الانسحاب الإسرائيلي السريع من جنوبلبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، تم في ظل اتفاق غير مباشر عبر تيري لارسن، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، وطبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 425، وقبل ستة أسابيع من الموعد الذي حدده باراك للانسحاب. وهكذا لحقت بإسرائيل هزيمة عسكرية تكتيكية، تخالطها هزيمة أخلاقية نتيجة موقفها المخادع من حلفائها في جيش لبنانالجنوبي، والنتيجة الأولى لذلك هي أن لبنان أصبح البلد الوحيد بين دول "الطوق" الذي تتطابق حدوده العسكرية مع حدوده السياسية والإدارية، كما أنه الوحيد بين تلك الدول الذي يحرر أرضه من دون اتفاق مباشر مع إسرائيل. انها الهزيمة التكتيكية الثانية لإسرائيل بعد أن لحقت بها هزيمة أخرى في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي أمام الانتفاضة الفلسطينية، لكنها كانت هزيمة سياسية شبه سلمية مختلطة بتشوه انساني لحق بصورة إسرائيل "المتحضرة" في العالم. والصفة التكتيكية للحالين نتجت عن أنهما لم تؤثرا على علاقات القوى في الشرق الأوسط. وعلى رغم العديد من عناصر التباين بين الحالين، إلا أنهما تشتركان في أن لكل منهما سمات تفرد وخصوصية غير مسبوقة، وفي ظني أيضاً أنه تجمع بينهما ستة عناصر أساسية مهمة هي: أولاً: أن إسرائيل في الحالين كانت تواجه شعاراً سياسياً تقوده مؤسسات شعبية ولدت خلال الصراع في غياب الدولة العربية بأشكالها المعاصرة. ثانياً: الحالان نجحتا في الحصول على الشرعية الاقليمية والدولية نسبياً، بل من بعض الأطراف الإسرائيلية. ثالثاً: كان اليمين الإسرائيلي هو المتسبب في نشوب الصراع، بينما قام اليسار الإسرائيلي تحت قيادة حزب العمل باتخاذ قرار التراجع. رابعاً: دور قوى السلام واليسار والرأي العام الإسرائيلي في الضغط حتى الوصول الى التراجع، وهذا العنصر بالذات أشبه بالشجرة المحرمة يفضل معظم العرب أن يأكل منها سراً لحساب الجردات السياسية. خامساً: ان الانتصارين حدثا بعد نهاية الحرب الباردة. سادساً: في الحالين انتهت مرحلة، وبدأت مرحلة جديدة، سواء في جوانب الصراع العربي الاسرائيلي، أو في التحول في التركيب السياسي لمجتمعات الجانبين. ويجب أن نلاحظ ان تلك الانتصارات الاستثنائية هي مجرد مراحل ضمن سياقات معقدة وصراعات اطول مدى، وهي بذلك لا تنطوي على ضمانات تجعلها ضمن متوالية ايجابية على الدوام، بل على الارجح ان هذا النوع من الهزائم لاسرائيل سرعان ما يتم استيعابه وتحويله الى مجرد تراجع موقف، ويبقى للعرب وبسبب ما يشبه التركيب الجنيني للعقل ما يجعل منهم سادة البدء من نقطة الصفر على الدوام، وإن كنت اعتقد ان نتائج الانتفاضة اختلفت نسبياً عن هذه القاعدة. وما يشغلنا هنا هو محاولة تقديم قراءة للوضع اللبناني، حتى تمكن تكملة هذا الانتصار عله يصل الى مداه، وهو ان يصبح دعماً للدولة اللبنانية المدنية الحديثة، وحقاً ومصلحة وواجباً في الوطن لكل المواطنين اللبنانيين من دون ظلم او استثناء: تخضع المجتمعات