كثيرة هي الندوات التي تعقد في السعودية، ولكن ندوة "السعودية وقضية فلسطين" التي أنهت أعمالها قبل أيام، كانت ندوة مميزة، فقد دعي إليها باحثون سعوديون وسوريون ومصريون وأردنيون وفلسطينيون، وكلهم ساهموا في أبحاث ترصد دور المملكة تجاه قضية فلسطين منذ أيام الملك عبدالعزيز حتى أيام الملك فهد التي نعيشها. وظهر من خلال هذه الأبحاث الدور السياسي الذي قامت به المملكة، ثم الدور النضالي الذي قام به المتطوعون السعوديون في حرب 1948، ثم الدور النضالي الاقتصادي الذي تمثل في حظر تصدير النفط كجزء من الخطة العربية في حرب 1973، قبل أن يظهر دور الدعم المالي للثورة الفلسطينية الحديثة بدءاً من العام 1965. وفي كواليس الندوة، كان الحديث يدور بين الباحثين عن الهدف منها، ورأى بعضهم أن الهدف هو تسجيل دور المملكة، أو الدعاية لموقفها، ولكن رأياً آخر برز بقوة ليسجل قضيتين: الأولى، أن الندوة تقدم خدمة للقضية الفلسطينية أكثر مما تقدم خدمة للمملكة، فحصيلة أبحاثها توثق وتناقش وتحلل دور المملكة في تبني القضية الفلسطينية، وهو سبق يبرز الدعم العربي الذي تلقاه القضية الفلسطينية، ويحول الشعار القائل بأن قضية فلسطين قضية عربية، من شعار دعائي إلى واقع تاريخي مدعم بالأحداث والوقائع والمواقف السياسية والنضالية والمالية. الثاني، ان أبحاث الندوة تقدم مادة مسجلة ومقروءة للجيل السعودي الجديد والشاب، الذي لم يعرف ما فعله الأجداد، فيطلع عليه لينسج على منواله، ويتحقق بذلك التواصل اللازم بين الأجيال، ويتوفر للجيل الجديد أن يتابع مسيرة الجيل الذي سبقه، وتبقى القضية الفلسطينية محفوظة ومدعومة كقضية عربية، وفي وقت تحتاج هذه القضية إلى تأكيد بعدها القومي العربي أكثر من أي وقت مضى. وفي خضم النقاش داخل الجلسات وخارجها، كنا نلمس ضيق المثقفين السعوديين بذلك النوع من الحديث الذي يلخص دور المملكة بدور حافظة النقود التي تتبرع، وإذا كان هؤلاء المثقفون من التهذيب بحيث لا يقولون ذلك إلا همساً، فإن نوعاً آخر من سعوديي الندوة كان يحول هذا النقاش إلى لحم ودم. فإلى جانب الباحثين الشباب المفعمين نشاطاً وحيوية، كان ثمة في الندوة رجال كهول، تغلب على بعضهم بقايا المظاهر العسكرية، وتغلب على بعضهم الآخر مظاهر شيخوخة بدوية. هؤلاء هم من تبقى من المناضلين السعوديين الذين التحقوا بجيش الانقاذ عام 1948، وحاربوا في القدس أو في اللد، ولا يزالون يتحدثون عن زياراتهم لمدن فلسطين وكأنهم يقرأون في كتاب، ولا يزال بعضهم يحدثك عن الضباط السوريين الذين عملوا معهم، ويذكرون اسماءهم ورتبهم فرداً فرداً. هؤلاء المناضلون المجهولون، تحدث عنهم في الندوة الدكتور محمد بن ناصر الأسمري، ملخصاً جهد سنوات في البحث عنهم وتسجيل شهاداتهم، وكان متفاعلاً مع بحثه إلى حد أنه أجهش في البكاء وهو ينتهي من جملته الأخيرة، وأبكى معه المستمعين إليه. البحث عن المناضلين السعوديين في حرب فلسطين 1948، بدأته سيدة سعودية هي الدكتورة عائشة علي المسند، ولا ينسى الدكتور الأسمري أن يشير إليها كرائدة في هذا المجال، وربما يحين وقت يكتب فيه الباحثون العرب عن هذا الدور الذي لم يأخذ مداه من التقويم والتقدير. وما يلفت هو التوصيات ذات الطبيعة العملية التي أسفرت عنها الندوة، ومنها: انشاء مركز القدس للدراسات والبحوث، وعقد ندوة دولية عن القدس، وحضّ الجامعات على توجيه الطلبة على إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه عن فلسطين. هذه التوصيات ستلقى كلها نصيبها من التطبيق، كما أكد ذلك الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي نجحت الندوة بفضل رعايته وتشجيعه، وكذلك بفضل القائمين على دارة الملك عبدالعزيز، وفي مقدمهم الدكتور فهد بن عبدالله السماري الذي يبني الدارة بحب وتعب وعرق. ويبنيها بصمت، إنما الصمت الذي يتحول مع الزمن إلى كلمة مدوية.