ما، ولا يعرف أحد مدى الاصلاحات التي يريدها الرئيس خاتمي. الشيء المؤكد الوحيد هو ان الشعارات القديمة، بعد عشرين سنة من الثورة، فقدت فاعليتها. فالاداء الاقتصادي لا يزال فاشلاً، وهناك بطالة واسعة. ويشعر الكثيرون ممن ساندوا الثورة وقاتلوا ضد العراق بخيبة الأمل. فيما يقاوم الشباب القيود الاجتماعية التي تفرضها الدولة. وهناك تعطش هائل الى الحرية السياسية وحرية التعبير. وتشير التقارير الى أن مشاعر الاحتجاج لا تقتصر على طهران، بل قد تكون أقوى خارجها. من بين المؤشرات المواجهات العنيفة الصيف الماضي في مدينة خورامشهر الجنوبية، التي شهدت أعنف المعارك في الحرب العراقية - الايرانية، عندما هاجمت عناصر من الباسدران الحرس الثوري تجمعاً شعبياً اصلاحياً.
ما نراه في ايران اذاً ليس الوضع المعتاد، حيث المواجهة بين الدولة وحركة احتجاج شعبية، لأن الانقسامات تسري في الطرفين، أي ان حركة من القاعدة تواجه دولة منقسمة داخلياً. ويصطف ضد حركة الاصلاح تحالف من رجال الدين المشاركين في السلطة والمؤيدين للمرشد الروحي آية الله خامنئي وبعض عناصر المؤسسة العسكرية، بدعم من قوات الميليشيا المحافظة. وأصبحت سلطات المرشد الروحي من بين القضايا الأكثر اثارة للخلاف، اذ يطالب الاصلاحيون بتقليصها فيما يواجههم المحافظون بشعار: "الموت لمن يعادي الفقيه". الا ان هناك انقساماً في صفوف رجال الدين، كما كان الحال اثناء الثورة، اذ يؤيد قسم منهم الاصلاح الاجتماعي والسياسي، ويذهب بعضهم في هذا المجال الى حد اتهام الثورة بتشويه سمعة الاسلام لدى الشعب.
من بين أشد منتقدي النظام رجل الدين عبدالله نوري، الذي أودع السجن بعد محاكمة شن خلالها هجوماً صريحاً على سيطرة رجال الدين على السلطة ودان الفساد المتفشي في صفوفهم. في المقابل هناك المتمسكون بمواقعهم في النظام، وحصلوا من خلاله على الثروة والنفوذ - خصوصاً من خلال نظام المؤسسات التي تحصل على المال من الدولة من أجل النشاط الاجتماعي والاقتصادي، ما مكّن هؤلاء من الجمع بين النفوذين المالي والسياسي. من كبار رجال الدين المحافظين آية الله جنتي، الذي يقول بوضوح: "لا يمكن انقاذ الاسلام من خلال الليبرالية والتسامح". ويستمر جنتي على هذا الخط حين يتساءل اذا كانت هناك حاجة في جمهورية اسلامية الى الروايات؟!
يرغب الرئيس خاتمي حتى الآن في ادامة الائتلاف مع المرشد الأعلى خامنئي، الا ان الكثيرين من مسانديه يريدون انهاء الائتلاف. وأثار تدخل خامنئي لدى البرلمان لوقف تشريع ليبرالي للاعلام غضباً شديداً في صفوف الاصلاحيين. المشكلة أمام خاتمي هي انه يخاطر بتخلي المساندين والتعرض الى انتقاد متزايد اذا لم يواصل مسيرته على طريق الاصلاح، فيما يواجه اذا خرج من التحالف خطر الصراع مع المؤسسة الدينية - الأمنية المعارضة له. الواضح ان مؤيدي خاتمي لا يريدون العنف، لكن الطرف المقابل مستعد لاستعماله، كما أظهر ذلك فعلاً في الماضي. ويُعتقد أن الغالبية في القوات المسلحة ووزارة الاستخبارات تؤيد الاصلاحيين، وان غالبية الحرس الثوري صوتت الى جانبهم في انتخابات المجلس. ازاء ذلك يبقى الجهاز القضائي وقوات الأمن في صف المعارضة للتغيير.
هناك في الوقت الحاضر توقف موقت للتنافس بين المحافظين والاصلاحيين. وتراجعت الآمال الكبرى التي رافقت انتخابات المجلس في شباط، فيما يقبع في السجن عدد من قادة التوجه الاصلاحي، من بينهم رجال دين ومثقفون، على رغم أن مؤلفاتهم معروضة للبيع في انحاء طهران. وهناك قلق ازاء الاقتصاد وشك في قدرة خاتمي على تنفيذ الاصلاحات المطلوبة. والصعوبة الخاصة هنا هي ان الكثيرين من المطالبين بالاصلاح الاجتماعي والسياسي يعارضون تحرير الاقتصاد مثلما يعارضون التحقيق في الانتهاكات السابقة لحقوق الانسان. من بين القضايا الخلافية الاستثمار الخارجي. ولا تعرض ايران على شركات النفط والغاز اتفاقات المشاركة شبيهة بالتي تقدمها الدول المنتجة الأولى، وليس هناك ما يشير الى وجود تأييد سياسي كاف لذلك في الوقت الحاضر.
الامتحان المقبل لحركة الاصلاح، اذا لم تكن هناك مفاجآت، هو انتخابات الرئاسة. وقال خاتمي انه سيخوض معركة التجديد، والتوقع الغالب انه سيفعل. واذا حصل ذلك فمن المستبعد أن تستطيع أية شخصية مهمة منافسته. وهناك من يعتقد أن أنصار الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني قد يطرحون مرشحهم الخاص - ربما وزير الخارجية السابق ولايتي. لكن الأهم من هذه الاعتبارات أن خاتمي قد لا يستطيع المحافظة على ولاء الذين ساندوه حتى الآن. وقد تكون الأشهر المقبلة حاسمة بالنسبة الى مستقبل ايران ومصير النظام الثوري، وسنعرف وقتها مصير المحاولة الايرانية الكبرى الرابعة لاقامة المجتمع المدني. ومهما كانت النتيجة سيكون لكتاب ايران وصحافييها الكثير مما يقولونه عن هذه التطورات والمسؤولين عنها، لكن لا نعرف اذا كانت تلك الكلمات ستجد طريقها الى النشر.
* كاتب بريطاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.