في أوائل مراحل الإعداد للثورة عام 1970 كان آية الله علي خامنئي - المرشد الأعلى لإيران حالياً - يعاني من آثار انهيار جمعيته السرية «إصلاح الحوزة»، والتي انفض عنها أعضاؤها بعد اكتشاف أنشطتهم على يد السافاك. ومنذ ذلك الحين تكونت لديه قناعة راسخة بأن النُخب الدينية والثقافية لا يمكن أن تقوم بأي أعمال ثورية لوحدها، وأنه سرعان ما تتبدد ترتيباتها عند أول حصار أمني تقع فيه. بوصفه طالب علم مقيم في «قم»، وجد نفسه غير مؤثر في مواجهة جمعيات دينية أخرى يقوم عليها علماء دين مشاهير مثل آية الله طالقاني، ومطهري، وبهشتي، ولذلك عقد العزم على العودة إلى مسقط رأسه في «مشهد» ليجند الأتباع من العائلات التي تعرفه هناك، وفي خلال أشهر قليلة استطاع إقناع الكثير من الطلبة للحاق به، وأخذ يدير شؤون المقاومة في شرق البلاد حتى أنه استطاع رغم نفيه ثلاث سنين في عام 1977 إلى الاستمرار في قيادة المقاومة في الجزء الشرقي من البلاد، وهو أمر أجبر الزعماء الدينيين إلى دعوته إلى طهران قبل قيام الثورة للمشاركة في الحكم. كان «هاشمي نجاد» أحد أهم مساعدي خامنئي في تلك الفترة، ولذلك فإن خامنئي اصطحب معه العديد من مساعديه ومن بينهم عائلة «نجاد» إلى طهران لكي يصبحوا بعد ذلك من أهم شخصيات الثورة، بل ورجالات خامنئي المخلصين. بيد أن خامنئي ورغم اهتمامه بالطبقة العاملة، وهم الطبقة الأكثر في شرق البلاد حيث كان ينشط، ظل محباً للثقافة والمثقفين، وكان حريصاً على تثقيف أتباعه، وطفق يوثق علاقاته بالمفكرين والكُتَّاب الإيرانيين ممن كانوا معارضين، أو حتى موالين للنظام السابق - فيما مضى -، حتى حينما اعتلى سدة الرئاسة بعد الثورة ظل خامنئي صديقاً للمفكرين والمثقفين والفنانين، واشتهرت «جلسة الخميس» التي كان يعقدها مساء كل خميس في مكتبه بالقصر الرئاسي، ويلتقي فيها بالمثقفين والكُتَّاب الإيرانيين، بطرحها لقضايا فكرية وثقافية وفنية وفلسفية مهمة، بدءاً من أفكار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، مروراً بالفلسفة الفاشية، إلى آخر إصدارات مكتبة «غاليمار» في باريس، والشريط الأخير للمايسترو والموسيقي الإيراني محمد رضا شجريان، وأفلام عباس كيارستمي. وبحسب ما يرويه د. علي نوري زاده فإن الرئيس الإيراني الجديد محمود أحمدي نجاد كان العضو الدائم الأصغر سناً بين الحضور، والذي يتذكره الكثيرون ممن حضروا بتقديم الشاي لهم، وغناء الموشحات الدينية نهاية كل لقاء بطلب من خامنئي. كانت سلطة الإمام الخميني الأيدلوجية في بداية الثمانينات ما تزال في قوة ولها امتدادات شعبية داخل إيران وفي الخارج، وعلى غرار هاشمي رفسنجاني كان خامنئي مدركاً لضرورة استمرار النفس الثوري داخل الجمهورية الإسلامية لضمان استمرار مشروعية «ولاية الفقيه»، ذلك المفهوم الذي كان يخضع منذ فترة مبكرة لانتقاد بعض رجال الدين في الحوزة الدينية من أمثال آية الله منتظري. كان خامنئي يدرك بأن الحملة الشرسة التي طالت الكُتَّاب والمثقفين مباشرة بعد الثورة، وصراع التيار الإمامي مع خصومهم السياسيين وتفصفيتهم، قد أوهنت علاقة الثورة بالنخبة المثقفة في إيران، وهذه الجهود منه كانت رغبة في أن يتم احتواء أكبر عدد من المثقفين والكُتَّاب المختلفين مع تيار الإمام الخميني، وأنه لا بد من ايجاد فسحة من الرأي تكفل العثور على شخصيات ثقافية موالية للثورة وقادرة على تمثيل إيران خارجياً. فخامنئي الذي اعتمد بشكل كبير جداً على «الباسيج»، وجيش الثورة التطوعي لإدارة الشأن الداخلي، والحرب مع العراق فترة الثمانينيات، أدرك بأن إيران محتاجة إلى شخصيات مثقفة وغير