والدول طوال التاريخ من دون استثناء لجدلية بين الداخل والخارج، وتختلف نتائج تلك الجدلية باختلاف التوازن بين المؤثرات الداخلية والخارجية. وعلى سبيل المثال تختل تلك الجدلية لحساب المؤثرات الداخلية في حال الولاياتالمتحدة، وبذلك يؤثر النشاط الداخلي للمجتمع الاميركي على العالم كله تقريباً سلباً وايجاباً في الحقبة التاريخية الراهنة، لكن الخلل يصبح معكوساً لمصحلة المؤثر الخارجي الاقليمي والدولي في حالات مثل بولندا وقبرص ودول البلقان، ولا اعتقد ان بلداً خضع لتلك الجدلية، أكثر مما خضع لبنان، وكانت محصلات الحركة دائمآً في جغرافيا الاقليم السياسية والسكانية والمذهبية والاقتصادية والايديولوجية تنعكس على ترتيب وتركيب الداخل اللبناني لحساب تلك المؤثرات، ويعتقد الكثير من الباحثين طبقاً لنتائج مؤتمر كامبل بنزمان رئيس الوزراء البريطاني في 1907 ان الحضارات القديمة كلها انتهت عند ذلك القوس المفصل الشرق المتوسطي الذي يشمل فلسطينولبنان، وأهم ملامح تلك المؤثرات هي: اولاً: الهجرات الداخلية والخارجية التي شهدها المجتمع اللبناني حتى شملت اسرائيل اخيراً. ثانياً: التعدد العرقي والثقافي والمذهبي والطائفي الهائل على رغم مساحة لبنان الصغيرة 10452كلم مربعاً وتعداده السكاني المحدود. ثالثاً: ضعف الدولة والسلطة حتى درجة التلاشي احياناً. رابعاً: لا يعتبر الانسحاب الاسرائيلي الاخير حدثاً فريداً في تاريخ لبنان، فقد حدث مراراً من اطراف عدة، واحيانا اكثر من مرة لطرف واحد، بدءاً من العثمانيين مروراً بالفرنسيين والبريطانيين والاميركيين، وحلف "الناتو" ومنظمة التحرير الفلسطينية وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الاسد. ليس معنى ذلك ان الجيوش والديموغرافيا كانت هي وسائل الخلل، ولكن، كان الخلل احياناً وبشكل اخطر تقوم به الايديولوجيات والعقائد. خامساً: اصبحت الطائفة ارضاً وطبقة وتياراً سياسياًَ، وهذا الملمح هو سبب ونتيجة في آن واحد، وهو وضع دفاع عن الذات ايضاً، وليس معنى ذلك انه ملمح سلبي على الدوام فهو حال عقيمة ومتخلفة بالقياس الى مفاهيم الحضارة المعاصرة، ولكنه حال افضل بكثير عند القياس بنمط الدولة العربية المركزية المعاصرة ذات الاداء الاستبدادي والشرس، والتي انكفأت على فشلها وهزيمتها واصبح جل همها الحفاظ على استمرار الطاغية، عندما يصبح القياس في مجال الحرية الاجتماعية والسياسية، وحلول الطائفة محل مؤسسات المجتمع المدني وحماية الفرد وابداعه وحرياته والاقتراب من القانون المدني والعلمانية ومكانة المرأة، إنها النسبية المؤسفة خارج الاختيار ولكنها تقبل المقارنة. وقد تنازع لبنان منذ الحكم العثماني تياران فكريان احدهما التيار القومي العربي ذو الذهنية المنتمية الى القوميات في وسط اوروبا وعلى رأسها البسماركية والنازية، وكان رد فعل ضد العسف والانهيار الاقتصادي العثماني خلال المشاهد الأخيرة لآخر امبراطورية دينية في التاريخ، وكان مقلداً في الوقت نفسه للبعث القومي الطوراني والانقلابيين العسكريين في "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" وساهم لبنان بقدر وافر في هذا التيار والذي بدأ في مؤتمر باريس 1913. والتيار الثاني هو التيار التحديثي ذو الميول اللاتينية المباشرة، وليس معنى ذلك ان هذا التيار كان ديموقراطياً، بل إنه وجد الطريق الى الفاشية الاوروبية ايضاً في ايطاليا واسبانيا، وهكذا ارتفعت شعارات مثل "الله، الوطن، العائلة" ووضعت صورة العذراء على كعوب البنادق، لذلك لم تكن لدى العقل اللبناني حصانة ضد فيروسي الفاشية القومية العربية في طبعتها البعثية او الناصرية، إذ كان مريضاً بالداء نفسه فعلاً. بدأت علاقة لبنان بالصراع العربي - الاسرائيلي وبالقضية الفلسطينية في وقت مبكر قبل غالبية الاطراف العربية بحكم التداخل الجغرافي والديموغرافي مع فلسطين، وكان اول اجتماع للجنة السياسية الخاصة بفلسطين لمجلس الجامعة العربية في عاليه في لبنان في 27 تشرين الثاني نوفمبر 1947 ويبدو ان النخبة السياسية اللبنانية ادركت حجم الكارثة اثناء حرب 1948 فانسحبت القوات النظامية اللبنانية الى الحدود الدولية من حيث بدأت القتال، ووقعت اتفاقية الهدنة على الحدود عند رأس الناقورة في 23 اذار مارس 1949 ولكن علاقة لبنان بالصراع لم تنته عند هذا الحد، إذ كان للجغرافيا رأي آخر. كان التداخل التجاري عبر ميناء يافا بين لبنانوفلسطين هو احد الجوانب فقط، إذ كان الجنوباللبناني هو قوة العمل في الجليل الاعلى النشط اقتصادياً وصناعياً، والشيء نفسه في الملكيات الزراعية ووكالات الشحن والصيارفة، وعندما سقطت فلسطين بين انياب الصهيونية هاجرت قوة العمل المتداخلة الى الجنوباللبناني، وهكذا اصبح فقر الجنوب مزدوجاً من الفقر الاصلي اللبناني والفقر الوافد الفلسطيني، ومن ثم نشأت مخيمات الجنوب، ونشأت مشكلة الحرمان الجنوبي، وعندما صعد دور بيروت نتيجة مقاطعة موانئ فلسطين هاجرت قوة العمل المتداخلة اليها فنشأ حزام البؤس حول العاصمة اللبنانية، وحاول البعض، خصوصاً كميل شمعون تقسيم اللاجئين الفلسطينيين القسمة الطائفية اللبنانية نفسها متناسياً ان الانسان عندما يفقد الوطن يفقد ايضاً الطائفة، وعندما دارت عجلة الشر والدم في منتصف السبعينات سال دم الفلسطيني المسيحي في مخيم ضبية، كما سال دم الفلسطيني المسلم في تل الزعتر سواء بسواء، ولم يوفر الاثنان الدم الماروني في الدامور وهكذا طبقاً للسلسلة المعروفة. ومثلما ارتبط بدء الصراع العربي الاسرائيلي بصعود الفاشيات القومية - العسكرية، والعسكرية - الدينية ونهاية دور المجتمع الاهلي والشارع السياسي، انتهى ايضا الحظ الحسن للبنان، واصبح بمثابة "يوسف" في مواجهة اشقائه العرب عندما بدأ المجال العربي يزداد صراخاً وضراوة، وفي الخلفية منه الحرب العالمية الباردة، وعندما كان الشرق الاوسط يغلي تحول لبنان الى ما يشبه صفرة قِدر الطبخ بالبخار، وهكذا عرف لبنان الحرب الاهلية والتدخل الناصري والاميركي في 1958 في ظل الوحدة المصرية - السورية، وعرف صعود المكتب الثاني وحكم الجنرال فؤاد شهاب، وحروب الاجهزة والصحف والمخدرات