"إذا كنت أريد أن أظن أن كل شيء باطلاً، لا بد بالضرورة من أن أكون أنا الذي ظننت، شيئاً موجوداً وغير باطل. وإذ ألاحظ هذه الحقيقة، أكون أفكر. وإذ أفكر أكون موجوداً. وملاحظة هذه الحقيقة هي من الرسوخ واليقين بحيث ان أشد افتراضات الشكاك تطرفاً تبدو عاجزة عن إبطالها... من هنا حكمت بأنني أستطيع أن أتقبلها من دون تردد كالمبدأ الأول للفلسفة، المبدأ الذي أبحث عنه". بالنسبة الى برتراند راسل، الذي يكرس صفحات كثيرة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، في كتابه عن الفلسفة الغربية، تعتبر هذه الفقرة المنتزعة من كتاب ديكارت "مقال في المنهج" "لبّ نظرية ديكارت في المعرفة وتشمل أهم ما في فلسفته" لأنها، تحديداً، تتضمن ما سمي ب"الكوجيتو" COGITO ERGU SUM "أنا أفكر، إذاً أنا موجود" وهذه العبارة تعتبر، الى عبارة سقراط "اعرف نفسك بنفسك" وبعض عبارات ماركس في "اطروحات ضد داهرنغ" أشهر ما عرفه تاريخ الفلسفة من "مبادئ" تخطت دوائر الفلسفة لتتخذ بعداً شعبياً. والحال ان هذا التخطي كان ديكارت يقصده هو الذي وضع "مقال في المنهج" بالفرنسية على عكس ما فعل مع بقية كتبه ودراساته التي كتبها باللاتينية، وذلك لأنه كان يريد نشر منهجه، العقلاني القائم على الشك كمبدأ لنظرية المعرفة، بين عامة الناس. وديكارت الذي وضع كتابه هذا "بأسلوب مشرق من السهل الممتنع الواضح" بحسب تعبير د. عبدالرحمن بدوي، قال عن كتابه هذا، في رسالة الى واحد من اليسوعيين، الذين كانوا خصومه الكبار، انه "جاء من السهولة بحيث يفهمه الجميع حتى النساء". يرى عبدالرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية ان ديكارت استهدف في تفكيره، وخصوصاً كما يتجلى في "مقال في المنهج" كما في "المبادئ الفلسفية" تحقيق ثلاثة أمور: 1 - إيجاد علم يقيني فيه من اليقين بقدر ما في العلوم الرياضية، بدلاً من العلم الواصل من العصر الوسيط المدرسي" 2 - تطبيق هذا العلم اليقيني يمكّن الناس من أن يصيروا بمثابة سادة للطبيعة ومالكين لها" 3 - تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين "الموجود" الأعلى، وذلك بايجاد ميتافيزيقا تتكفل بحل المشكلات القائمة بين الدين والعلم. يقوم كتاب "مقال في المنهج"، كما هو حال كتاب آخر لديكارت هو المعروف ب"التأملات"، على شرح ما عرف لاحقاً ب"منهج الشك الديكارتي". فديكارت "لكي يكون لفلسفته أساس راسخ، يعقد العزم على أن يشك في كل شيء يستطيع أن يشك فيه" وديكارت في هذا السياق يبدأ بإعلان شكه بالحواس واصلاً الى استنتاج مفاده، هنا ان علوماً مثل الحساب والهندسة تبدو أشد يقيناً من الفيزياء والفلك. بيد أن الشيء الوحيد، الذي يخلص ديكارت الى اعلان انه لا يمكنه الشك فيه، انما هو فكره، الدليل الوحيد على وجوده. ومن هنا يرى برتراند راسل ان "كل فلسفة مستمدة من ديكارت، فيها ميل الى النزعة الذاتية"، ويضيف راسل، ودائماً في مجال تعليقه على "مقال في المنهج"، ان ديكارت، إذ أمن من طريق ذلك الاعلان، أساساً راسخاً لفكره "يشرح في العمل لبناء صرح المعرفة بناء جديداً. فالأنا التي اثبت وجودها استنبطت من حقيقة كوني أفكر، ومن ثم فأنا موجود بينما أفكر، وموجود لأنني وحين أفكر فقط. فإذا توقفت عن التفكير لن يكون هناك دليل على وجودي". وهذا المبدأ يوصل ديكارت الى خطوة تالية وأساسية في تفكيره: ان جميع الأشياء التي يمكننا أن نتصورها في غاية الوضوح