ثورية قادرة على تحسين صورة إيران في الخارج، تلك الصورة التي لا يمكن لها أن تستمر على الحالة التي كانت عليها. رغم أن هذا المجلس لم يستمر في أواخر أيام الإمام الخميني لأن خامنئي من جهة بدأ يعد العدة لاستلام مقاليد الأمور، ومن جهة أخرى كان يريد أن يستبدل مجلسه الثقافي بمجلس ديني مشابه لمجلس الإمام الخميني المليء برجال الدين وقاصدي الحاجات والفتوى، إلا أن خامنئي - الذي تخلى عن غليونه أيضاً - كان قد حقق مبتغاه باصطفائه وفي نفس الوقت اصطفى الذي يعتقد أنه اكثر ولاء له -«نجاد»-وشرع يعد للأمور المهمة. طبعاً وكان مجموعة من المثقفين الواعدين من بينهم محمد خاتمي، ومهدي كروبي، وآخرين ممن تمت تسميتهم بعد انتخابات 1997 بالتيار «الإصلاحي»، وفي خامنئي قد عقد العزم على إعادة توجيه السياسية الخارجية الإيرانية، وأسند لصديقه البراغماتي رفسنجاني مهمة تحسين علاقات الجوار الإيراني بعد حرب الخليج الثانية، بالإضافة إلى تحسين العلاقات الإيرانية الأوروبية. ويمكن القول إن المرحلة الأولى من التسعينات قد شهدت بالفعل حضوراً إيرانياً متزايداً على الساحتين العربية والأوروبية، ولكن ما كان يخشاه خامنئي على المستوى الداخلي قد وقع بالفعل، وهو صعود صوت إصلاحي من أبناء الثورة نفسها مناهضين ل «نظام ولاية الفقيه». كان خامنئي يشعر بأن موازنة الأمور داخلياً تتطلب الاعتماد على الصف الثاني من أبناء الثورة، أولئك الذين جسدت لهم الثورة معاني الدولة الإسلامية في إيران. والمتتبع لسيرة الرئيس الإيراني الجديد محمود أحمدي نجاد يلمس بكل صدق رجلاً امتزج بقيم الثورة الإيرانية، وتشرب تعاليمها. فالابن الفقير لرجل كان يعمل حداداً استطاع دخول كلية الهندسة، والتحق منذ البداية بنقابة الطلبة، والتي قام أعضاؤها بدور فاعل أثناء الثورة. وفور اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية التحق نجاد متطوعاً، ثم ضابطاً عسكرياً، وبعد الحرب درس في المعهد العسكري بعد حصوله على درجة الدكتوراه عام 1997، ومن ثمَّ عاد إلى مجالسة خامنئي والاتصال به. في عام 1993 لم يلبث خامنئي بعض الوقت حتى انتدب تلميذه النجيب محافظاً على أردبيل، وقد اضطلع نجاد بهذه المهمة بكل نجاح، وأصبح بعد مرور سنتين مضرب المثل للصف الثاني من أبناء الثورة، ومع تصاعد صوت الإصلاحيين ظهر اسم نجاد في صفوف المعارضين الأقوياء للتيار الجديد، هذه المعارضة أكسبت نجاد عداء التيار الإصلاحي الذي كان في سدة رئاسة الجمهورية، وصاحب الحضور وقتها في البرلمان، ولكنها في ذات الوقت أكسبته جمهوراً مهماً من الطبقة الفقيرة في طهران وغيرها من المحافظات، والذين وجدوا في شخصيته صورتهم البعيدة عن ر جال الدين، والتي تحمل أيضاً سمات العمال المكافحين، وسرعان ما تكونت جبهة شعبية مهيبة للسياسي البّار ابن الثورة، والذي آثر مع ازدياد شعبيته أن يُلقب ب «صديق الشعب»، هذه الشعبية أوصلته في النهاية إلى أن يتغلب على الإصلاحيين في انتخابات بلدية طهران 2003. تجربة محمود نجاد كمحافظ لطهران - ورغم قصرها - إلا أنها مهمة للغاية في فهم سياسته، وتصور أسلوبه في الإدارة. ففي بداية السنة الأولى اتجه نجاد بقوة نحو تطبيق سياسات دينية متشددة في الشارع الإيراني، تمثل ذلك في إغلاق محلات، وفرض ضوابط اجتماعية على شوارع طهران، بل ومنعت شركات من المنافسة، ورفضت عروض استثمارات أجنبية، وكانت ذروة المواجهة حين أصدر محمد خاتمي أمراً يمنع نجاد من حق حضور جلسة مجلس الوزراء بصفة مراقب. مع تنامي الامتعاض من سياسات محمود نجاد الجديدة في طهران استدعاه آية الله خامنئي إلى مكتبه، ويشير