والاغتيالات. وفي ظل الوحدة نفسها اذيب فرج الله الحلو الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني حياً في الاحماض في دمشق، ولان الشيء بالشيء يذكر فقد قتل سليم اللوزي بعد خطفه وبعد حرق يده التي يكتب بها في بداية الثمانينات، واغتيل كمال جنبلاط والرئيس رينيه معوض وغيرهم. غير ان اخطر الاعتداءات على سيادة لبنان - في اعتقادي - كانت اتفاقية القاهرة، بعد كارثة حزيران يونيو 1967 وبعد نزول عبدالناصر من "علياء" الشمولية القومية الى "درك" الشمولية الوطنية بقبوله القرار 242 ورفعه شعار "ازالة اثار العدوان" بدلا من "تحرير فلسطين" ثم قبوله مبادرة روجرز بعد ذلك. وعلى رغم كل ذلك وفي 1969 وقعت تلك الاتفاقية "السرية" الثلاثية، مثل مصر فيها وزير الخارجية محمود رياض ووزير الحربية محمد فوزي، ومثل لبنان "الصاغر" قائد الجيش اميل بستاني، ومثل منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وصلاح خلف ابو اياد وسمحت الاتفاقية بوجود فلسطيني مسلح في الجنوب، وكانت الاتفاقية نظرياً وعملياً تسقط اتفاق الهدنة وتجعل لبنان في حال حرب مع اسرائيل في الوقت الذي كان الجميع بدأ في الحديث عن حل سلمي، وهكذا وضع الاساس لجمهورية الفاكهاني حيّ في بيروت استقرت فيه ادارات منظمة التحرير الفلسطينية. وللانصاف ليس معنى ذلك ان القضية الفلسطينية لم تستفد من تلك الاوضاع، بل انني اعتقد ان البلورة السياسية والثقافية للهوية الفلسطينية تمت اولاً على ارض لبنان ثم اكملتها الانتفاضة، لكن الضريبة اللبنانية في مقابل ذلك كانت مرتفعة جداً لانه لم يشترك فيها طرف آخر، ولان "الحبل على الجرار" لم يتوقف الامر هنا، بل وصل عدد ما سمي بحركات التحرر في منطقة ابي الاسود في الجنوب الى ما يزيد عن 150 بدءاً من جبهة "تحرير كورسيكا" مروراً "بالساندينستا" في نيكاراغوا "وتحرير موزمبيق" وحتى "الألوية الحمراء" الايطالية و"الجيش الاحمر" الياباني "وبادر - ماينهوف"" الالمانية وجماعة كارلوس. وبعد خروج المقاومة حضر الحرس الثوري الايراني وحزب العمال الكردي، على أنه من الخطأ اعتبار ان لبنان كان مفعولاً به طوال الوقت، إذ كان بعض الاطراف اللبنانية من ذوي الذهنية الشمولية وما يزال يعتقد ان لبنان هو قربان لصحة تلك الذهنية. وعند تحليل اوضاع ما قبل الانسحاب الاسرائيلي الاخير نجد انه كان هناك استقطاب سوري - اسرائيلي على ارض لبنان من دون مشاركة مباشرة من اطراف اخرى، وكان ذلك نتيجة: أولاً: نهاية الحرب الباردة، ثانياً: دخول باقي دول "الطوق" الى مرحلة التسوية السلمية، ثالثاً: التغيير في موازين القوى الاقليمية ومنها العراق وتركيا وايران. وهكذا يمكن القول إن المجال الاقليمي والدولي طرأ عليه انخفاض كبير في مستوى الحدة. وفي ضوء ذلك يمكن مناقشة نتائج الانسحاب الاسرائيلي، إذ أنه اغلق مرحلة الاستقطاب السوري - الاسرائيلي على ارض لبنان. وبما اننا على مشارف مرحلة اخرى مختلفة، فلا بد من تقويم لما سبق. واعترف انني ممن لم يستوعبوا مفهوم "وحدة المسارين". فمن الناحية