والتميز، حقيقية. ويرى راسل، وقبله هيغل في حديث مسهب عن ديكارت، ان هذا الأخير يستخدم "التفكير" بمعنى شديد الاتساع، فالشيء الذي يفكر - والذي هو مؤكد الوجود بالتالي - هو الذي "يشك" و"يفهم" و"يتصور" و"يؤكد" و"ينكر" و"يريد" و"يتخيل" و"يشعر". بيد أن ديكارت لا يفوته ان ينبه هنا الى أن "أكثر الأغلاط شيوعاً، هي أن أظن أن أفكاري مماثلة للأشياء الخارجية". ان منهج الشك الذي ارتبط، في الفلسفة الغربية، باسم ديكارت كما ارتبط في الفلسفة الاسلامية باسم الغزالي الذي لطالما قورب فكر ديكارت من فكره، ووصل بعض الباحثين العرب الى فرضية طريفة، وصحتها غير مؤكدة على أي حال، يقول إن ديكارت أخذ عن صاحبه "المنقذ من الضلال"، هذا المنهج كان له بعد ديكارت أهمية عظيمة في تاريخ الفلسفة "حتى وإن كان ديكارت نفسه طبقه تطبيقاً فاتراً، بحسب برتراند راسل. وهذا ما جعل هيغل يقول ان "ديكارت هو في الحقيقة، المؤسس الحقيقي للفلسفة الحديثة من حيث انها تتخذ من الفكر مبدأها. وفعل هذا الانسان ديكارت في عصره وفي العصور الجديدة، لن تكون ثمة مغالاة أبداً في التأكيد عليه. ديكارت بطل، لأنه أمسك بالأشياء من بداياتها، واهتدى من جديد الى الأرضية الحقيقية للفلسفة، بعدما كانت الفلسفة خلت من أرضيتها تلك خلال ألف سنة". وإذا كان رينيه ديكارت قد حقق هذا كله، من الواضح انه هو نفسه، وخلال حياته، كان أكثر تحفظاً في إعلان ثورته، وتحديداً بسبب خوفه من الكنيسة، ولا سيما من اليسوعيين. وهذا الخوف هو الذي حدا به الى السكوت عن معظم كتبه بعد تأليفها. مفضلاً عدم نشرها، ولا سيما كتابه "بحث في الانسان" الذي قال فيه ان الأرض تدور، ثم حين أصدرت الكنيسة فتواها القاتلة ضد غاليليو الذي قال الشيء نفسه، امتنع عن نشره. ومن المعروف ان ديكارت ولد العام 1595 في غرب فرنسا. وهو تلقى دراسته في مدرسة "لا فلاش" الشهيرة التي كانت خاضعة للآباء اليسوعيين. ولسوف يقال ان ديكارت ظل حتى نهاية حياته موزعاً، محترفاً، بين الأساس التعليمي اليقيني اليسوعي الذي تلقاه هناك، وبين نزعته العقلانية التي اكتسبها، وترسخت لديه لاحقاً، من خلال عيشه في هولندا التي كانت في ذلك الحين مركزاً للفكر الانساني العقلاني. وديكارت تنقل في شبابه بين هولندا وألمانيا والدانمرك وخاض الفكر هناك كما خاض الحياة العسكرية. وهو قال دائماً ان بعض أهم أفكاره الفلسفية جاءته من طريق أحلام ورؤى. مهما يكن من الأمر فإن ديكارت عاش حياة صاخبة، حافلة بالترحال والمبارزات والمغامرات النسائية، مع انه لم يتزوج أبداً، بل أنجب ابنة شرعية ماتت مبكرة. وخلال ذلك وكذلك خلال السنوات الخمس والخمسين التي عاشها كتب ديكارت الكثير وساجل كثيراً وتراجع كثيراً. ومن بين أبرز كتبه "مقال في المنهج" بالطبع، ولكن كذلك "تأملات" و"كتاب العالم" وكتب علمية عدة في "الهندسة" و"انكسار الضوء" و"الآثار العلوية"، ناهيك بكتابه الأساس "مبادئ الفلسفة". ولئن كان ديكارت رحل باكراً عن عالمنا، فإن ذلك كان بسبب الملكة كريستين ملكة السويد التي دعته لإعطائها دروساً في الفلسفة، لكنها طلبت منه أن يأتي للتدريس عند الخامسة صباحاً، وسط صقيع السويد المضنك. وهكذا أصيب بذات الرئة ومات. ولكأن كريستين "انتقمت" للنساء منه، هو الذي لم ينفك طوال حياته عن ابداء نفوره منهن واستخفافه بعقلهن. ألم يكن هو من قال انه يريد لكتابه "مقال في المنهج" أن "يفهمه كل الناس بما في ذلك النساء"؟