مراقبون إلى أن نجاد فهم رسالة المرشد بضرورة الحفاظ على مكتسبات الثورة وعدم الانسياق إلى ما قد يتسبب في إشاعة الاختلاف، وفهم نجاد كذلك رغبة المرشد في أن يترشح محمود نجاد لانتخابات الرئاسة القادمة. بعد ذلك اللقاء توقف نجاد عن القيام بأي خطوة قد تثير خصومه السياسيين، بل وسعى إلى عزل نفسه عن الأصوات اليمينية في التيار المحافظ، وأصبح تركيزه أكثر فأكثر يتركز على وسائل الحياة اليومية لسكان طهران كالطرق والنظافة، والخدمات العامة الأخرى، وحتى إعلان ترشحه يعترف الكثيرون بأنه تغير وأصبح سياسياً حقيقياً، وطوال فترة الانتخابات كان محمود نجاد المرشح الأكثر انضباطاً واتزاناً في مواقفه مقارنة ببقية المرشحين، والذين لجأوا إلى زوايا ضيقة صوب المحافظة، أو الإصلاح. فعلى سبيل المثال يتهم البعض نجاد بالفوز بواسطة أصوات الباسيج والحرس الثوري التطوعي والذين تصل أصواتهم إلى عشرة ملايين، ولكن الحقيقة وراء ذلك لا تكمن في ولائهم له، فعسكريون سابقون من ذات المؤسسة خسروا الانتخابات، بل إن التصويت له جاء على خلفية مواقفه من ملفات عديدة، فبالنسبة للملف النووي كان موقفه في أنه لن يعارض أي رغبة شعبية تصر على الحصول على السلاح إن اقتضى الأمر، وأنه لن يسعى لذلك في حال كانت الرغبة الشعبية غير عازمة وأن ذلك أمرٌ متروك لتقدير العسكريين، أيضاً موقفه من الاستثمار الأجنبي كان متوازناً فهو قال إن النمو الإيراني الحالي 7٪ سيتواصل رغم استهلاك إيران ذات ال 70 مليون نسمة لقرابة 40٪ من إنتاجها النفطي، وأنه مهما كانت الخيارات بشأن السلاح النووي فإنه سيدعم استخدام الطاقة النووية السليمة. ولذلك فإن الحس الشعبي الذي كان يتخوف من أن تكون العناوين البراقة للانفتاح الاقتصادي مقدمة للفساد اطمأنت نوعاً ما للتوجه المتوازن الذي أعلن عنه في خطته الاقتصادية، ولذلك فإن أسواق الأسهم الإيرانية لم تتعرض لنكسة كبيرة كما كان يحذر منها الخبراء، بل اكتفت بانخفاض مؤقت للمؤشر سرعان ما استعاد عافيته سريعاً. أخيراً، يمكن أن نقول بأن شخصية نجاد ورغم تشابهها الكبير بشخصية أستاذه آية الله خامنئي إلا أن نجاد يمتلك استقلالية واضحة ما زالت تتكشف خلال سيرته السياسية، ولذلك فإن الذين يظنون بأن نجاد سيكون آلة يحركها المرشد الأعلى يخطئون فهم السياسة الإيرانية حينما يستبقون وقائعها، فالتاريخ الإيراني القريب أظهر مراراً رفض الإيرانيين للشخصية الضعيفة في الحكم، وإذا ما كان هناك تقارب واضح في الرؤية لدى كل من خامنئي ونجاد إلا أن الأخير له مشوار سياسي غير قصير أثبت فيه امتلاكه للمؤهلات اللازمة. ولذلك فالمتوقع أن يبتني محمود نجاد لنفسه براجماتية محافظة كإطار عام لسياسته الداخلية، أما بالنسبة لمستوى علاقات إيران بالخارج فسيحافظ على مستوى العلاقات بدول الجوار، وسيسعى لتعهدها أكثر خلال السنة القادمة، وستواصل إيران إطالتها للمفاوضات مع الأوروبيين حول موضوع «الملف النووي» ولن يتهاون نجاد عن توجيه رسائل تهديد ووعيد للأمريكيين كلما استلزم الضغط الأمريكي ذلك، ولكن كما هو واضح فإن إيران لن تكون قادرة على تنفيذ تهديداتها على المدى القريب أو البعيد، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأنه يلزم إيران عشر سنوات للوصول إلى دورة الوقود النووي الكاملة حسب آخر التقارير. الموضوع الوحيد الذي سيشغل السجال الإيراني - الأمريكي خلال المرحلة القادمة سيكون موضوع «حزب الله»، فإذا ما تحقق انفراج في القضية الفلسطينية وانسحاب ناجح للاحتلال من غزة فسيصبح موضوع نزع سلاح حزب الله القضية المحورية للسجال القادم. ٭ كاتب سعودي