السياسية البحتة لا يمكن ربط صراع استراتيجي في الجولان بمصير صراع تكتيكي في جنوبلبنان، أي انه لا يمكن لصراع مسلح في ميدان، بحجم قوى وارض كجنوبلبنان ان يؤثر في صراع بحجم وقوة سورية واسرائيل، ومن هنا تولّد ما اعتقد انه ارتباك سياسي في موقف المفاوض السوري، وفي اعتقادي انه ترك آثاراً سلبية حادة على هذا الموقف، وأظهر لبنان وكأنه رهينة للجولان، وكان ذلك حلقة اساسية شديدة الضعف في هذا الموقف. وفي اعتقادي ان احد اهداف الانسحاب من دون ان ينال ذلك من الاسباب الاخرى هو استغلال ذلك الخطأ، لان الانسحاب جعل القوات السورية في لبنان رهينة لهدوء الجنوب، ومن الانصاف القول انها تقاتل خارج ارضها، والذكرى المؤلمة للصراع السوري - الاسرائيلي المسلح في الايام الاولى لغزو لبنان في 1982، يومها سقط ما يزيد عن تسعين طائرة سورية خلال خمسة ايام وانسحب لواء المشاة السوري المدافع عن بيروت بقيادة اللواء الراحل محمد حلال مع قوات المقاومة الفلسطينية تحت الشروط الاسرائيلية، على رغم ان اسرائيل كانت احد الاطراف التي وافقت على مهمة قوات الردع. وقاد ذلك الخطأ الاساسي الى غزارة في التصريحات السورية ومن خلفها التصريحات الايرانية عن الشك في النيات الاسرائيلية من وراء الانسحاب، وكان ذلك هو منطق بداية التفاوض في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكان الكثير تغير من يومها وكان من الواضح ان الخطأ الأول اخذ يتوالد، إذ أن السياسات الاسرائيلية عملت على تقوية علاقتها مع الاعضاء الخمسة في مجلس الامن، وكلنا يذكر تصريحات ليونيل جوسبان عن الجنوب والمقاومة، والزيارات الاسرائيلية المتكررة منذ نتانياهو لروسيا، والتعاون الفني معها في مجال التسليح والعمل ضد الارهاب الديني في وسط آسيا. وغني عن التعريف التعاون شبه الاستراتيجي مع الصين، وهكذا عندما خرجت الحكومة السورية من النفق وجدت نفسها وجهاً لوجه مع مجلس الامن وليس مع اسرائيل، واسقط في يدها واضطرت لقبول تقرير الامين العام للامم المتحدة الموجّه في 22 ايار مايو الى مجلس الامن في الوقت الذي كانت اسرائيل نفذت ما فيه. وهكذا صنعت اسرائيل لنفسها غطاء شرعياً للعمليات المقبلة في حال توتير الجنوب، وثمة عامل آخر مهم هو ان اسرائيل استوعبت الخبرات الناتجة عن عمليات "الناتو" فوق يوغوسلافيا، وكيف ان سلاح الطيران يمكنه مع الاستعانة بالتكنولوجيا المتقدمة في مجال التوجيه والاتصالات ان يقوم بعمليات كاملة مع اسناد ارضي معلوماتي ضعيف، وهو ما يبدو في نمط العمليات المقبلة لاسرائيل. كان احد التنويعات على ذلك الخطأ هو ان تصعيد عمليات "حزب الله" في الجنوب اثناء انتخابات 1996 في اسرائيل والذي ترافق مع عمليات "حماس" و"الجهاد" في الداخل ثم هدوء كل ذلك خلال انتخابات 1999 ترك شبهة ان سورية وايران يريدان لليمين الاسرائيلي ان ينجح وانهما لا يريدان السلام، وهو ما جعل البعض يقول ان سورية، تريد لبنان ولا تريد الجولان،وكان ذلك ظلماً فادحاً للحكومة السورية نتج عن الخطأ الأول وتنويعاته، بالاضافة الى ادارة