عبدالله نوري وزير الداخلية السابق، الفائز الأول في الانتخابات البلدية في العاصمة طهران، المرشح المحتمل لرئاسة البرلمان الايراني في حال فوز مؤيدي الرئيس محمد خاتمي في الانتخابات البرلمانية المقبلة، الماثل حالياً أمام محكمة دينية خاصة قد تحكم بسجنه أو حرمانه من العمل السياسي، أصبح منذ شهرين موضع الاهتمام السياسي والثقافي الأول في ايران. وما زاد في الاهتمام انه لم يستسلم لإرادة المحكمة والمحاكمة، ولم يترك الأمر للقدر كما فعل زميله موسى خوئنيها، كما لم يتركه للدموع والحسرات كما فعل زميله الآخر غلام حسين كرباستشي. لقد وقف في المحكمة متحدياً تيارات اليمين المتشدد وطروحاتها. نوري الذي يدير صحيفة "خرداد" الاصلاحية الى جانب نشاطاته الأخرى ويتهيأ للانتخابات البرلمانية في شباط فبراير المقبل، يواجه تهماً بالكفر والإساءة الى الاسلام والإمام الخميني، اضافة الى الدعوة الى المصالحة مع "الشيطان الأكبر" الولاياتالمتحدة. وكان من المفترض ان تجري محاكمته في الفترة التي زار فيها خاتمي العاصمة الفرنسية باريس. لكن التيار اليميني المتشدد فضّل تأجيلها قليلا بهدف المباشرة بمحاكمة نوري ابان وجود خاتمي في ايران، تجنباً لأي تفسير مفاده ان اليمين استغل غياب الرئيس لتوجيه الضربة الى تياره. مراقبو الشأن الايراني لا يستبعدون ان يكون وراء الإصرار على محاكمة نوري وسجنه المحتمل غايات انتخابية بعيدة عن التهم التي يمثل الآن بسببها أمام الحكمة. فنوري الذي انسحب من رئاسة بلدية طهران تمهيداً لترشيح نفسه للانتخابات، سيترأس البرلمان في حال فوز اليسار الاصلاحي، ما يلحق، فيما لو تحقق، ضربة قاصمة باليمين الذي يحاول معالجة الأمر عن طريق تغييب نوري عن ساحة الانتخابات. ونوري في سياسات الاسلام الراديكالي الايراني ليس ابن اليوم. فخلال السنوات العشر التي سبقت قيام الثورة الخمينية كان، هو المولود في 1949 في قصبة حسين آباد القريبة من مدينة اصفهان، أحد أكثر الدعاة الدينيين الشبان اعجاباً بالخميني وأفكاره. وكان مع محتشمي وخوئنيها وعدد آخر من الدعاة الشبان يحتفظون بعلاقات وطيدة مع نجلي الخميني، مصطفى وأحمد، على رغم ان الأخيرين كانا يقيمان مع والدهما المنفي في النجف العراقية آنذاك. في تلك الفترة كانت تعاليم الدكتور علي شرىعتي محل اهتمام الشباب الديني في طهران، وكانت الأخيرة تعج بالشرطة في جانب، وبالأفكار الماركسية الثورية في جانب ثان. اما هو، فعلى رغم تعرضه للسجن مرات عدة، ظل حريصاً على الابتعاد عن المواجهات المباشرة مع نظام الشاه. وما كان يجعل الشرطة الشاهنشاهية تغض النظر عن خطبه ومناظراته السياسية والفكرية ان مساجلاته كانت موجهة ضد دعاة مزج الماركسية بالأفكار الدينية في أوساط طلاب الجامعات. كما كانت، ولو بدرجة أقل، تكافح تأثيرات رجال الدين التقليديين والمتزمتين طقسياً. والواقع ان كثيرين من المهتمين بتجربة نوري السياسية يشيرون، عند الحديث عن روح الانفتاح والهدوء التي تطبع أفكاره، الى محطات لافتة في حياته: انجذابه المبكر الى أفكار الدكتور شريعتي، وزمالاته مع اساتذة الجامعات والمثقفين والعلمانيين، وخلفيته التعليمية في مدارس حديثة في اصفهان. فمعروفٌ ان نوري اكمل الدراسة المتوسطة في مدارسها ذات المناهج العلمانية، ليلتحق بعد ذلك بالدراسات الدينية في اصفهان ومن ثم في قم حيث بات من أهم طلاب منتظري. في هذا الخصوص، يقارن عدد من المثقفين الايرانيين عبدالله نوري بنوري آخر هو ميرزا آغا خان صدر أعظم نوري الذي كان الوزير الاعظم في دولة القاجاريين، لكنه أعدم لاحقاً بتهمة العمالة لبريطانيا. ويذكر هؤلاء ايضاً ان اصفهان، منبت نوري، تشتهر بكونها الحاضنة التاريخية للادب والفكر والسجالات الثقافية الكبرى في تاريخ ايران. فهذه المدينة التي تشتهر بتسميتها نصف جيهان - نصف العالم عرفت على مر التاريخ حركة تجارية نشطة، وحضوراً دينياً وصوفياً واسعاً، وتأييداً لافتاً للاعتدالية والحركات الدستورية. ولا أدل على هذا من الاشارة الى ان القاعدة الاساسية للحركة الدستورية الايرانية مشروطيت في بداية القرن الحالي كانت اصفهان. هذه المدينة التي كانت عاصمة الصفويين، هي اياها مدينة منتظري المحكوم بالإقامة الجبرية لدعوته الى وضع سلطة القانون فوق سلطة ولي الفقيه، وآية الله جلال الدين طاهري الذي يعتبر من أبرز وأهم مؤيدي الرئيس خاتمي في ايران. وهذا إضافة الى ان غلام حسين كرباستشي المعتقل حالياً، شغل لأكثر من عامين رئاسة بلدية اصفهان قبل ان ينتقل الى رئاسة بلدية العاصمة. وبعد عودة الخميني الى ايران من منفاه الفرنسي، انضم نوري الى حلقته وأصبح واحداً من أقرب مقربيه. وكانت لصلاته وصداقته العميقة مع أحمد الخميني دور رئيسي في تمتين علاقاته مع زعيم الثورة الاسلامية، وتعيينه لاحقاً ممثلاً له في ادارة السجون الايرانية، ومن ثم ممثلاً له أيضاً في قيادة الحرس الثوري ابان سنوات الحرب مع العراق. في تلك الاعوام كان نوري قريباً من خط رفسنجاني. لكن في 1987 انضم برفقة خاتمي ومحتشمي وخوئنيها الى مجمع لرجال الدين ترأسه مهدي كروبي اثر انشقاقه عن رابطة العلماء المناضلين. وبعد انتهاء الحرب، أصبح نوري يدعو بلهجة مسموعة الى الاصلاح الاقتصادي والسياسي. والواقع انه نجح في بناء علاقات وطيدة دينية وسياسية وشخصية مع كرباستشي، فشكّل مع الأخير أهم شخصيتين ايرانيتين شجعا خاتمي على ترشيح نفسه للرئاسة وقادا حملته الانتخابية بنجاح منقطع النظير. وإذا كان كرباستشي قد تابع قبل اعتقاله ملفات تجربة خاتمي، العمراني منها والاداري، والى حدّ ما الاقتصادي، فإن نوري تابع ببراعة نادرة ملفات الاصلاح الداخلي والسياسي والثقافي. وفي هذا الخصوص لعبت صحيفته "خرداد" دوراً رئيسياً في حشد الشبيبة وطلاب الجامعات وراء دعوات خاتمي. وهذه خطيئة لا تُغتفر في ظن المناوئين.