التفاوض بعقلية كلاسيكية تنتمي الى حقبة حرب فيتنام. وفي اعتقادي، وأرجو أن أكون مخطئاً أن المشروع السياسي للمفاوض السوري يحتاج إلى مراجعة وإعادة تأهيل. وعلينا أن نقر أن معظم التغييرات الاقليمية في الشرق الأوسط صبت في مصلحة إسرائيل، وعلى رأسها عزل العراق والتطورات في إيران في اتجاه الديموقراطية والانفتاح على الغرب، ثم التحالف التركي - الإسرائيلي. وخلال سنوات قليلة ستصبح حدود الاتحاد الأوروبي بعد حدود "الناتو" على حدود سورية، كما أن اسئلة الهوية لم تعد الإجابة عليها مهمة في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات والعولمة وتحرير السوق والتطور التكنولوجي الهائل والسيادة الإنسانية ومشروع ولادة عدالة عالمية ومجتمع مدني عالمي، كما أن بقايا البربريات الايديولوجية مثل القومية العربية والإسلام السياسي لم تعد قادرة حتى على مجرد الحضور سواء في الفكر أو في الواقع، وكل ذلك لا بد أن يوضع في الحسبان عند وضع أي مشروع سياسي لحل الصراع أو للتعاون في مرحلة السلام والتعاون الاقليمي، وهو ما تحمل سورية الرسمية إزاءه مسؤولية كبرى بحكم صلاحية المجتمع السوري لاستيعاب ذلك، وهو أحد المجتمعات العربية النادرة القادرة على استقبال الحداثة والتي تخلصت من مرحلة العقل الديني. لم يفلت لبنان الرسمي من الارتباك السياسي، وبناء على ذلك كانت المطالبة في البداية بالانسحاب طبقاً للقرار 425 ثم أصبح مطالبة بالانسحاب طبقاً لاتفاق، وخلال ذلك كان الحديث الشائع هو "تلازم المسارين"، وأنه "لا توجد ضمانات ضد استمرار المقاومة"، و"ارتباط قضية اللاجئين الفلسطينيين بالانسحاب"، وأن "الجيش اللبناني لن يصبح الحارس لأمن إسرائيل"، ولم يعدم الأمر أن يبرر البعض كالعادة أن ذلك لمصلحة لبنان، ومن دون أن يذكر أحد ماذا بعد الانسحاب؟ وماذا عن أمن الجنوب والمخاوف المسيحية والفلسطينية وارتباط الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والطرق والاتصالات وقوة العمل والمحروقات في إسرائيل؟ ثم الحجم الضخم للعائدين، وكأن الدولة هي جهاز دعاية، وكأن الانسحاب لن يحدث، وعندما حدثت التجاوزات وتفجير الأبواب ونهب المنازل وتصفية الحسابات، وهجرة سبعة آلاف لبناني إلى "مخيمات" حول بحيرة طبريا بتصاريح سفر سياحية. قام المسؤولون بزيارة بعض قرى الجنوب المسيحية لطمأنة أهلها، والأنكى أن التجاوزات حدثت بعد ذلك، وتم إرسال رجال الأمن الداخلي المسلحين بأسلحة شخصية تجعل لا حول لهم ولا قوة حتى أنهم رفضوا تحرير شكوى لمواطن تم الاعتداء عليه من قرية الطيبة واسمه عباس سلطان في 28 آيار مايو الماضي وفي اعتقادي أن غلبة الإحساس بالمسؤولية على زعامات حزب الله قللت إلى حد كبير من نتائج غياب الدولة، إن الدولة اللبنانية تتصرف وكأنها قيد البحث، فلا غرابة إذاً إذا تصرف البعض وكأنهم يعيشون في وطن قيد البحث. لا أحد يمكنه أن ينفي أن لبنان بدا كأنه رهينة للجولان نتيجة خطأ سياسي، وبدا أيضاً كأنه رهينة لطائفة، عبر تنظيم سياسي عسكري حسن التنظيم نجح في تحقيق أهدافه الوطنية ببراعة، وببذل دماء، وقيود على الحياة، وأعاد الجنوب الى الوطن. وأجد نفسي معجباً بالحنكة السياسية لقادة حزب الله وانضباطية هياكله غير المعهودة عربياً، كما أنه إسلام سياسي من نوع مختلف عن ذلك الذائع الصيت والذي عرفه لبنان في تلال الضنية في طرابلس، لكن معنى كل ذلك مشروط بعدم التقدم خطوة واحدة بعد، ولا بد من تحول كامل إلى العمل السياسي البحت. فهو ما يخدم الجنوب والدولة والوطن. الطائفة لم تنتصر، لأن الطوائف لا تنتصر، الوطن هو الذي ينتصر. ولقد بدأت محنة الجنوب بمؤثرات بعضها خارجي، لكن بعضها أيضاً محلي، إذ بدأت بالإهمال والحرمان ثم الخضوع لنوع من الإقطاع العائلي السياسي مدعوماً بالقوانين العسكرية. وها هي الأزمة يُعاد إنتاجها ثانية، هذه المرة بالخضوع لإقطاع سياسي مسلح لديه محاكم وسجون خارج الشرعية، مع بقاء الإهمال والحرمان على ما هو عليه. إن السلاح لن يلغي الإهمال والحرمان، لأن اختزال جماعة بشرية طبقية أو طائفية أو عرقية إلى فكرة واحدة مسلحة هي عملية فاشية بامتياز، وهي أيضاً عمل ضد المجتمع والدولة وعودة الى الهمجية من أوسع الأبواب، ورأس الذئب الطائر في الحرب الأهلية اللبنانية. وفي أفغانستان وإيران ويوغوسلافيا ومن قبلهم تجارب التحرر الوطني الفاشلة ابلغ الأمثلة على ذلك. عندما ذهب وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي إلى الجنوب كي ينظر عبر الحدود، لم يكن ذلك عملاً ديبلوماسياً بقدر ما كان رسالة عبر الاسلاك الشائكة الى اسرائيل، لكنها كانت رسالة فات أوانها لان السلام والايديولوجيا لا يكفيان الآن للوصول الى اهداف حقيقية وفي اكثر الاحوال لم يوصلا إلا إلى الفوضى. ان الرايات الايرانية يمكن ان ترتفع على ضفاف المتوسط وعلى اكثر من شاطئ عبر التطور الايراني في اتجاه الديموقراطية والحداثة. وفي ذلك السياق اجد نفسي مختلفاً مع تصريح وزير الخارجية فاروق الشرع في 26 آيار مايو "أنه لا يجب نزع سلاح حزب الله لانه ورقة سياسية مهمة في السياسة الداخلية اللبنانية". مرة ثانية يمكن ان لا تؤدي النيات الطيبة عملها، وبدلاً من ذلك تصبح وكأنها دعوة لكل الاطراف الى ان تتسلح، "إن السمك يجلب القطط". إحدى نتائج الانسحاب هو عودة لبنان الى المجتمع الدولي والشرعية الدولية، وكان ابتعاده نتيجة للخطأ السياسي آنف الذكر، وهذه العودة هي بالتأكيد كسب يستحق الحفاظ عليه، وفي ذلك السياق اجد ان التصريحات السياسية لقادة حزب الله، والقيادات الفلسطينية الموالية لمنظمة التحرير وحركة "فتح" اتسمت كلها بالايجابية والمسؤولية، واعتقد انه خطأ سياسي فادح ان يستأنف اي طرف العمل المسلح في الجنوب. يحتاج لبنان الآن الى التسامح اكثر من اي وقت مضى، لكن التسامح لابد ان يتأسس على المصارحة والمصالحة، وليس على النسيان الذي يستيقظ وقت تصفية الحسابات. وكشفت مشكلة مزارع "شبعا" عن مشكلة اخرى لا بد ان توضع في الحسبان مستقبلاً، وهي ضرورة ترسيم الحدود بين سورية ولبنان، وهذه المزارع تملكها عائلات لبنانية، وساعد المناخ قبل حرب حزيران يونيو ان تصبح منطقة انتشار للقوات السورية، وهكذا اسقطت في ايدي اسرائيل. ومع عدم وضوح الحدود حدثت البلبلة، حيث ان المزارع في منطقة الحدود الثلاثية المشتركة، وانعكست البلبلة بالطبع على خرائط سورية ولبنان ومجلس الامن، واعتقد ان الموقف السوري الاخير هو موقف واقعي وعادل حينما اعترف بالملكية اللبنانية وفي الوقت نفسه يعتمد على العمل الديبلوماسي المشترك في ظل اي من القرارين 425 او 242 في عودتها. تصريحات بعض الاطراف اللبنانية مسيئة للوجود الفلسطيني في لبنان، والبعض الآخر الذي يريد ان يحولهم الى اداة سياسية. ان هناك من يحاول ان يراهن على الشر بفتح "صندوق بندورا" وذلك يخدش الوجه الانساني للبنان، فهذا الوجود لن تحله دولة او دول عربية عدة، وهو يحتاج الى حل اقليمي ودولي يبدأ من نتائج مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين واسرائيل، وغني عن التعريف ان المخيمات الفلسطينية هي جسد القضية الاصلي، وانها لم تكن خياراً فلسطينياً، وانها تظل جريمة الفاشية العربية وطريقة ادارتها للصراع، ونتيجة تحالفها الموضوعي غير المباشر مع قوى التوسع والعنصرية الصهيونية. إن الحزن والقلق يغرقاني عندما اتذكر ما يحدث لهم من تمييز واضطهاد وحرمان على ارض لبنان، ان احد اهم اختبارات المستقبل اللبناني هو ابتكار حل يوقف ذلك ولا يؤسس للتوطين في الوقت ذاته. واللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها لبنان تحمل العديد من الاحتمالات، لكن اهم احتمالاتها هو ان في امكانه التحرر للمرة الاولى من جدلية الداخل والخارج الشديدة الوطأة، فالمجال العربي الذي انهار تقريباً، والانظمة التي تتحرش بجيرانها تزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، والانظمة العسكرية - القومية والعسكرية - الدينية على النمط الناصري تمضغ بؤسها وفشلها، ولم يعد يشغلها سوى بقائها والمتغيرات المتسارعة في العالم يمكن ان تخدم من يبغي الحداثة والحرية والسلام عندها يتحول الموزاييك اللبناني من الثقافات والاعراق والعقائد الى ميزة وثراء. وفي امكان لبنان ان يساهم في السلام الشامل والعادل عبر تفاوض حول اتفاق سلام لبناني - اسرائيلي متكافئ يصبح رصيداً تفاوضياً حاسماً للمفاوض السوري يكسبه دعماً في كل الساحات ويساعد بفاعلية في اعمار الجنوبولبنان. كل ما سبق هو مجرد رأي يخطئ ويصيب في محاولة لتحديد الطريق الى الانتصار الكامل للشعب اللبناني بتأسيس دولة مدنية حديثة، والذي اعتقد انه اكثر الشعوب العربية تميزاً بالحيوية وحباً للحياة، وهو اقدرها - حالياً - على بناء تلك الدولة وان بدا الطريق صعباً. وقد قلت مراراً ان لبنان هو بلد الكتاب والتفاحة والبنك والسياحة والصحافة والفن والحرية السياسية والاجتماعية والمجتمع المدني تشهر الجمعيات الاهلية بمجرد احاطة السلطات بالعلم وبالاضافة الى كل ذلك خبر كل انواع الالم وحاز قطعة جميلة من الكوكب الارضي، وكلها عناصر يمكن ان تبني دولة قادرة على التعاون والمنافسة في اقليم جديد مقبل لا شك فيه. * كاتب مصري.